الخلافة والخليفة والخلفاء
هاني المصري
أعادت الشائعات والأقاويل حول صحة الرئيس محمود عباس، التي تبيّن أنها غير حقيقية، ملف الخلافة إلى الواجهة مجددًا، مع أن لا دخان من دون نار؛ إذ أشارت مصادر متعددة إلى أن الرئيس و/أو عددًا كبيرًا من أبرز مساعديه الكبار، على الأقل، أصيبوا بفيروس كورونا، وما كان لهذه الشائعات أن تجد كل هذا الاهتمام لولا استخدامها في صراع الخلافة، وتخويف الناس من عدم حسمها، ولو توفرت الشفافية والعلنية في عمل السلطة ورئيسها، عبر إصدار تقارير منتظمة عن صحة الرئيس عبر طبيبه الخاص أو الناطق باسمه، (كما حصل في العديد من البلدان التي أصيب فيها رؤساؤها بالكورونا)؛ حيث لم يتحدث أيٍ منهما طوال مدة انتشار الشائعات. كما لم يظهر الرئيس بلحمه وشحمه تلفزيونيًا أمام الناس إلا بعد مرور أيام عدة على انتشار الشائعات.
ووجدت الشائعات اهتمامًا كبيرًا؛ في ظل استمرار عدم حسم مسألة الخلافة، سواء لجهة الشخص أو الأشخاص الذين يمكن أن يخلفوا الرئيس، فهي باتت مسألة غامضة جدًا، بعد قيام الرئيس بحل المجلس التشريعي، وبالتالي في حال شغور منصب الرئيس بسبب الاستقالة أو الاعتزال أو المرض أو الموت، لا توجد آلية انتقال متفقًا عليها، فليس صحيحًا أن المجلس المركزي يمكن أن يحل هذا بصورة تلقائية، فهو غير منتخب ومختلف عليه، وشاب عقد جلسته الأخيرة عوار سياسي وقانوني؛ ما يعني أن هذه المسألة إذا لم تُحسم خلال رئاسة الرئيس، يمكن أن يحل محله نائب رئيس “فتح”، أو نائب الرئيس إذ عين شخصًا قبل رحيله، أو شخص غيره، أو – وهذا هو الطبيعي والمطلوب – إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، أو تشريعية وانتخاب رئيس للمجلس التشريعي يحل محل الرئيس في حال شغور منصبه، أو توفر اتفاق داخل حركة فتح والسلطة والمنظمة، أو داخل الصف الوطني العام على كيفية التصرف في المرحلة الانتقالية .
إن غموض أمر الخليفة والخلافة والخلفاء، أعطى قوةً إضافية للرئيس محمود عباس، ساهمت في إطالة عهده، محليًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا وإسرائيليًا، فلو عُرِف من سيخلفه فهذا سيخفف من تداعيات غيابه، وقد يعجل به، ولكن الخشية من المجهول، ومما يحدث؛ ما جعل اللاعبين على اختلاف أنواعهم ومصالحهم ومعسكراتهم يتمسكون باستمرار الرئيس؛ حفاظًا على الاستقرار، وخشية من الفوضى والانهيار والاقتتال والفلتان الأمني، الذي يمكن أن يحدث بسبب وجود عدد من المتنافسين على الخلافة، من دون أفق سياسي ومشروع وطني متفق عليه، وعدم وجود شخص أو أشخاص أو معسكر يملك القوة الكافية لحسم هذه المسألة بشكل مضمون، أو حتى شبه مضمون.
خلافة معقّدة
هناك عوامل عدة تزيد مسألة الخلافة تعقيدًا على تعقيدها، ومنها:
أولًا: وجود الانقسام الفلسطيني الذي تمر ذكراه المشؤومة (الخامسة عشرة) في هذه الأيام، ويسير نحو التعمق؛ ما يجعل أمر حسم الخليفة أو الخلفاء أمرًا محفوفًا بالمخاطر، فحركة حماس المسيطرة بشكل انفرادي على قطاع غزة يمكن أن تثير في حالة شغور منصب الرئيس أن رئيس المجلس التشريعي الذي لا تعترف بحله يجب أن يترأس السلطة لمدة ستين يومًا، يتم في نهايتها إجراء انتخابات رئاسية، تمامًا كما جرى بعد اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، ولكن حينها توفّر توافق، محلي إسرائيلي عربي دولي، على تولي محمود عباس سدة الرئاسة؛ كونه يضمن الاستمرارية، ويفتح النافذة لاستئناف العملية السياسية، وخصوصًا أنه يعتمد خط مرن وأكثر اعتدالًا من سلفه، لا سيما بعد عودة عرفات إلى خيار المقاومة إثر فشل قمة كامب ديفيد، واندلاع الانتفاضة الثانية.
ثانيًا: إن سيناريو إجراء الانتخابات لانتخاب رئيس جديد غير مطروح جديًا، ولن يُطرح ويتحقق إلا إذا تولد ضغط سياسي جماهيري فلسطيني، ويجد دعمًا إقليميًا ودوليًا، خشية من خسارة مرشح حركة فتح، لا سيما في ظل الانقسام، وتراجع شعبية حركة فتح، وعدم وجود مرشح من “فتح” أو محسوب عليها، باستثناء مروان البرغوثي الرازح وراء القضبان، القادر على الفوز في الانتخابات، وغير المعتمد من اللجنة المركزية، كما تشير كل الاستطلاعات منذ سنوات طويلة؛ ما يجعل مرشحًا حمساويًا أو مدعومًا من “حماس” له فرصة كبيرة بالفوز، ما سيقلب – إن حدث – قواعد اللعبة بشكل كامل.
وفي هذا السياق، يمكن تفسير لماذا أُلغيت الانتخابات التشريعية والرئاسية التي كانت مقررة في العام الماضي بقرار فلسطيني مدعوم، أو حتى موحى به من اللاعبين الفاعلين في المنطقة، أو من اللاعبَيْن الأميركي والإسرائيلي؛ ما يجعل عدم عقد الانتخابات في القريب العاجل في حال شغور منصب الرئيس سيناريو مرجحًا، ويمكن استخدام نفس السبب، وهو قيام الاحتلال بمنع إجراء الانتخابات في القدس.
البقاء وإقصاء الخلفاء المحتملين
بَرَعَ الرئيس عباس، الذي انتهت ولايته قبل 13 عامًا، وولاية المجلس التشريعي قبل 12 عامًا، في ترسيخ بقائه على الرغم من كل العواصف العاتية، وفي قطع الطريق على الخلفاء، بدءًا بإبعاد أحمد قريع منذ البداية، ومرورًا بفصل محمد دحلان، وإبعاد سلام فياض، ورامي الحمد الله، وتعيين محمود العالول نائبًا له بدلًا من جبريل الرجوب، وانتهاء بإضعاف مروان البرغوثي، وفصل ناصر القدوة.
ولكن الرئيس، غيّر من سياسته في الآونة الأخيرة، وأخذ يعد الأمر لخليفته بسبب تقدمه في السن، والمتاعب الصحية، وفي ظل انسداد الأفق السياسي بالكامل، وجراء نصائح وضغوط متنوعة محلية وخارجية ، وذلك لضمان الاستقرار، واستمرار نهجه بعد رحيله أو اعتزاله، كما يظهر ذلك واضحًا في تشكيل المحكمة الدستورية المعدّة لتقديم تسويغ قانوني لأي قرار سياسي، كما فعلت بخصوص حل المجلس التشريعي، وفي عقد المجلس المركزي لمنظمة التحرير، وتفويضه بصلاحيات المجلس الوطني، وبصلاحيات تشريعية، وإعداده ليحل محل المجلس التشريعي؛ إذ يمكن أن يقال وقد بدأنا بسماع ذلك إن البديل عن المنظمة الذي كان يتصور أنه سيأتي من خارجها، يتحقق من خلال ابنتها (السلطة)، التي تضخم دورها منذ ولادتها على حساب المنظمة التي تقزم دورها، وتكاد السلطة أن تستكمل الاستعداد للحلول محل المنظمة “بشكل ثوري”؛ حيث يجري الحديث تارة عن تحويل السلطة إلى دولة، أو حلها وجعل المنظمة بديلًا منها، في حين أن ما يجري عمليًا هو استكمال مسيرة السلطة لتحل بالكامل محل المنظمة، والقفز عن واقع أن المنظمة تمثل الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، وأن الدولة الفلسطينية القائمة بحكم الحق الطبيعي والاعتراف القانوني الأممي لا تستطيع أن تحل محل المنظمة؛ لأنها بلا سيادة، وتحت الاحتلال، وتعاني من الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسسي.
أشعل الشروع في إعداد الطريق للخليفة حمى المنافسة، بصورة غير مسبوقة، خصوصًا بعد انتخابات أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة، ورئيس وهيئة رئاسة المجلس الوطني، وبعد تعيين حسين الشيخ بقرار رئاسي قائمًا بأعمال أمين سر اللجنة التنفيذية عبر تفويضه بمهمات أمين السر؛ إذ إن تعيينه أمينًا للسر بحاجة، وفق النظام الأساسي للمنظمة، إلى انتخابه من قبل اللجنة التنفيذية التي لم تجتمع منذ انتخابها في شهر شباط الماضي سوى مرة واحدة، وهذا التدرّج يدل على أن المسألة تواجه معارضة فتحاوية شديدة.
مؤتمر “فتح” … ساحة للتنافس والصراع
يظهر التنافس الشديد إلى حد الصراع على الخلافة والخليفة والخلفاء والحكومة في أجلى صوره في الحديث المتكرر عن فشل الحكومة، وضرورة تغييرها، ويزيد من أهمية هذا الأمر أن رئيس الحكومة، أيًا كان، سيلعب دورًا مهمًا في مسألة الخلافة إذا تمت أثناء توليه المنصب، على الرغم من أنّ الحكم في السلطة عاد، عمليًا، في عهد الرئيس عباس رئاسيًا، والحكومة مجرد تعبير عن إرادة الرئيس في الحكم، ومن دون دور مستقل كما يتضمن القانون الأساسي للسلطة.
كما يظهر التنافس والصراع في تأجيل عقد المؤتمر الثامن لحركة فتح؛ إذ كان من المقرر عقده في شهر آذار الماضي، وتم تأجيل الموعد إلى شهر أيار، ومضى الموعد من دون تحديد موعد جديد، وسط تقديرات أقرب للتكهنات منها إلى القرارات بأن يعقد قبل نهاية هذا العام، وهذا يتوقف على توفر إمكانية تحقيق المطلوب من المؤتمر.
وما يحول دون عقد المؤتمر عدم الاتفاق على مخرجاته، وخصوصًا من سينتخب نائبًا لرئيس حركة فتح؛ حيث يتنافس على المنصب كلٌ من محمود العالول وجبريل الرجوب، وهذا الأمر في الأصل لم يحسم في المؤتمر السابق، وحل الأمر حينها مؤقتًا عبر اتفاق المداورة على منصب نائب رئيس “فتح”، ولم ينفذ الاتفاق، وبقي التنافس مفتوحًا، وهذه نقطة في منتهى الأهمية؛ لأن نائب رئيس “فتح” سيكون منافسًا قويًا على خلافة الرئيس في رئاسة “فتح” والسلطة والمنظمة.
وهناك مسألة أخرى مختلف عليها، وهي من سيضاف إلى عضوية اللجنة المركزية، ومن سيخرج منها، وأبرز المرشحين للإضافة ماجد فرج، الذي لم تنجح محاولات الرئيس بتعيينه عضوًا في اللجنة المركزية منذ انعقاد المؤتمر السابع وحتى الآن، ضمن الكوتا التي يسمح به النظام الداخلي في حركة فتح بتعيين ثلاثة أعضاء في اللجنة المركزية من دون انتخاب، فهناك معارضة لدخول فرج إلى المركزية؛ لأن هذا يعطيه قوة كبيرة، ويجعله منافسًا قويًا على الخلافة، والمصادقة على فصل ناصر القدوة، وحسم مسألة الذين ترشحوا في الانتخابات التشريعية والمحلية، وبعضهم أعضاء مجلس ثوري، ومنهم محسوبون على مروان البرغوثي، وعلى رأسهم زوجته فدوى البرغوثي؛ حيث جرى تجميدهم عمليًا، وعدم دعوتهم لاجتماعات المجلس الثوري التي عقدت منذ قرار إلغاء الانتخابات وحتى الآن، وهناك تقدير بأنه لن تتم دعوتهم للمشاركة في المؤتمر ما لم يعتذروا عن عدم التزامهم بقرارات اللجنة المركزية وتعهدهم بعدم تكرار ذلك.
اعتزال واستقالة!
هناك قضية أخرى مطروحة للنقاش، وهي: هل يفكر الرئيس في الاعتزال والاستقالة (وهذه مسألة بحاجة إلى بحث مستقل)، وتسليم الخلافة إلى شخص أو أشخاص عدة، أم سيبقى إلى أن يأخذ الله أمانته؟ فإذا كان يفكر بالاستقالة فسيسرع هذا في إعداد متطلبات الخلافة، وأما إذا كان سيستمر فسيُنضج المسألة ببطء، وعلى نار هادئة. ويمكن في هذه الحالة استحداث منصب نائب الرئيس بإقرار تعديل على القانون عبر المجلس المركزي.
توزيع مناصب الرئيس
من القضايا التي بحاجة إلى نقاش، هل سيخلف الرئيس الحالي رئيس واحد يجمع في يديه رئاسة حركة فتح والمنظمة والسلطة، ويتحكم في الحكومة ورئيسها، أم يتم توزيع هذه المناصب على ثلاثة أو أربعة أشخاص، وهذا إن تحقق وصفة لاستمرار الصراع بين مراكز قوة عدة. فتقسيم العمل والوظائف يكون خطوة مهمة جدًا وإيجابية في حال وجود دولة ذات سيادة، وعمل جماعي، ومؤسسات قوية ومستقلة، وحكم رشيد، وبرنامج مشترك، ووحدة جغرافية وسياسية ومؤسسية. أما في ظل تجويف المؤسسات، وتآكل الشرعيات، وغياب البرنامج المشترك، والانقسام؛ فإن توزيع المناصب أقصر طريق نحو الفوضى، وسيؤدي إلى المزيد من الشرذمة والانقسام، وفي كل الأحوال تبقى السلطة ورئيسها، في ظل تغييب وغياب المنظمة، وفي ضوء الصلاحيات والإمكانات والدعم والاعتراف الإسرائيلي والعربي والدولي الذي تتحلى به، هي صاحبة القوة الأكبر، والمتحكمة في المؤسسات الأخرى، سواء في حركة فتح أو المنظمة.
سيناريوهات الخلافة
السيناريو الأول: حدوث شغور سريع في منصب الرئيس، سواء بالوفاة، أو الاستقالة، أو المرض الشديد قبل استكمال تعبيد الطريق للخليفة أو الخلفاء، وهذا سيفتح الطريق أمام سيناريوهات فرعية عدة، مثل: تبوء نائب رئيس حركة فتح للرئاسة؛ حيث تتغلب غريزة المصلحة والخشية من فقدان السيطرة على السلطة على غرائز التنافس، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون محمود العالول شخصية توافقية داخل “فتح” تستبعد الأقطاب، وتؤجل الحسم ما بينها؛ أو انطلاق حمى المنافسة التي تهدد بضياع كل شيء، وتفتح الطريق لسيناريو الفوضى والاقتتال؛ ما قد يؤدي إلى انهيار السلطة، مع أن إسرائيل ولاعبين كثرًا لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام انهيار السلطة، أو اقتتال مراكز القوة فيها، وهنا في حالة عدم اتفاق “فتح” ستلعب “حماس” دورًا أكبر، وهذا سيفتح الطريق لدور أكبر لمروان البرغوثي ومحمد دحلان وناصر القدوة؛ أو يمكن تكليف رئيس المجلس الوطني/المركزي روحي فتوح أو غيره بتغطية من “المركزي” بمنصب الرئيس لفترة مؤقتة.
السيناريو الثاني: استمرار عهد الرئيس عباس لفترة طويلة، عام أو عامين أو أكثر، وفي هذه الحالة ستكون الفرصة لديه أكبر لتثبيت أركان خليفته أو خلفائه كما يريد.
وفي هذا السيناريو يمكن اللجوء إلى مناورات عبر استحداث منصب نائب الرئيس، أو التعهد بترشيح مروان البرغوثي للانتخابات الرئاسية إذا شغر منصب الرئيس، أو يتم توافق وطني على مرشح توافقي، على غرار ما حدث في “تفاهمات إسطنبول”، مع أن هذه الاحتمالات مستبعدة.
السيناريو الثالث: توزيع المناصب التي يشغلها الرئيس على عدد من الأشخاص، وهذا لا يحسم الصراع على السلطة، بل يؤجله وسينتج سلطة منهكة بصراع بين مراكز القوى في الضفة وبينها وبين سلطة حماس.
السيناريو الرابع: سلطة برأسين. وهذا السيناريو مستبعد جدًا؛ لأن “حماس” لا تفكر حتى الآن في المنافسة لا على رئاسة السلطة ككل، ولا على إيجاد منصب رئيس للسلطة في غزة، وظهر ذلك في موافقتها على أن يكون الرئيس عباس مرشحًا توافقيًا في الانتخابات التي كانت مقررة العام الماضي خلال بحث تشكيل القائمة المشتركة مع “فتح”؛ لأنها تدرك أن مثل هذا الإجراء أو ذاك غير مقبول، وستكون له تداعيات وخيمة، محليًا وإسرائيليًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، وهو أن تكون السلطة برأسين ورئيسين: واحد في الضفة الغربية، والآخر في قطاع غزة.
ويمكن أن يتقدم هذا السيناريو إذا تم اللجوء إلى إجراء انتخابات في الضفة فقط، بحجة تعذر التوافق على إجرائها في الضفة والقطاع معًا، وهذا سيئ جدًا، إن حصل، كونه يعمّق الانقسام، ويشرعنه.
البرنامج والنهج أهم من شخص الخليفة
هناك نقطة مهمة، وهي ضرورة إدراك أنّ الموضوع الأهم ليس من سيخلف الرئيس شخص أو أشخاص عدة، بل تحديد ما الذي يحتاج إليه الشعب الفلسطيني، واختيار الخليفة على هذا الأساس؛ أي الموضوع الأهم: ما النهج والبرنامج الذي سيسير عليه، وهل سيستمر في نفس المسار الذي سارت عليه السلطة حتى الآن، وأدى إلى الوضع البائس جدًا الذي نعيش فيه في الضفة والقطاع وداخل أراضي 48 والشتات، كما انعكس في تراجع مكانة القضية الفلسطينية عربيًا ودوليًا، أم سيتدهور أكثر، أم ستحدث انعطافة كبرى تعيد لحركة التحرر الديمقراطي الفلسطينية ألقها، وهذا احتمال لا يمكن على الرغم من صعوبة إسقاطه من الحسبان؟
رئيس فلسطين لا يقرره الفلسطينيون وحدهم
إنّ اختيار رئيس فلسطين لا يخص حركة فتح وحدها، وإنما يخص الفلسطينيين جميعًا، وعليهم أن يشاركوا في تقرير مصيرهم، واختيار رئيسهم، ويصرّوا على الانتخابات، والتوافق الوطني إذا تعذر إجراؤها لعوامل خارجية، أبرزها الاحتلال، وهنا نسجل خطأ التسليم بأن المسألة من اختصاص “فتح”، أو الأصح المتنافسين على الخلافة.
تقتضي الواقعية السياسية الاعتراف بأن الرئيس الفلسطيني لا يقرره الفلسطينيون وحدهم، بل يتدخل في تحديده عدد من اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، وخصوصًا الأميركيين والإسرائيليين، وكلما كان الفلسطينيون منقسمين وتائهين ومستنفدين في الصراع والتنازع بين سلطتين تحت الاحتلال، ومن دون رؤية وإستراتيجية وقيادة واحدة وإرادة، سيُتحكم فيهم، بما في ذلك فرض الآخرين رئيسًا عليهم.
ليس صحيحًا أن هذا ما سيكون في كل الأحوال، وليس بالإمكان أبدع مما كان، بل إذا اختار الفلسطينيون تبني أخذ زمام قضيتهم بأنفسهم، وغلّبوا المصالح العامة، واعتمدوا حل الرزمة الشاملة، التي تتضمن تغيير المسار، وبما يقتضيه من تغيير وظائف السلطة والتزاماتها، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تنهي الانقسام، وتحضر لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، والالتزام ببرنامج الحد الأدنى الوطني، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وإجراء انتخابات المجلس الوطني حيثما أمكن ذلك، وبالاستناد إلى توازن المبادئ والقوى والمصالح، وبرنامج القواسم المشتركة الوطني الواقعي الذي ينطلق من الواقع والسعي لتغييره، وفق معادلة ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، من دون مغامرات أو استسلام، ومن دون التخلي عن الحقوق والأهداف النهائية، والشراكة الحقيقية، فسيقررون مصيرهم بأقل قدر من التدخل الخارجي.
وأخيرًا، نحن نعيش في حالة سيولة وتغيّر في إسرائيل والمنطقة والإقليم والعالم، والعوامل المؤثرة في الوضع الفلسطيني متغيّرة بشدة ومتحركة؛ حيث لا يمكن الجزم بيقين بالسيناريوهات، ولكن السيناريوهات السيئة والأسوأ هي الأقوى ما لم يحدث ما يغيّر هذا الواقع.
ليس قدرًا أن نرتهن للآخرين، ولسياسة الانتظار والبقاء والانقسام، بل هناك نافذة للأمل والتغيير.