الصف الأخير!!
سمية عبد المنعم | القاهرة
في الصف الأول من الفصل، تماما في مواجهة السبورة، كان مقعدي، الذي ربما لم أكن أختاره بمحض إرادتي، بل غالبا ما كان يراه مدرس اللغة العربية، أكثر الأماكن مناسبة لتلميذة متفوقة، وتكاد تصل حد النبوغ في مادته.
ولمن لا يعرف، فللصف الأول صفات خاصة جدا؛ ليس لأنه محط أطماع كل تلميذ متفوق، وولي أمر يراه حقا لابنه فحسب، بل لأنه _في كثير من الأحيان_ يبدو بيتا ثانيا لأبناء الصفوة، فما بين ابنة مدير المدرسة، أو موجه أول، أو حتى مدرس، المهم أن معظمهن مميزات؛ اجتماعيا ودراسيا.
هكذا وجدت نفسي مجبرة على مخالطة هؤلاء.
لم يسألني أحدهم عن رغبتي، وهل يسعدني تواجدي بينهن، وتصدري للفصل، أم أن لي رأيا آخر، ولِمَ يفعلون أو يفكرون، ألستُ متفوقة؟ إذن فهذا مكانى المنطقي!
ولم تكن تلك رغبتي…
نعم، ربما أذعنت لرغباتهم، وكونت صداقات ب “ولاد الناس”، وصادقت أسرهم، وصرت صديقتهم الأولى والأهم، لكن روحي المتمردة كانت تهفو هناك، حيث الصف الأخير من الفصل، نعم، ذلك الصف الذي تقبع فيه الفاشلات دراسيا والمنحطات اجتماعيا، و”ولاد الفقراء”.
المتعة كلها كنت أجدها بينهن، فبينما يرين صداقتي شرفا وفخرا، ووسيلة لإحداهن للغش في الامتحان إن صادفها الحظ وكان مقعدها في اللجنة قريبا مني، فكنت أرى صداقتهن حرية وبهجة من نوع خاص.
فبينهن كنت أرضي تلك الطفلة الشقية المتمردة، التي يؤرقها الاضطرار لادعاء الهدوء والدعة؛ تحقيقا لصورة حفرت في أذهان المدرسين…
فالتفوق مرادف الأدب والهدوء.. هكذا يظنون.
صار الصف الأخير يمثل لي ثقبا أثيرا، أنظر عبره إلى عالم الانطلاق والمرح، النكتة الممنوعة، الضحكة العالية، المقالب في مدرس نبغضه، حيث لا يشك أحد في كوني أنا المتفوقة مرتكبة ذلك المقلب.
كثيرا ما حاول المدرسون حرماني من عالمي هذا، لطالما طاردوني وأجبروني على العودة إلى الصف الأول، مستنكرين فعلتي الشنيعة، خاصة في أوقات الاختبارات الشهرية.
حاولوا، لكنهم لم يستطيعوا منعي بشكل قاطع.
لم يقتصر الأمر على سنوات الدراسة الأولى، بل تعداه إلى سنوات المرحلة المتوسطة، حيث خليط عجيب يجتمع تحت صداقتي، المتفوق والفاشل، الهاديء والمنطلق، وجميعهم أحب صداقتهم، على اختلاف درجة الحب تلك.
كنت لفترات طويلة محط تساؤل واستنكار من مدرسيَّ وصديقاتي المتفوقات، وحين يلح السؤال المعتاد؛ ألا تخشين على مستواك الدراسي والأخلاقي من التأثر بهن؟ أجيب ضاحكة: بالعكس، بل أخشى عليهن من التأثر بأدبي وأخلاقي، ليتحولن يوما إلى هادئات مملات، مثلكن.
الآن صرت أدين لهذا الخليط الذي سكنني، فقد كان سببا في تنوع روحي، وثراء أفكاري، وفهمي العميق لمعظم صنوف البشر، حتى لو اختبأ كل ذلك خلف ابتسامة مبهجة ودود.