سر الحياة و فلسفة الخلية!
د. محمد السيد السّكي استشاري تحاليل طبية وكاتب وروائي مصري
مسخر ذلك الجسد بدءًا من أصغر وحداته الى اكبر بناياته لان يعشق الدفء الذي يسري في دمائه معطياً له الحياة.. يحاول جاهداً ان يعيش في ظل نفسه التي بداخله والتي بدورها تعينه باختياراتها الشهوانية التي تخدمه كما يعينها بأن يبقى لها الوعاء والبنيان الذي بدونه لا وجود لها.
إن التوجه الخفي المزروع في الكون والتي يجعل الأنفس لا تتنازل عن أنفاسها وتحب الحياة لهو أعظم برهان على وجود الخالق المنظم الذي يبغي استمرار تجربة الحياة.
إن احتمالات الصدفة تعني وجود كائنات لا ترغب في الحياة كالتي بطبيعتها تلهث طمعًا في أدنى درجات الحياة؛ لكن الغرابة لن تجد تلك الكائنات ليدل ذلك على وجود الصانع الخالق صاحب الترتيب لا عشوائية إتاحة كل الاحتمالات.
الحفاظ على النفس البشرية من خلال استمرار وجود جسدها الحاضن لهو ملموس في الخلية والأعضاء.
فما إن يحدث خلل في الشريط الوراثي DNA والذي بناءاً عليه ستحدث طفرات وبالتالي تحدث تغيرات في وظائف الخلية الطبيعية فانه بسرعة تسعي الخلية لإصلاح العطب من خلال انزيمات الإصلاح.. وان تفاقم العطب واصبح خطيراً فان الخلية تفضل الانتحار حرصاً منها على كبح جماح التلف.. كما أن الخلية أيضا تنتحر عند الغزو الفيروسي حرصاً الا يتخطى الضرر حدودها وينتقل الي الجيران.. نعم؛ إن الخلية تختار الموت المبرمج Apoptosis
جدير بالذكر أن DNA يتعرض بشكل مستمر لغزو من المؤثرات الفيزيائية والكيميائية الضارة والتي تستهدف اتلافه ومن ثم يتم ترجمة الشفرة الوراثية إلي بروتينات تغير من وظيفة الخلية الطبيعية وقد تجعلها تنقسم بغير منطق وحسبان منتجة تمرد خلوي او مايسمى بالسرطان.
تضحية الخلية من أجل الجسد باكمله هي دليل عظيم على بديع الصنعة الإلهية التي تحمل لأهل الألباب رسائل عظيمة مؤداها ان الفرد يجب أن يضحي من أجل حياة المجتمع وانه لا يمكن أن يسمح للفرد ان يتخذ القرار بالانتحار الا اذا كان ذلك لمصلحة الجسد والمجتمع كله..
أن الخلية لا يمكنها ان تحطم قواعد اللعبة السامية والتجربة الحياتية الكبرى فهي على الدوام تسعى لضمان حياة الفرد الكامل و الحفاظ على حياة النفس الإنسانية.
قد تتعرض الخلية لموثرات بيئية ضارة خطيرة لا تستطيع معها اختيار الانتحار أو مفهوم الموت الرحيم من أجل المجموع بل انه يزحف اليها نقيض الحياة “الموت” ليحمل أيضا لنا معنى فلسفي عظيم يفيد ان للحياة نهاية..
“إلا أنها لحياتكم معالم فانتهوا الي معالمكم وان لحياتكم نهاية فانتهوا الي نهايتكم “.. إن ذلك التبادل والصراع مابين الموت والحياة يؤكد بأن للكون خالق وإن مردنا إلي الله، وكفى بالأخرة دواءً لصداع المشتاقين.
ولما كان الإنسان أسمى خلق الله وأحبهم إليه الذي ميزه بوجود الروح ولم يجعله فقط يعيش بنبضات النفس التواقة للحياة وللوجود، فإن الله يتجلى بصفاته في كل إنسان بتفرد عن الآخر وإن كل فرد يحقق بحياته مفهوماً عن الله لا يحققه غيره بل ويكشف عن ذات الله العظيم بتفرد منقطع النظير، ولذلك شدد الله على ضرورة الحفاظ على النفس البشرية وحرم أن تختار قرار الانتحار.
الإنسان يحل له أن يموت فقط من أجل مصلحة المجتمع من خلال تفاعل يضمن نفاذ أسباب البقاء ويضمن استمرارية تجربة الحياة ولذا فإن أعظم الأجر هو أجر الشهداء مع التأكيد بأن الشهادة ليست انتحاراً بل مواجهة ونفاذاً للأسباب البشرية القائمة على حب النصر والحياة للمجتمع.. إن روح الله فيك المتسامية هي التي تجعلك تضحي بنفسك من أجل غيرك كما أن خلاياك مجبولة على التضحية لضمان بقاء نفسك.
والخلية التي تنتحر من أجل سلامة الأعضاء فإنها أيضاً تسري فيها فلسفة كيمياء الألم والتي تنذرك بأن هناك خلل يجب أن تتفاداه من أجل صالح جسدك ومن أجل الحفاظ على وعاء نفسك؛ فالألم هو خط دفاعي مناعي معتبر يزعجك كثيراً ولكن ذلك من أجل الحياة.
أما الموت وأنامله وهي تتسرب إلي خلاياك من خلال جواسيس لتشل جرس إنذارك، ومعنى عدم الألم هو إنذار بالموت!.. إن فلسفة تبادل الأدوار ما بين الموت والحياة لهي لبنة في جدار إيمانك فانظر إليها ولا تكن من الغافلين.
وعند البحث في دنيا وعالم الخلية بغية استنطاقه من قبل الغافلين وترقب لموعظته في آذان المؤمنين فسنجده مليء بآلاف الحروف؛ فآلاف الانزيمات تنظم عملياتك الحيوية وتجعلك قابلاً للحياة، كما إن التنظيم المحكم في داخل الخلايا والذي يضمن أن تنقسم تحت رقابة فنية كي لا تستخدم في غير وقت الضرورة لهو صوت يصرخ بأن الكون تحكمه قوانين الإله الخالق البارئ المقدر.
تنقسم خلاياك بشكل كبير حتى تنضج فلا تنقسم الا لتعويض التالف فلا يتضخم حجم أجساد الكائنات معلناً أن لك رسالة، وأيضاً فإن عدم وجود فرص وجود خلق يتمادى في التضخم لهو دليل على أن عالم الخلية منظم لا يخضع للعشوائية بل هيمنة الإله الواعي والمصمم الأعظم.
مابين توازن مابين الحرص على الحياة وموت ينهش في الخلايا، وانقسامات في جميع الخلايا عند وقت الضرورة لمعالجة التلف، ومابين توقف انقسام الخلايا العصبية التي تسري من خلالها كهرباء برمجتك العصبية، وآفاق وعيك وتجليات جلال الله الذي أعطاك قمة الحرية في الاختيار، فإنه تنكشف لنا قوانين الخلية ورسائل الله فيها.
ما أعظمه من سر وما أعظمها من فلسفة. إنها فلسفة الخلية وسر الحياة..