علامات الترقيم وفوضى الاستخدام

فراس حج محمد| فلسطين

علمتنا المدرسة، في زمن ما، الأمور ببساطة ودون تعقيد، وتخرجنا ونحن نفهم ما علمنا إياه المعلمون، ونطبّقه بسلاسة، كنّا مُخرَجاً تعليميا ممتازاً لحقبة من التعليم كانت مستقرة، فيها الممتع والمفيد، وفيها المقررات الرصينة، والمعلمون الأكْفاءُ الأكفياء، خرجنا من ارتباك الحاضر، ولكننا لم نسلم منه سلاما تاماً؛ لأننا عشنا زمنا مربكاً، فيه اختلاط الحابل بالنابل، وادّعاء المعرفة، وأنصاف الكتّاب، وأنصاف المعلمين، والتشوّه في الكتابة، وفي التعلم، سواء بسواء.

علمتنا المدرسة أن للترقيم علامات منضبطة الهدف والاستخدام، وكانت أشبه بالشاخصات المرورية، لا اختلاف عليها، تساعد الطالب على القراءة الجهرية المعبرة، وتساعده على أن يقرأ دون ملل، وتساعده على أن يتلذذ بالمعاني. نعم، يتلذذ بالمعني، وهي تدخل إلى عقله قطعة تلو قطعة بيسر؛ فتنحلّ المعاني وتُفهم دون كبير عناء، باتصال وانفصال وترابط، كأنها تشبه فرس امرئ القيس الموصوف بأنه “مقبل مدبر معاً”. كانت علامات الترقيم حقاً صديقة للقراء، ومنارات هداية لهم، وللكتاب كانت عوامل تشويق.

في الكتب المدرسية كان كل شيء جميلا، حتى وهي ثقيلة صعبة، إنها كانت بصعوبتها “خفيفة دم”. أعتقد ذلك الآن، وقد بعُدت المسافة بين ذلك الزمان وبين هذا الزمان، اليوم الكتب المدرسية صنعة بائسة، فيها العديد من المشكلات المعرفية، تزيد الارتباك والفوضى، ومن هذا الارتباك ارتباك علامات الترقيم.

كثيرة هي الأسباب لذلك، لعل أولها أن الكتّاب الذين تُعتمد نصوصهم في تلك الكتب كتّاب لا يحسنون وضع علامة الترقيم. يكثرون من النقاط، ويكثرون من علامات التعجب، ويكثرون من ازدواجية العلامات، كتّاب يضعون لأنفسهم قواعد خاصة زئبقية غير مبررة، فأربكوا المؤلفين الذين هم مثل الكتّاب لا يعرفون بالضبط متى تُستخدم علامات الترقيم، فوافقوا الكتّاب، وسايروهم، واحتموا بالحجة التي يتمترسون خلفها؛ إن النص الأصلي هكذا، ونحن التزمنا به. يا له من عذر أقبح من جناية قتل.

في إحدى حلقات “سيداتي سادتي” للإعلامي الفلسطيني عارف حجاوي على تلفزيون العربي2 وقف عند علامات الترقيم (نُشرت الحلقة بتاريخ 9 يونيو 2022 على صفحة الفيسبوك لتلفزيون العربي2)، وقال فيها ما قاله، وخلط حقا بباطل، لكنه أشار إلى ما قد أشار إليه غسان كنفاني في كتابه “فارس فارس” من سوء استخدام علامة التعجب عند الكتّاب، فقال الحجاوي: “المراهقون يرشّون علامات التعجب في كتاباتهم بغير حساب. هذا شبيه بالصراخ”.

كم من كاتب شديد الصراخ إذاً، يا حجاوي. في أول عهدي بالكتابة كنت أيضا شديد الصراخ، كنت مراهقاً حقاً، نبهتني الصديقة الكاتبة مادونا عسكر إلى ذلك بسخرية لطيفة، عندما وصفتني بأنني مولع بعلامة التعجب، أخذت أتحاشاها جدا، أقصد علامة الترقيم بالطبع، وليس الكاتبة الصديقة، وعندما أصدرت ديوان “ما يشبه الرثاء” نقّيته من هذا الصراخ، إلا أن بعضا من الصراخ ظل عالقا على أطراف الجمل. إنها مشكلة.

كثير من الكتّاب يمارسون هذا الصراخ حتى الكبار منهم، أرى التعجب علامة عند الشعراء كثيرا في دواوينهم، لم أكن أدري لماذا. يطلق غسّان كنفاني سخريته من الشعراء الذين يستخدمون “علامة الاندهاش”- الاسم الثاني لعلامة التعجب- في غير موضعها: “هناك شعراء- كما يبدو- معجبون بأنفسهم إلى حدّ أنّهم حين يكتبون شطرة بيت يضعون وراءها على الفور علامة تعجّب، كأنّهم يهنّئون أنفسهم على اجتراح معجزة لم يستطع غيرهم أن يجترحها أو يفكّر باجتراحها”. (ينظر: كتاب “فارس فارس”، ص34، دار الآداب، ومؤسّسة غسّان كنفاني الثقافيّة، بيروت، 1996)

في بعض كتب اللغة العربية في المقررات المدرسية الفلسطينية يوجد هذا النوع من الصراخ أو اجتراح المعجزة. هذا مربك جدا إذ يحدث في الكتب المدرسية، لأنه لا يسير إلا حسب المعاني النفسية التي يظن الكاتب أنها موجودة في جملته. إن ما غاب عن الكتّاب ومؤلفي المقررات الدراسية هو أن علامة الترقيم هي للأسلوب اللغوي وليس للمعنى الذي تؤديه، هذا ما تعلّمه تلك الكتب للطلاب في موضعه. إن مشكلة ما ستحدث عند ذلك، وقد وقع فيها الحجاوي نفسه، في الحلقة ذاتها عندما أجاز- ولا أدري كيف يمكن له أن يجيز قاعدة ليس له صلاحيات التشريع فيها- أجاز أن تجتمع علامتا التعجب والسؤال في حالة كون السؤال إنكاريا. أيّ نُكْرٍ جاء به الحجاوي هنا، إنه لا دليل على ما يقول سوى معنى الجملة. إننا لو تابعنا الحجاوي بفرضيته المتوهمة هذه لصار لكل سؤال بلاغيّ المعنى؛ أيْ ليس لغرض السؤال، علامتي ترقيم؛ واحدة لأسلوب السؤال، والأخرى للمعنى البلاغي المرافق، والفوضى ستصبح عارمة.

إضافة إلى هذا يخطئ الحجاوي في توظيف الفاصلة المنقوطة، ويقيس العربية على لغة غير العربية، إنها فوضى الاستخدام غير المنضبطة كذلك، وهي بالفعل مربكة، بينما في كتب الإملاء العربية واضحة تماما وسهلة الاستخدام، ولم يجد التلاميذ والكتّاب العرب المجيدون لصنعة الكتابة صعوبة في استخدامها، وجاءنا الإرباك من آراء الكتّاب الأجانب الذين يطاوعهم الحجاوي فيما يقولون للأسف، فينقل عن أحد الكتاب الأمريكيين قوله فيمن يستخدم الفاصلة المنقوطة من الكتّاب: “يضع الكاتب الفاصلة المنقوطة فقط ليثبت أنه أكاديمي”، نقل يوحي أن الفاصلة المنقوطة عبثية، ولا حاجة لها. كأنها دليل نقص لدى الكاتب الذي يثبت أكاديميته من خلال استخدامها، وعجز المعاجم الأجنبية عن تفسير استخدامها- كما ينقل الحجاوي أيضاً عن الأجانب- لا يعني أن علماءنا العرب لا يعرفون أهمية استخدامها ودقة توظيفها، إنه لم يكلف خاطره ليراجع ماذا قال عبد العليم إبراهيم، وعبد السلام هارون، ولا ما بينه إميل بديع يعقوب، ولا غيرهم من المَدْرَسِيّين والقواعديين العرب.

إضافة إلى أن الحجاوي يريد من الكتّاب أن يحكّموا ضمائرهم، ويتقوا الله في القارئ المسكين، ويضع أسسا ذاتية لتوظيف تلك العلامات، إن الحجاوي هنا يلغي القواعد الإملائية كافة، ويقول: “لا قواعد ثابتة” لعلامات الترقيم. إنما كل المسألة متعلقة بتحكيم الضمير. إنها جملة بحاجة إلى علامة التعجب، إلا أنني لن أضعها حتى أظل هادئا، فأنا لا أحب الصراخ.

هذه الفوضى، لا تعنينا نحن أصحاب اللغة العربية ومدرسيها وتربوييها، لولا ما وُجد في الكتب المدرسية من فوضى الاستخدام، فمثلا اخترع لنا المؤلفون والكتّاب النقطتين المتجاورتين؛ مرة تتبين أنهما علامتان للحذف، ومرة أخرى تنوبان عن الفاصلة أو النقطة، وأحيانا كثيرة تبدوان علامة ترقيم بلا هدف. إنهما أشبه بالصراخ أيضاً، بل أكثر من ذلك؛ إنها- علامة النقطتين- لطمية أشبه باللطمية الشيعية في يوم عاشوراء.

كما اخترع الكتّاب المراهقون؛ جريا وراء وصف الحجاوي- كذلك- الثنائيات الترقيمية؛ علامتا ترقيم معا، حسب ما يريد الحجاوي نفسه في توظيف علامة التعجب والاستفهام، ومرة ازدواجية تكرار العلامة نفسها، فتجد علامة السؤال مرتين، وأحيانا ثلاثاً وأربعاً على قدر أهمية السؤال وعظمته وهوله في نفسه كاتبه، أما علامة التعجب فتكاثرت لتفرخ علامات تعجب متراصة، تشيح عنها النظر فلا ترغب في عدها. يا إلهي كم كان صوت ذلك الكاتب عاليا وهو يضعها، أخاف عليه أن تنفجر أوداجه من كثرة الصراخ. هل تظنون أنني بحاجة إلى رسم علامة للاندهاش هنا أيضاً؟

لكل ذلك، أقول كما قال عارف حجاوي- سامحه الله وهداه-: “اتقوا الله في القارئ المسكين”، وأزيد: ارحموا الطالب المسكين الذي قد يقرأ هذا الصراخ فيرتبك، فكيف سيستعمل علامات الترقيم ومتى، وقد قتلوا عبد العليم إبراهيم وكتابه وقواعده التي كانت تمنحنا سلاما كتابيا واطمئناناً تعليليا، وسلاسة قرائية؟

ألا رحم الله زمانا كنا فيه على وئام مع قواعد العربية قبل أن تطلّ الفتنةُ الفوضى برأسها، وكما قال المثل: مجنون رمي حجراً في بئر… ولكن من ذا الذي يستطيع أن يستخرجه منها. لعلها تحتاج إلى مجنون آخر.

أظن أنّ الفقرة السابقة أيضاً بحاجة إلى علامة الاندهاش، لكنني سأجبر نفسي على ألّا أضعها احتراماً لشيوخنا الأفاضل الذين علمونا حُسْن توظيف علامات الترقيم، فأحسنوا التعليم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى