عقدة المشاركة العربية في الانتخابات الإسرائيلية
نهاد أبو غوش
بعد إقرار البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) حل نفسه بالقراءات الثلاث، تتجه إسرائيل إلى انتخابات مبكرة مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل في خامس جولة انتخابات خلال أقل من اربع سنوات، من دون أن تبدو في الأفق بوادر حسم لأي من المعسكرين المتنافسين وفقا لاستطلاعات الراي العام التي تجري بصورة شبه يومية. وتستمر أزمة النظام السياسي الإسرائيلي مع أن الانقسام الحاصل ليس بين يمين ويسار، ولا بين مؤيديالسلام ودعاة الحرب والاحتلال، وإنما بين أنصار رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو وحلفائه، ومعسكر معارضيه الذي يشمل طيفا عريضا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا المعسكر الأخير هو الذي نجح في تشكيل حكومة “التغيير” برئاسة الثنائي نفتالي بينيت ويائير لابيد. لكن هذه الحكومة انهارت بعد عام من تشكيلها بسبب هشاشتها واستنادها إلى أغلبية ضئيلة، وعدم انسجام مكوّناتها سواء في برامجها السياسية أو الاجتماعية ما أبقاها أقرب إلى حكومة الشلل. ولعل المفاجأة الحقيقية تمثلت في صمودها طيلة هذه الفترة حيث كان يمكن لها أن تسقط عند أول هزّة لولا الدعم والتعويم الذي لقيته من أطراف دولية وخاصة من إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية، وأطراف أخرى إقليمية، فضلا عن حرص كافة الأطراف الثمانية المشكلة للحكومة على البقاء معا خشية من تراجعها واندثارها في حال إجراء انتخابات مبكرة.
ومع أن الموضوع الفلسطيني ليس حاضرا ولا ضاغطا على ظاهر الجدل السياسي بين الأحزاب الإسرائيلية، بسبب الانقسام الفلسطيني وغياب الفعل النضالي الموحّد، إلا التدقيق في القضايا الخلافية بين الأحزاب والتيارات السياسية الإسرائيلية يظهر أن الشأن الفلسطيني كامن في معظم تفاصيل وثنايا السياسة الإسرائيلية، سواء كان النقاش عن”الإرهاب”، أو عن “نقاء” إسرائيل بوصفها دولة يهودية، أو عن الاستيطان وفرض السيادة على المستوطنات، كما ينطبق ذلك على فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 ممن فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية ويتمتعون بحق المشاركة في انتخابات الكنيست. أما عند الحديث عن الانتخاباتوتفاصيلها الإجرائية وتكتيكاتها فسوف يعود العامل الفلسطيني ليبرز بوصفه شوكة في حلق الديمقراطية الإسرائيلية، ذلك أن معظم القوى السياسية الإسرائيلية تريد للفلسطينيين العرب أن يشاركوا في الانتخابات من دون أن يتحولوا إلى قوة مؤثرة على حسم القضايا الرئيسية، وبخاصة حين يتعلق الأمر بسياسات إسرائيل تجاه القضية الفلسطينية والأراضي المحتلة، أو بالنسبة للطابع اليهودي لدولة إسرائيل، وهذه القاعدة ليست مجرد رغبة أو تحفّظ عابر، بل إنها دخلت في صميم قوانين الأساس ذات المكانة الدستورية حيث جاء في قانون القومية الشهير الذي شُرّع في العام 2018 أن “ممارسة حق تقرير المصير في أرض إسرائيل هي حق حصري للشعب اليهودي”.
وهكذا تمثل مشاركة الفلسطينيين العرب في الانتخابات الإسرائيلية معضلة مركبّة، للفلسطينيين أنفسهم الذين يسعون للحفاظ على هويتهم الوطنية والقومية، وعلى كونهم جزءا من الشعب الفلسطيني، وفي نفس الوقت التمسك بحقوقهم المدنية والاجتماعية لكونهم “مواطنين” يدفعون الضرائب ويقومون بكل ما عليهم من اعباء تجاه الدولة التي فرضت عليهم، ومن الناحية الثانية تنظر معظم الأحزاب الصهيونية للعرف بوصفهم عبئا ومشكلة أمنية، بل إن بعض الساسة شبهوهم بالقنبلة الديمغرافية القابلة للانفجار في اية لحظة. ولذلك تسعى المؤسسة الصهيونية الحاكمة بمختلف تشكيلاتها إلى مطالبة الفلسطينيين في الداخل بإظهار الولاء لدولة إسرائيل، والانسلاخ عن الشعب الفلسطيني ما يعني في المحصلة ” أسرلة” هؤلاء الفلسطينيين، ودفعهم إلى التخلي عن هويتهم الوطنية مقابل التمتع بالحقوق المدنية والمعيشية بما في ذلك ميزانيات التطوير والمساواة في الحقوق وفرص العمل والتعليم.
يشكل الفلسطينيون العرب في إسرائيل نحو 21% من إجمالي عدد السكان، لكن نسبتهم من اصحاب حق الاقتراع تنخفض، بسبب التركيب العمري إلى نحو 17% وهي نسبة تتيحللعرب لو وحدوا صفوفهم الحصول على أكثر من 20 مقعدا من مقاعد الكنيست البالغ عددها 120 مقعدا، لكن حصتهم الفعلية هي أدنى من ذلك بكثير بسبب نسبة مشاركتهم المتدنية في الانتخابات حيث أنها في الغالب أقل بنسبة تتراوح بين 10% 15% من نسبة مشاركة اليهود، وبسبب اختراق بعض الأحزاب الصهيونية للجمهور العربي تبعا لوجود مقاولي اصوات ومصالح متعددة واستياء بعض الأوساط من أداء الأحزاب العربية.
سعت إسرائيل منذ البداية إلى تفتيت من بقي من الشعب الفلسطيني وتقسيمهم إلى طوائف ومجموعات ذات هويات متعددة من قبيل العرب (مسلمين ومسيحيين) والدروز والبدو والشركس، وفي السنوات الأخيرة سعت إلى اصطناع هوية جديدة للمسيحيين العربتحت اسم الهوية الآرامية لكنها فشلت في ذلك، وهي كانت قد نجحت في تمييز طائفة الموحدين الدروز عن باقي أبناء شعبهم وفرضت على شبابهم التجنيد الإجباري بموجب اتفاق مع شيوخ الطائفة، على الرغم من نشوء حركات مناهضة لهذا الاتفاق ومتمسكة بانتمائها العربي الفلسطيني، ونجحت إسرائيل بصورة اقل نسبيا في اجتذاب نسبة من الفلسطينيين البدو للتجنيد مستغلة انعدام فرص العمل في أوساط البدووحرمانهم من اراضيهم ومصادر رزقهم. وبشكل عام ظل المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل عرضة لكل أشكال التمييز العنصري والحرمان من الخدمات الأساسية، وميدانا لتفشي الجريمة، وقد أدت محدودية تأثير النواب والقوائم العربية إلىى مزيد من عزوف الجمهور العربي عن المشاركة في الانتخابات وهو اتجاه تبنته قوى وتيارات مؤثرة مثل الجناح الشمالي للحركة الإسلامية برئاسة الشيخ رائد صلاح، وبعض التيارات القومية كحركة أبناء البلد.
حصل ممثلو العرب على أقصى قوة تمثيلية لهم في انتخابات الكنيست الثالثة والعشرين في آذار/ مارس 2020بحصولهم على 15 مقعدا (من دون احتساب من نجحوا على قوائم صهيونية)، لكن هذه القوة سرعان ما انخفضت إلى 10 مقاعد في انتخابات الكنيست الرابعة والعشرين (الأخيرة) عقب انشقاق القائمة الموحدة برئاسة منصور عباس عن القائمة المشتركة، فحصلت “المشتركة” بقوامها الجديد على ستة مقاعد فقط، بينما حصلت القائمة الموحدة التي تشكل الحركة الاسلامية / الجناح الجنوبي العماد الرئيسي لها على أربعة مقاعد، وهذه الأخيرة هي التي شاركت في الائتلاف الحكومي برئاسة بينيت- لابيد، فكانت محل انتقادات شديدة لكونها شكلت نموذجا للتكيف مع مخططات الأسرلة، وقايضت هويتها الوطنية بوعودلتحسين مستوى المعيشة، ليتكشف لاحقا أن تلك الوعود ظلت مجرد وعود، وعلى الرغم من التحاق هذه القائمة بحكومة بينيت – لابيد، فقد كانت وسيلة للتشهير بالحكومة والتتحريض عليها من قبل المعارضة بدعوى استناد الحكومة إلى أصواتها. والمفارقة أن من اسباب انهيار هذه الحكومة عدم انضباط عضوين عربيين من الائتلاف هما غيداء ريناويمن “ميريتس”، ومازن غنايم من القائمة الموحدة وكان لتصويتهما ضد تمديد قانون الطوارىء تأثير على تصدع الائتلاف الحكومي وانهياره.
وهكذا فوسط استمرار الجدل حول جدوى مشاركة العرب في انتخابات الكنيست، والانقسام بين التيارات الرئيسية وغياب الرافعة الوطنية الفلسطينية التي كانت تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها المختلفة، تبدو آفاق التاثير العربي في الانتخابات المقبلة جدّ محدودة، وبعيدة عن ترجمة الوزن السكاني العربي إلى ما يناسبه من قوة تأثير على صنع القرار.