فلسفة الاختلاف والصمود أمام الموت!
د. محمد السيد السكي | أديب مصري
إذ اقتضت مشيئة الله فى خلقه عموم الاختلاف، واختفت بقدرته معالم التحقق إلا بلطف منه وإيعاز، ولكن الإنسان يأبى بجهد لاهثاً وراء الحقيقة وجمع القلوب فى قوالب تزينها وحدة الألوان والأشكال وتختفي منها شمس الاختلاف والتي هي لله سنة وطريقة.
وعندما اراد الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – بحال النبي الرحيم الذي تتفجر فى روحه منابع انوار الله فيسعى حثيثاً ان يكون لكل انسان نصيب من تلك الانوار فيقول الله له: “ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين”.
نعم فالله المتفرد بصفاته والمتجلي بها بعدد انفس خلقه، سبحانه فله طرائق بعدد انفاس الخلائق.. فكل انسان باختلافه يحقق معنى لأولي الابصار عن ذات الله القدوس، وأيضاً اقتضت مشيئة الله ان تلد من رحم الاختلاف شمس الحقيقة، فعندما ترى المختلفون يجتمعون على شئ ترتوي نفسك بباعث الدفء والنور، وتشتعل امامك نتيجة الاختلاف معانٍ لا تجمعها عن مقصد الاختلاف ولكن تتضافر على بعضها كشعيرات مضيئة تسكن بها ارواح اهل البصيرة.
ان الله الحكيم الذي ارتضى ترك خلقه لافكارهم دون تدخل صارخ وهداية معونة متأججة لهو ينظم بذلك تقديراً محكماً تتهيأ به الانفس البشرية لمسرح تجربته الدنيوية الكبرى فيفصل بين عباده ويمحصهم وتنكشف لهم اسرار ذاته.
وكل نجاح واخفاق لهو مقدر بتقديرالله المحكم، فسبحانه جعل من الجهالة اداة لتفاعلات البشر ، وجعل لكل مدخل قدر مخرج قرار، وجعل الغباء جنداً من جنوده، وقدر الاختلاف بين خلقه فيما بينهم وفي رؤيتهم له، واذن للجهلة ان يقودوا الناس للتهلكة.. فسبحان الله العليم، وعلي الدوام تجد الاختلاف سنة الله فى خلقه ولن تجد احداا يسلم من السن الناس فالكل يرى الحقيقة من خلاله.. ورحم الله الإمام الشافعي القائل:
الناسُ داءٌ دفينٌ لا دواءَ لهم
والعقلُ قد حارَ فيهم و هو منذهلُ
إنْ كنتَ منبسطاً سمّوك مسخرةً
أو كنتَ مُنقبِضاً، قالوا به ثِقَلُ
و إنْ سألتهم ماعونَهُم منعوا
و إنْ تعففتَ قالوا: قد طغى الرّجلُ
و إن تُخالطهم قالوا: بهِ طمعٌ
و إنْ تُجبهم قالوا: بـــهِ مللُ
و إنْ تعريتَ قالوا: لا جمالَ له
و إنْ تلَبَّستَ قالوا: قد زها الرجلُ
و إنْ تصوَّفتَ قالوا: فيه منقصةٌ
و إن تزهَّدتَ قالوا: كلها حِيَـلُ
و إنْ تعَفَفتَ عن أموالهم كرماً
قالوا: غنيٌّ، و إن سألتهم بَخِلُوا
حقا لا سلامة من السن الناس؟!
ومن المعضلات الفلسفية الكبيرة والتى تقودنا الى مفاهيم جديدة عن النفس وعن الدين، تلك التى تتفجر امامنا امام استحضار تلك الشخصيات والتى واجهت الموت وهددت انها ستقتل ، ورغم ذلك فضلت الموت عن تغيير أفكارها.. إنهم يموتون ويصمدون ولا يخافون من الموت متمسكين بافكارهم ومنحاهم العقدي.. وأذكر هنا أمثلة منها:
– لقد واجه المتصوف الزاهد صاحب الكرامات الحلاج الموت بصدر رحب ورفض تغيير افكاره عندما استتابه الخليفة العباسى آنذاك، بل وصلب..و بصرف النظر عن هذه الافكار واتفاقها مع ثوابت الشرع ام لا، الا ان الصمود ولو على افكار ومعتقدات خاطئة يمثل معضلة فلسفية كبيرة ..
– الاديب الاذربيجاني التركي الكبير عماد الدين نسيمي متبني المذهب الحروفي عن استاذه الاستر بادي.. لقد واجه الموت بل انه تم سلخ وجهه ولم يغير افكاره والعجيب ان افكار الحروفيين باستبعاد الشطحات العقدية فيها من حلول وتجسد، فانها كانت افكار عظيمة وامتداد لسيمياء جعفر الصادق عليه السلام، والواح زمرد هرمس والتجليات العجيبة لصاحب الخطوة احمد بن على البوني باستبعاد ما دس فى كتبه من زيغ وعلوم سحر وغيره وما اختفى من علوم الخيمياء والرمياء.. ويكفي ان من رسالة الخالدين حدد تلميذ عماد الدين نسيمي غفر الله له للسلطان العثمانى المتصوف مراد الثاني وابنه محمد الثاني ” محمد الفاتح ” ميعاد دخوله القسطنطينية وقد صدق..
– وقد واجه غيرهم أمثال بابك الخرمي وغيرهم الموت ولم يثنيهم ذلك عن افكارهم!..وهذا أمر عجيب، وقد اتنفس من هواء ذلك الصمود افكار مزلزلة، فما هو مصير هؤلاء؟ ويتفجر فى قلبي ان العقول قد تعمى عن ادراك الحقيقة ولكنها قد تنجو بعدم الجحود والانكار..فمن أسلم قلبه لأفكار دون جحود ولم يتوقف عقله عن البحث وعن الخروج هو لم يدخل ارض الغواية بل قد يكون احد حملة لواء الاختلاف وهى سنة الملك الرحمن؟
ويحضرني قول الله الصمد فى كتابه العزيز:
“وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ “
انها سنة الاختلاف ..وانها اسطر قليلة عند الابحار في فلسفة الاختلاف.