سيميائية الأهواء في مجموعة (عشب مبتل) للقاص أحمد البياتي

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

اشتغل السيميائيون مدة طويلة على العمل دون الاهتمام بحالة النفس الإنسانية, وخلال العقود الأخيرة أصبحوا يولون أهمية لمعنى الهوى أو للحالة النفسية, وإذا كانت سيميائية العمل قد بلورت على مر السنين عدة أدوات مفاهيمية وراكمت تراكمات نظرية وتطبيقية كثيرة فان سيميائية الأهواء على الرغم ما قطعته من أشواط  ما زالت تسعى إلى تعزيز مكانتها داخل النظرية السيميائية العامة وتحصين تراكماتها ونتائجها للتدليل على استقلالية البعد الانفعالي على المستوى النظري والتطبيقي على حد سواء [1],فقد أعطت سيميائية العمل أهمية كبيرة للتحول والعامل ,ولم تول ادني اهتمام للحالة, وتعد حالة الذات الفاعلة إما بداية أو نهاية له, وتوجد داخل النظرية السيميائية حالتان حالة الأشياء والحالة النفسية وتدغم الحالتان معا في إطار البعد السيميائي للوجود المتجانس وهو ما يجعل العالم حالة للأشياء يفعل ويؤثر في الحالة النفسية للذات [2], وهذا ما وجدناه عن القاص المبدع احمد البياتي في مقدمة مجموعته القصصية (عشب مبتل) فنراه يقول: فقد يقوم الراوي باستحضار مشهد من ذاكرته يرويه بزمن المضارع لدلالة هذا المشهد في حياته ولعدم قابيلته للانمحاء من ذاكرته, أو ربما قد يستعمل الراوي الزمن المضارع لسرد حدث يتكرر على الدوام , وهنا يحل المضارع محل التكرار بحيث يكون المشهد حاضرا دائما أمام القارئ , إذ ليس من السهل مكاشفة الذات بما تعاني من أوضاع سلبية ولاسيما على الصعيد النفسي أو المعنوي نتيجة ضغوط خارجية قاهرة تحيط بها وتهمش الجانب الايجابي من ذلك الصعيد الذي يمثل جانبا مهما من تشكيل الذات ووجودها [3],فهناك فاصل بين الهوى باعتباره تجاوزا للحدود العتبات الثقافية وبين المشاعر التي تشير إلى حالات اعتدال تفرضها ثقافة ما وتحتكم إليها من أجل قياس حجمها وتصنيفها, فالحكم لا ينصب على كينونة المشاعر في ذاتها، بل على الفائض الانفعالي الذي يحول المشاعر إلى هوى , وقد أكد كريماس في كتابه على نسبية الأهواء بين الثقافات لذلك فإنه سيعتمد في دراسته للأهواء باعتبارها مدونة هووية تكشف عن التمفصلات الكبرى لصنافة ممتدة في ثقافة بأكملها واعتبر الأهواء صنافات إيحائية بمعنى أن لكل هوى استعمالات مخصوصة داخل دائرة ثقافية بعينها فما يعد بخلا في هذه الثقافة يعد ادخارا في ثقافة أخرى,ما هو أساسي، عند كريماس، في دراسة الهوى ليس هو التعرف على العلاقات الدالة على الأهواء ، بل الاهتمام بآثارها المعنوية كما تتحقق في الخطاب لأن هدف الكتاب كما يقول سعيد بنكراد: ليس تقديم صنافة شاملة ممتدة لسلسلة من الأهواء كما يفعل ذلك الفلاسفة ,وعلماء النفس وغيرهم ، ولا يتعلق الأمر بإصدار جملة من الأحكام الاجتماعية والأخلاقية التي تدين هذا الهوى أو ذاك، بل إن هوى السيميائيات هو هوى تركيبي دلالي لا يلتفت إلا للممكنات الكامنة التي يمكن أن تتجسد من خلال وجود الأدنى كما تتحقق في القواميس,يتعلق الأمر إذن، في سيميائيات الأهواء، بدراسة الهوى باعتباره سابقا عن الممكنات الدلالية المستثمرة، فهو من حيث الطبيعة وممكنات التركيب يعد سلسلة من الحالات الانفعالية التي تتطور خارج البعدين المعرفي والتداولي المكونين الرئيسين في النص السردي، إنه يشكل مسارا جديدا يطلق عليه المؤلفان البعد الانفعالي[4],ونجد ذلك واضحا في المجموعة القصصية (عشب مبتل) للقاص المتألق احمد البياتي فنراه يقول: يعود الصمت من جديد, أصوات صراخ , وقع إقدام, جلجلة: – كأنك في عصر غير عصرك , خاضعا ومستسلما , لا تمتلك الجرأة على التخلص من أفكارك الصماء , العمياء, روحك تحاول بكل قسوة ووحشية أن تبعد عنك الإحساس بهذا العالم الجميل [5],استطاع القاص البياتي تصوير الأهواء النفسية في اشد الظروف التي مرت بها ذاته المتشظية , وهو يصور لنا مأساة الزمن الماضي عبر قدرته التصويرية , والفنية , ويجعلنا نشاركه الأحداث وكأننا نعيش معه في نفس اللحظة, الحدث, والزمن, إن ظهور الأهواء والعواطف الإنسانية في فضاء الصرح السيميائي قد أعاد مباشرة الاهتمام إلى الحياة الداخلية للذات بعد ما ثم استبعادها تحت إكراهات الخلفية البنيوية,لذلك فقد فرضت مقاربة هذا البعد من الناحية الإجرائية تشكيل مفهومية خاصة، وقد أثمرت بالفعل الطاقة التنظيرية التي يتمتع بها الباحثان مفاهيم تتميز بغنى حمولتها الدلالية والمعرفية ,ومن أهم المفاهيم التي تحدث عنها الباحثان:الاستهواء هو المادة التي تتشكل منها الأهواء فبدون استهواء لا يمكن الحديث عن الأهواء،وهو القوة الانفعالية الكامنة التي يستند إليها خطاب الأهواء لرسم عوالمه بمعنى أنه الصيغة الأولى للكينونة فالذات العارفة قبل أن تحدد لنفسها مسارا يسميه المؤلفان التجسيد فإنها لم تكن سوى شبه ذات أي ما يمكن أن يخبر عن أي إحساس سابق عن أي تمفصل وهو ما يسميه المؤلفان الاستهواء , فنراه يقول: – صعد محمود الى داخل السيارة وجلس على المقعد الأمامي بجانب السائق الملتحي , دار حديث ساخن بينهما , تشعب واخذ مديات ومناح أخرى , قيادة السائق جلبت انتباه محمود لبثا لفترة يتأمل احدهما الآخر, طوال الطريق يجاهد لإخفاء خوفه المشحون بالترقب ثمة أمر اثأر دهشته واغترابه لم يكن يتوقعه لم يخطر بباله مطلقا أن يكون السائق انتحاريا اكتشف ذلك من خلال حديثه معه [6],في هذه القصة الواقعية  التي استطاع الراوي أن يطبق نظرية الاستهواء في تعاطف الناس مع محمود الذي فقد حياته  نتيجة الإرهاب, والمعارك الدامية , مستوحاة من فينومينولوجيا وترتبط في هذا المجال بالقصدية وتدل على قدرة الذهن على التوجه نحو الموضوع واستهدافه، وهذا ما يعنيه التوتير في حقل سيميائيات الأهواء، إنه استهداف للكتلة الانفعالية والدفع بها إلى التجسيد في حقل التوترات المرئية، وهذه التوترات هي البدايات الأولى التي تقوم عليها أشكال التركيب المسؤولة عن تشكل الأهواء في انفصال عن الاستهواء واستنادا إليها في الوقت ذاته, والتوتير هو الممر الضروري لولادة التكييفات  وهي الصيغ الأساسية التي تحدد علاقة الذات بعالمها,المصيري وهو الحاصل من  التوترات التي يأتي بها الانشطار ألاستهوائي الذي يقود إلى خلق حالة لا توازن تمهد الطريق إلى بروز الدلالة، بمعنى أنه انتقال من حالة إلى أخرى وهو مبدأ مدرج ضمن كل مظاهر الوجود النظير هو مصطلح مستعار من الكيمياء حيث يعين عدد الذرات المضافة إلى تركية الجسم. لكنها تدل في سيميائيات الأهواء على المحددات الانفعالية التي تفرض على الموضوع، وبعبارة أخرى إنها تعني أن القيمة التي تمنح في حالة الهوى إلى الموضوع لا تحدد من خلال بعدها النفعي بل من خلال ظلال دلالية أخرى من طبيعة انفعالية.

[1] ينظر سيمائية الأهواء : محمد الداهي :213.

[2] ينظر سيملئية الكلام الروائي : محمد الداهي : 17.

[3] عشب مبتل : احمد البياتي :7.

[4] ينظر سيميائية الأهواء : مريم اجرعام , كاتبة مغربية , موقع ديوان العرب.

[5] عشب مبتل : 18 .

[6] م0ن :75.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى