بين قهوة المفرق، وقوة الزمن: وقفة تحليلية

بقلم: د. كاميليا عبد الفتاح
أستاذة مساعدة في جامعة الباحة، سابقا

“في قهوة ع المفرق” واحدةٌ من أغاني مسرحية “لولو” التي قدمتها فيروز عام 1974م، كما هو مذكور في كل ما يتصل بالتاريخ الفني لأعمالها مع الأخوين رحباني، أمّا أغنية الفنانة شادية “أقوى من الزمان” فقد صرّح الشاعر مصطفى الضمراني أنّه كتبها حين طلبتْ منه الفنانة شادية أن يكتب لها أغنية وطنية، وأنها – كما تابع في تصريحه – عهدت إلى الموسيقار الكبير عمّار الشريعي بتلحين الأغنية، وقدّمته إلى الجمهور من خلالها، حين غنّتها عام 1975م. وقد أوردت كثيرٌ من الصحف في مواقعها الإلكترونية نص الحوار الذي أُجْرِي مع مصطفى الضمراني بهذا الصدد، من ذلك صحيفة المصري اليوم 1)، فضلا عن كثير من المواقع الإلكترونية المهتمة بفن الأغنية وأخبار المطربين والملحنين.
رغم هذه الإشارات التي تؤكد الأسبقية الزمنية لأغنية فيروز، إلّا أنَّ هذه الأسبقية لم تشغلني بالقدر الذي شغلتني به أصالتُها الإبداعية، ووضوح انتسابها إلى تراث الرحبانية، إلى الحد الذي بدت لي فيه هذه الأصالة الإبداعية كافية لإثارة القول بتأثير أغنية “في قهوة ع المفرق” لفيروز في أغنية “أقوى من الزمن” لمصطفى الضمراني، وذلك من جهتين:

الأولى:وضوح التماس بين هذه الأغنية وبين كثير من أغنيات الرحبانية التي تدور حول موضوع الحنين، والذكريات، وسطوة الزمن.

ثانيا: اكتمال الشروط الفنية لهذه الأغنية بوصفها حكاية شعرية مكتملة العناصر .
وفيما يتصل بالمسألة الأولى،تكادُ تكونُ “تيمة” الحنين، وانبعاث الذكريات – من خلال بؤرة بعينها – سمةً فارقةً لأعمال الرحبانية مع فيروز، إلى حدٍ لا نحتاجُ فيه إلى الحصر قدرَ احتياجنا إلى بعض الأمثلة الدالّة من هذه الأعمال. من ذلك أغنيتُها “طيري يا طيّارة” التي اشتعلتْ فيها ذكريات الماضي من انطلاق طائرة ورقية على سطح الجيران، فترافق تحليق “الطيّارة” مع تحليق الذاكرة خلف سنين الطفولة والصبا:

“علّي فوق سطوح بعاد ع النسمة الخجولة/ أخذوني معهن الأولاد وردّوا لي الطفولة ضحكات الصبيان وغناني زمان/ردّتْلي كِتبي ومدرستي والعمر اللي كانوينساني الزمان على سطح الجيران.”

ويُطالعنا الدكان القديم يؤرة الذكرى والتذكر في أغنية “حنّا السكران”، حيث كان هذا الدكان مسرح حكاية العشق القديم، والحائط الذي رسم فيه العاشق ما بقي في ذاكرته من ملامح بنت الجيران:
كــان الزمان وكان فى دكانة بالحي ،وبنيات وصبيان نجى نلعب عالمي”
يبقى حنا السكران قاعد خلف الدكان/ يغنى وتحزن بنت الجيران ”
ثم :” حلوة بنت الجيران راحت بليلة عيد/ وانـــهدت الدكان واتعمر بيت جدي
وبعده حنا السكران على حيطان النسيان/عم بيصور بنت الجيران . “
كذلك كانت الطاحونة في أغنية “كان عنّا طاحون” هي بؤرة الذكرى. وفي بعض الأغنيات يكون الزمن هو البؤرة لتدافع الذكريات ومثول الماضي،كما في أغنية “كنّا نتلاقى في العشية”، و “ليالي الشمال الحزينة”،و ” رجعت الشتوية، وكذلك أغنية “ورقو الأصفر” – كلمات جوزيف حرب وألحان فيليمون وهبي:
” ورقو الأصفر شهر أيلول.. تحت الشبابيك/ ذكّرني وورقو دهب مشغول.. ذكّرني فيك”
كذلك أغنية “هونيك فيه شجرة” التيكتبها الرحبانية عام 1963م، والتي ترددت فيها مفردات قاموسهم الشعري المتميز – ومنها مفرق الطريق التي طلعتنا في أغنية “في قهوة ع المفرق”:
“وضاع الهوى “وتغيرت فينا الدنيا / وبعدها الصورة ناطرة حد الطريق /
يا شجرة الأيام غيرنا الهوى / متلك أنا شجرة على مفرق طريق “
تندرج كثيرٌ من الأغنيات التي أشرنا إليها تحت جنس الحكاية- أو المحكية – الشعرية، حيث تضافرت عناصر القصة – السرد والشخصيات والزمان والمكان والحبكة والأزمة – مع عناصر الشعر المعروفة. يطالعنا هذا التضافر بوضوح في ” حنّا السكران “، و” كان فيه عنّا طاحونة ” – وغيرهما – كما يطالعنا بقوة فنية في الأغنية مدار هذا الحديث: في قهوة ع المفرق.
ثانيا،بالنسبة لاكتمال الشروط الفنية لهذه الأغنية بوصفها حكاية شعرية مكتملة العناصر: “في قهوة ع المفرق” لم تكن أغنية تقليدية تشبه تلك الأغنيات التي تخضع لمنطق التداعي والاسترسال في المشاعر، بل هي حكاية شعرية مُحكمة البناء، التزمت بالشروط الفنية لعناصر الحكاية، وعناصر الشعر، معا، فضلا عن استعمال بعض هذه العناصر استعمالا رمزيا، أضفى على المعاني كثيرا من العمق، وذلك بدءًا من العنوان. فمفردة المفرق في العنوان – “في قهوة على المفرق”. لم تدل فقط على موقع هذه القهوةفي مفرق طرقٍ، بل دلّ على وجود منحنى زمني، وخضوع الشخصيات – والمكان – لتحول – وتقاطع – زمني بين الماضي والحاضر، أو مرورها بمفرق زمني:
العاشقة (الساردة)، الحبيب (الذي قدمته الأغنية في شكل ذكرى)، الصحاب (كِبروا). فضلا عن عنصر المكان الذي خضع لهذا التحول الزمني، بدورِه: الشوارع، الطرقات، البيوت (عم تكبر/ عم تكبر) ورق الشجر الذي دلّ اصفرارُه على تقدم عمر الشخصيات (يا ورق الأصفر/ عم نكبر عم نكبر)، الدنيا كلها (بتخلص الدّني). كيانٌ وحيدٌ في هذه الحكاية يقفُ متماسكا في وجه الزمن، هو الوطن الذي بدا عصيّا على التحول والتغير: (مافي غيرك يا وطني/ بتضلّك طفل صغير)،وحده الوطن ظلّ طفلا لا يشيخ، ولا ينال منه الزمن.
يطالعنا تقاطع الماضي والحاضر من خلال ظهور عاشقين جديدين في الأحداث، يجلسان في القهوة ذاتها، على المقعد الذي كان شاهدا على قصة حبّ العاشقة –الساردة- وحبيبها. العاشقان الجديدان يعيدان تمثيل الحكاية ذاتها، يبدوان رمزا لشباب الزمان وجدّته: (جيت لقيت فيها عشاق اتنينزغار/ قعدوا على مقاعدنا/ سرقوا منّا المشوار). المكان يتقدم على الزمان في هذه اللقطة أيضا: مقاعدنا ، ثم المشوار .
كان التقاءُ العاشقة القديمة بالعاشقين الصغار– في القهوة – يمثلُ معنى من المعاني التي حملها رمزُ “المَفْرق”، فهذا اللقاء مفرق زماني، لأنه لقاء بين قصة حبها القديمة بقصة الحب الجديدة التي تحتضنها القهوة في بدءٍ جديد. ولهذا، ومن واقع صدمة هذا اللقاء بالزمن – وجها لوجه – تنفتح ذاكرة العاشقة، وتندفع منها الذكريات اندفاعا عاصفا (مثل السهم الراجع من سفر الزمان) تتدرجُ فيه أزمتها من الخاص إلى العام، من غصة انتهاء حبها القديم– ووجع ذكرياته– إلى تقبّل سيرورة الزمن، وتقبل فكرة زوال الأشخاص، وبقاء الوطن.يطالعنا النمو الدرامي في العاطفة والحدث، معا، على هذا النحو:
تنطلق العاشقة خارجة من القهوة “متل السَّهم الرَّاجع من سفر الزّمان“، يصبح وعيها بالهوة الزمنية – والاغتراب – حادا (قطعتْ الشّوارع ما ضحكلي إنسان)، تنتبه بحدة إلى انتسابها إلى الماضي (كلّ صحابي كبروا واتغيّر اللّي كان)، (صاروا العمر الماضي/ صاروا دِهَب النّسيان) تكبر دائرة الاغتراب، فتبصر كل تفاصيل الواقع قد شاخت مثلها: (يا ورق الأصفر/ عم نكبَر عم نكبَر/ الطّرقات البيوت/ عم تكبَر عم تكبَر) يبدو الزوال نهاية كل شيء – لا قصة حبها وحدها – ويبدو الوطن فتيا: بتخلَص الدّني وما في غيرَك يا وطني بتضلّك طفل زغيّر.
تبدأ أغنية شادية بعنصر الزمان (لما كنا صغيرين) ، ثم المكان (كان فيه مكان صغير دايما تقابلني فيه)، وتفاصيل المكان وتفاصيل الحكاية التي لا تضيف للتصاعد الدرامي شيئا: فاكرة زهر البنفسج، فاكرةضل الشجر. وتفاصيل العاشقين: فاكرة لمسة إيديك/ وحنان نظرة عينيك/ فاكرة ومش ناسية أبدا/ أيام ماكنا نسهر نتونس بالقمر/ أيام ما كنا نسهر يضحك لينا القمر.
وتذهب الحبيبة إلى مكان اللقاء فيفاجئها وجود عاشقين بديلين لها ولحبيبها:
رحت تاني للمكان/ لقيت اتنين بدالنا عايشين نفس الحكاية/ ضحكة مالية عينيهم/ رعشة باينة في إيديهم/ عايشين نفس البداية.
ويطرح الشاعر فكرة التغير وتحول الزمن في عدة جمل مترهلة مقابل التكثيف والاختزال الفني في أغنية فيروز. يقول الضمراني: ضحكتهم ياترى/ فرحتهم ياترى/ حيخليها الزمن؟ ! دنيا وبتلف بينا / ترسم ضحكة عنينا/ وتدينا الأمل/ نغني للأمل/ ونعيش ويا الأمل .
ثم تأتي الخلاصة في أغنية شادية: (واتغير الزمان / واتبدّل المكان). ونتساءل هنا: لماذا – وما دلالة – تبدل المكان في هذه الحكاية؟ لكن الشاعر يصل بنا إلى فكرة بقاء الوطن واستعصائه علىتغير الزمن، حاصرًا حدود الوطن في مصر – في مقابل اتساعه وعدم تأطيره في أغنية فيروز – يقول مصطفى الضمراني:
لكن يا مصر إنتي/ يا حبيبتي زي ما انتي/ جميلة زي ما انتي وأصيلة زي ما انتي/ وإن خدعتني الأماني/ أو راح حبي في ثواني/ أرجع لك إنتيتاني/ ياصاحبة المكان/ يا أقوى م الزمان / وكل شيء يتغير / واحنا بنكبر ونكبر/ ونفارق بعضنا/ وتبقي يا مصر دايما / طفل حيفضل صغير / بنحبه كلنا)
لا يحتاج المتلقّي إلى طول تأمل ليلمس مدى التماهي بين أغنيتي فيروز وشادية – المشار إليهما –في: الفكرة العامة: مواجهة الزمن من خلال رحلة العاشقة إلى موطن الذكرى، والتسليم بخلود الوطن مقابل فناء الذوات والأشياء. يلاحظ المتلقي هذا التماهي بين الأغنيتين في كيفية المعالجة الفنية ، البؤرة الدرامية.
غنّت فيروز: (يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر)، فقالت شادية: (وكل شيء يتغير واحنا بنكبر ونكبر )
غنّت فيروز 🙁بتخلص الدني وما في زيك يا وطني/ بتضلك طفل صغير)، فقالت شادية:(وتبقي يا مصر دايما طفل حيفضل صغير/ بنحبه كلنا). ومن المهم هنا أن أُشير إلى أنّ تمظهر الوطن في صورة الطفل الصغير صورة فنية ترددت أكثر من مرة في أغاني فيروز مع الرحبانية، منها أغنية “وطني” التي قالت فيها: يا زغير و وسع الدني يا وطني .
غنّت فيروز: (جيت لقيت فيها عشاق اتنين زغار/ قعدوا على مقعدنا/ سرقوا منّا المشوار) ، فقالت شادية: (رحت تاني للمكان / لقيت اتنين بدالنا عايشين نفس الحكاية)
أُضيف إلى ذلك الفارق الفني بين كلمات الأخوين رحباني وكلمات مصطفى الضمراني، حيث اتّسمت الأولى بالسمة الرمزية التي طالعتنا في توظيف الموقدة، النار، الورق الأصفر، المفرق. في مقابل المباشرة في كلمات مصطفى الضمراني، واضطراب بعض التعبيرات في أداء الدلالة، كما في قوله:
(وإن خدعتني الأماني/ أو راح حبي في ثواني/ أرجع لِك إنتيتاني….إلى آخر ) حيث بدت مصر ملجأ أخيرا لمن ضاعت قصة حبه وأمانيه، وبدا الرجوع للوطن مرهونا بضياع قصة الحب، لا اختيارا أساسيا مفروغا منه. هذا فضلا عن التكرار الذي لمسناه في تفاصيل القصة العاطفية، هذا التكرار الذي جعل البطولة لقصة الحب، لا للوطن، وقد اشرتُ إليه سابقا في قول الضمراني:
ضحكتهم ياترى / فرجتهم يا ترى
وقوله:بتدينا الأمل / نغني للأمل / ونعيش ويا الأمل .
1- https://www.almasryalyoum.com/news/details/1594245

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى