الشاعر والناقد المصري عبد الحكم العلامي وناصر أبوعون يتحاوران في جريدة عالم الثقافة

القاهرة | خاص

(1) عودة إلى البدايات.. متى اكتشفت قارة الشعر المفقودة داخل جغرافية روحك المتوثبة؟ وكيف ولجت إلى أبواب القصيدة؟
جواب:
||| دعك من الإرهاصات الأولى التي بدأت في المرحلة الثانوية، فهي محاولات لا يعوّل عليها كثيرًا، لكن البدايات الحقيقية حدثت منذ العام الأول لالتحاقي بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة في بداية الثمانينيات ، حيث انضممت على الفور إلى جماعة الشعر هناك التي كان مقررًا لها في ذلك الوقت واحد من أهم شعراء جيلنا، الراحل مشهور فواز، داومت على حضور ندوات هذه الجماعة ، إلى أن جاء الميلاد الحقيقي لي كشاعر ، ذلك الميلاد الذي تمثل في قصيدة لي وقتها عنوانها “بذور التوحد”أسمعتها إلى صديقي مقرر الجماعة وقد كان شاعرًا راسخًا على الرغم من كونه زميلًا لنا ، غير أنه كان ينحدر من أسرة شعرية عريقة / أسرة آل الأنور ، فقال لي : يا عبد الحكم أنت الآن أصبحت شاعرًا بالفعل، فقلت له: ماذا ؟ أتعني ما تقول يا صديقي؟! فقال: نعم ، القصيدة موزونة تمامًا ولغتها رائقة وخيالها خصب، وأنت ستشارك معنا بها يوم الثلاثاء القادم _ وقتها_ في برنامج “مع الأدباء الشبان” الذي كانت تعده وتقدمه الرائعة الأستاذة/ هدى العجيمي ،فما كان مني إلا أن طفقت أقبل رأسه ويديه وهو يشيح بوجهه عني ضاحكًا، كدت يومها أطال السماء من شدة الفرح، ومن يومها أصبحت عضوًا فاعلًا في جماعة الشعر، حيث توالت قصائدي التي كنت أعرضها قبل إلقائي لها على صديقي مقرر الجماعة رحمه الله!
وفي عام 1990 ميلاديًا صدر ديواني الأول “حال من الورد”، ثم توالت إصداراتي بعد ذلك والتي تمثلت في دواوين: “لا وقت يبقى، موسيقا القرب ، رطب الصيف، حواف الممشى، سارق الوجد، وهناك ديوانان تحت الطبع هما : قطيفة الوقت، كلام أقل مقام أعلى” وبعد حصولي على درجتي الماجستير والدكتوراه من قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة عين شمس، انخرطت في مجال كتابة النقد موازيًا بينها وبين إبداع الشعر، فجاءت إصداراتي من الكتب النقدية على هذا النحو: ” الولاء والولاء المجاور بين التصوف والشعر، الخطى والأثر في تجربة أبي سنة، حركة الفعل الشعري في المشهد المصري، بلاغة العرفان في الأدب الصوفي، ثم كتابي الأخير: علة الشعر شعرية النوع” وهناك كتابان تحت الطبع هما: “محايثات القناع في الشعر، دكتوره “زينب أبو سنة” على موائد العرفاء.”.

(2) تعريف الشعر بعيدًا عن الأدلجة والخطابين القومي والعقائدي،بما يدعم مرتكزات الهوية الثقافية؟
جواب:
||| الشعر كائن زئبقي مراوغ، يتأبى على اصطياده ، أو وضعه في صيغة يضمها إطار، فمنذ أن قيّده “ابن قتيبة” في كونه الكلام الموزون المقفى، ثم فكّ هذا القيد بعد ذلك “أرسطو” في مقاربات أكثر التحامًا بجوهر الشعر، أقول بين هذا المقيّد ، وذلك المطلِق، الشعر يظل فوق هذا، وذا ، فهو حراك إنساني ذو طبيعة صيرورية عابرة للثقافات، وملتحمة بالحضارات، والشعر يقف وحده ربما بوصفه الناطق الرسمي بلسان إنسان هذا الزمان معبرًا عن آلامه وطموحاته، وداعمًا لرغبته في التحرر والخلاص!

 

(3) يُطْعَنُ في الحداثة بوصفها إنجازًا غربيًّا، وهي كذلك بالفعل، أليس من حداثة عربية وكيف يسهم الشعر في تأصيلها؟
جواب:
||| أختلف كثيرًا مع القائلين بأن الحداثة إنجاز غربي صرف، بل أقول ليست هي كذلك، فهذا الكلام يحتاج إلى مراجعة فيما بيننا وبين مثقفينا ومنظرينا ونقادنا وشعراءنا، فإذا سلمنا بهذا القول سالف الذكر عن الحداثة ، أين إذن نضع كتابات “عبد القاهر الجرجاني” خاصة في سفريه العظيمين: “أسرار البلاغة، دلائل الإعجاز” ، وفي أي موقع نصنف كتابات “ابن جني” “في الخصائص” على سبيل المثال، وماذا نحن قائلون عن مؤسس علم البديع الشاعر والخليفة “ابن المعتز” ثم نظرية الخيال عند “ابن عربي” التي تتحدث عن لونين من الخيال: أحدهما الخيال المنفصل، وثانيهما الخيال المتصل، تلك النظرية التي سبق بها كتابات الرومانسيين من الشعراء الإنجليز أمثال: “كولريدج” الشاعر والناقد والمشتغل بالفلسفة الذي عاد ليتحدث عن نظريته في الخيال فيما عرف لديه بالخيال الأول والخيال الثاني، هذا فيما يتعلق بالأقدمين أما عن المنظرين والنقاد المحدثين من العرب فحدث ولا حرج فبأي لغة نتحدث عن كتاباتالدكتور” مصطفى ناصف” خاصة في كتابيه: “اللغة والتفسير والتواصل، وكتابه فائق الأهمية الصورة الأدبية”، وغيرهما ، إضافة إلى كتابات الدكتور”عبد العزيز حمودة” الذي نذكر له بكل تقدير واعتزاز كتابيه: “المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، والمرايا المقعرة نحو نظرية نقدية عربية” وكتابات الدكتور “جابر عصفور” أحد المؤسسين الكبار لما يعرف بالحداثة في نقدنا العربي الحديث، هذا على سبيل المثال لا الحصر. أما عن دور الشعر، فالشعر يا سيدي هو القاطرة التي تقود هذا الحراك ذا المنزع الحداثي، لأنه – بطبيعته- كائن من سماته الأساسية التطور من خلال ملاحقته لحركة الزمن، وهي تحدث أثرها في الأشياء ومنها الشعر باعتباره كائنًا حيًا، وأنا أذكّرك بموقف “أبي نواس” من المقلدين لبنية القصيدة العربية في منجزها الأول، خاصة فيما يتعلق بالأطلال، ومقدمات الوقوف عليها حيث نجده يصرخ في وجه هؤلاء المقلدين من الشعراء الذين ما يزالون يقفون على الأطلال – على زمانه – في طرحهم الشعري قائلاً:
قل للذي يبكي على رسم درس
واقفًا ما ضرّ لو كان جلس!!
فيما أحسبه سخرية لاذعة من موقف هؤلاء غير المتوافق مع حركة الزمن، بل أرى أن هذا البيت كان بمثابة المعول العملي الذي بدأ ضربته الأولى مخلخلًا هذه الثوابت التي بدت متعارضة تمامًا مع الزحف الحضاري خاصة في العصرين الأموي والعباسي.

(4) رزح الشعراء العرب في العقود الثلاثة الأخيرة تحت نير العديد من المتغيرات السياسية والاجتماعية، محاطين بسياج اقتصادي شائك مما خلّف آثارًا خطيرةً على الإبداع.. كيف يمكننا الانفلات من هذه الأزمة والخروج بأقل كلفة من الخسائر؟
الجواب:
||| الخروج من هذه الأزمة و الإفلات منها _في رأيي_ يتمثل في العمل سريعًا على مراجعة بلاغتنا العربية العتيقة و مصطلحاتها التي تربينا عليها فهي، و هي على هذه الحال بلاغة عرجاء تمشي بساق واحدة لأنها تحتفي بمراعاة حال المخاطب “بفتح الطاء” في إغفال يكاد يكون تامًا لمراعاة حال المخاطب بكسرها، فهي تدّعي في مصطلحها الشهير الذي يتمثل في أنها أي البلاغة: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال،, وكيف أنه ينبغي أن يكون لكل مقام مقال! و في المذكرة التفسيرية لهذا المصطلح المزدوج تكمن الكارثة, فكلامك_ حينئذ_ للسوقة, غير كلامك للملوك, وكلامك للخفير غير كلامك للأمير وهكذا عليكأن تتلون في كل موقف حتى تراعي حال المخاطب “بفتح الطاء” أما عن حالك أنت فينبغي أن تخفيه وتتحامل عليه لئلا يغضب حال الآخر/ المخاطب “بفتح الطاء” إذا ما أبديته له, وقد كان لهذا المصطلح البلاغي الذي تم تلقيننا إياه عنوة, كان له عواقبه الوخيمة فيما يتعلق بحرية الرأى والتعبير, فما إن عبّر “الحلاج والسهروردي” عن حالهما _على سبيل المثال_ حتى حكمت عليهما بلاغتنا المتوارثة و زبانيتها بالزندقة والخروج من الملة, و كانت نهايتهما التعذيب و التنكيل و القتل في أبشع صوره, و حينما عبّر الإمام “أحمد بن حنبل” عن رأيه في مسألة خلق القرآن، معارضًا لها اتهم و خوّن وزجّ به في غيابات السجون فقط لأن هؤلاء, وأمثالهم قد عبّروا عن أحوالهم, وأبدوا آراءهم, ذلك الإبداء الذي لم يرضِ زبانية البلاغة القديمة التي ترى أن هؤلاء لم يراعوا ما اتفق عليه القطيع ممن تربوا على تلك المصطلحات البلاغية التي يصب نتاجها في خدمة المؤسسات الموالية للحاكم قديمًا, وفي عصرنا هذا, بل و في لحظتنا الراهنة تلك. والمثير حقا, و الذي يدعو للأسى أن هناك مصطلحات متوازنة تقيم العدل بين المخاطب “بفتح الطاء” والمخاطب بكسرها, تتمثل فيما أورده “الجاحظ” _على سبيل المثال_ في “البيان والتبيين” الذي مؤداه: “أنه ينبغي أن يكون المُفهِم لك, والمُتفهَّم عنك شريكين في الفعل, هكذا, وهكذا, وأنه يكفي من حظ البلاغة ألّا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق, وألّا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع” على حد قول “إبراهيم بن محمد الإمام”هذان المصطلحان المتوازنان اللذان يتيحان لكل من المخاطب “بفتح الطاء” والمخاطب بكسرها, يتيحان لهما تبادلا للمواقع في عملية المراعاة المندوبة لأحوال كل منهما, غير أن مثل هذه المصطلحات المتوازنة تم التعمية عليها, و إقصاء عملها حتى تفسح المجال لمصطلحاتهم الأخرى التي تتوافق مع رغبات الملوك والساسة, و تتماشى مع رؤى المنتفعين بتقربهم من بلاط هؤلاء الملوك والساسة, وهذا يا سيدي ما انعكس على طرح العديد من الشعراء, إلا ما ندر من شعراء الرفض الذين صاروا منبوذين في أوطانهم، و مطاردين خارج أوطانهم في واقعنا العربي المعيش!!

(5) ما أبرز ملامح قصيدتك الشعرية دونما التَّماس مع تجربة جيلك الإبداعي؟ وكيف يتحقق الشاعر في ظل تداخل السياسي الإقصائي مع الإبداعي الديموقراطي وتجاذبات الشللية المقيتة التي تستقطب أنصاف المبدعين والمتعلمين؟
جواب:
||| ربما يكون من نافلة القول أن أذكّر بأن حديث الشاعر عن تجربته قد تجانبه أحيانًا المصداقية, و لذلك من الأولى أن يقوم ناقد متخصص بالحديث عنه, و عن تجربته نشدانًا للموضوعية والمصداقية على السواء, ولكن بإمكاني أن أتحدث من خلال بعض الآراء النقدية حول تجربتي الشعرية, فهناك – على سبيل المثال – الناقد الدكتور “حامد أبو أحمد” في تقديمه لديواني الأول “حال من الورد” قال إنني ألتمس مزاجًا شعريًا ذا منزع سوريالي حينًا, صوفي عرفاني حينًا آخر في مزج رؤيوي يتسم بخصوصيته, و فرادة طرحه. وقال عن تجربتي الناقد العراقي الكبير الأستاذ “ناظم ناصر القريشي” في معرض حديثه عن ديواني “حواف الممشى” بأنني أتجه في طرحي الشعري إلى ما أسماه: ابتكار العرفان شعرًا من خلال صوفية من نوع آخر تبدأ بالتأمل على موسيقى خطوات متناسقة ومؤتلفة كلحن هرموني… إلخ. و رأى الشاعر والناقد “محمود حسن عبدالتواب” أنني أكتب الشعر جماعة لأبعث فردًا, هكذا عنون دراسته عن ديواني “رطب الصيف” بمعنى أن الجمع في تجربتي الشعرية يزاحم الذات والفرد, ويتفوق عليهما, وأرى أن هذا القول من التأويلات التي تقترب من الحقيقة فيما يتعلق بتجربتي الشعرية. وقال عن هذه التجربة الناقد والمترجم العراقي الأستاذ “أحمد فاضل” متحدثًا عن الديوان نفسه : هو شاعر وناقد يضعه اشتغاله الثاني في دائرة صعبة _كما أعتقد_ لأن كل ما كتبه و سيكتبه من شعر يجب أن يخرج بالصورة التي يوافق عليها ذلك الاشتغال و هو صراع بين إرادتين قلما يتم التوفيق بينهما! أما الشق الثاني من السؤال الذي يتعلق بكيفية تحقق الشاعر في ظل تداخل السياسي الإقصائي مع الإبداعي الديمقراطي فيمكنك العودة إلى ما طرحته في الإجابة عن تساؤلك السابق.

(6) لم يعد الشعر العربي يطرح أسئلة وجودية.. ما السبب؟ ولماذا صارت “أسئلة الشعر حائرة بين منجزه التراثي، ووظيفته الاجتماعية والحياتية، وبين طارئ خلخل قواعد التعاطي الشعري العربي، بانفتاحه على التجديد والتطور الشعري” وفق تعبير عثمان حسن.
جواب:
||| لقد كان الشعر العربي و سيظل طارحا لأسئلة الغاية و المصير المتعلقة بمآلات الإنسان في رحلة صراعه مع الزمن، وهو يعمل على إفناء وجوده من على هذه الأرض, شهدنا ذلك – على سبيل المثال – في رثائيات هذا الشعر التي شكلت غرضًا من أهم الأغراض الشعرية سواء أكان ذلك في رثاء الموتى, أو فيما عرف برثاء المدن والممالك في الحقبة الأندلسية بعد زوال الحضارة العربية الإسلامية عن بلاد الأندلس هكذا, ثم ماذا بإمكاننا أن نقول عن حديث المتنبي عن الزمن و ملاحقته لخطى الإنسان على هذه الأرض:
صحب الناس قبلنا ذا الزمان
وعناهم في شأنه ما عنانا
وتولوا بغصة منه
وإن سرّ بعضهم أحيانا
…إلخ
وفي عصرنا هذا يتمثل ذلك اللون من الطرح ذي النزعة الوجودية في كتابات “صلاح عبدالصبور”خاصة في ديوانيه:” تأملات في زمن جريح” و”الإبحار في الذاكرة”, إضافة إلى عدد من القصائد للشاعر “أحمد عبدالمعطي حجازي” نخص منها بالذكر قصيدته الشهيرة “مرثية لاعب سرك” وديوانه الأثير “مرثية العمر الجميل”, وسنجد هذا اللون من الشعر ممثلا في كتابات الأجيال اللاحقة بتفاوت نسبي بينها هكذا، فلكل غيبة وأوبة, ولكل وصال وانفصال, بل لكل لحظة من لحظات الفقد يعبّر عنها هذا الشعر هو – حسبما أرى – سؤال من أسئلة الوجود والوجودية, أما عن حيرة أسئلة الشعر بين منجزه الذاتي ووظيفته الاجتماعية والحياتية, فإنما يرجع ذلك إلى ما أطلقت عليه: علة الشعر, تلك العلة التي تتمثل في أسئلة الحداثة وتأثيراتها على حركة هذا الشعر, وتقلبات هذه الحركة مع فعل الزمن الذي يسعى إلى إثبات وجوده في توجيه مسارات هذه الحركة, بحيث تصبح قادرة على إحداث أثرها من خلال تساوقها مع حتمية التغيير التي هي سنة من سنن الله على هذه الأرض, لتقف أسئلة الشعر حائرة _بالفعل_ تأسيسًا على ذلك بين منظورين حسبما أرى: منظور يراه هاجسا عصي المنال مسرفا في النأي بعيدا عما ألصق به من أثقال و زوائد شكلانية ظلت تطارده قرونًا, ومنظور آخر مغاير يراه يقينًا مقصودًا ومتعينا ومتصالحنا عليه, و من بين هذين المنظورين تتولد الأفكار, و تنطلق الأطروحات.

(7) هل من دور ووظيفة للشعر؟ وما أهم ملامح الأزمة التي يعيشها الشعر العربي؟ في ظل غياب المؤسسات التنظيمية؟
جواب:
||| الشعر يا سيدي هو المحطة الأخيرة للضمير الإنساني في هذا العالم، ذلك الضمير الذي تآكل بفعل ما يعانيه إنسان هذا الزمان من خواء، وبفعل مساعي ذلك الإنسان ذات التوجه المادي ذي النزعة البرجماتية اللاهثة، وبفعل ما تحدثه المدنية الحديثة من أثر على روح ذلك الإنسان ونفسه المعذبين، مما يفاقم من آلامه، ويفجر من ينابيع أحزانه التي يكشف هدير سطحها عن أغوار بعيدة من الشقاء والتعاسة! والشعر يا سيدي – كما ذكرت آنفًا- هو حراك إنساني يقف وحده ربما باعتباره الناطق الرسمي بلسان إنسان هذا الزمان معبرًا عن آلامه وطموحاته، وداعمًا لرغبته في التحرر والخلاص، أما عن أهم ملامح الأزمة التي يعيشها الشعر العربي في ظل غياب المؤسسات التنظيمية، فيمكنك العودة إلى إجابتي عن سؤالك سالف الذكر فيما يتعلق بوقوف الشعر العربي حائرًا بين منظورين: منظور حداثي طليعي، ومنظور آخر سلفي محافظ، وربما سيظل الشعر رهينة بين هاذين المنظورين إلى حين!

 

(8) تكاد القطيعة ما بين القارئ والشعر العربي الحديث أن تصبح شاملة.. ما العوامل التي أدت إلى هذه الأزمة؟
الجواب:
||| الحق – حسب تجربتي – يتمثل في وجود هذه القطيعة – بالفعل – بين القارئ والشعر الحديث بمستويات متفاوتة، ولكنها ليست بالقطيعة الشاملة، بمعنى أننا كشعراء نشارك في فعاليات، ونقف على منصات الشعر، ونصدر دواوين على مدار الساعة، وهناك الكثير ممن يسمعنا ويتفاعل معنا، بل ويكتب عن تجاربنا في مصر، وخارج مصر. القطيعة إذن ليست شاملة ولكن العوامل التي أدت إلى وجودها اللافت – كما هو حادث – يتمثل غالبًا في المنجز الشعري السبعيني، ذلك المنجز الذي سعى إلى طرح شعري قوامه التعمية والغموض حينًا، وحينًا آخر فيما درج عليه هذا الطرح من شكلانية حادة تمثلت في كتابة القصيدة على شكل مثلث، وكتابتها على هيئتي الكف والقدم، وكتابة النص الشعري مزيلًا بالهوامش والشروح، وكتابتها على هيئة معاجم، وما تلى ذلك من تخاريف فيما أسموه بالفراغ الطباعي الملغز، ذلك الفراغ الذي يقودك عنوة إلى أن تكون ماهرا في تفعيل نظريات الجشطلت بما تنطوي عليه من ملء وغلق، وما إلى ذلك من كتابات ذات منزع شكلاني لا يخدم المقاصد المبتغاة من الأدب، تلك التي قوامها المتعة الفنية والاتصافات الجمالية، ثم تلى هذا الجيل السبعيني، جيل آخر يطلق عليه جيل التسعينيات، ذلك الجيل اتخذ هو الأخر معولاً معادلاً في عملية هدم العلاقة بين القارئ والشعر، تمثل هذه المرة فيما انطوى عليه طرحهم الشعري من نثرية فجة، وتساهل مقيت في قواعد اللغة، إضافة إلى ما انطوى عليه هذا الطرح من تطاول على المقدسات، فيما أطلق عليه التابوهات الثلاث: الدين، والجنس، والسياسة، كل هذه العوامل وغيرها من التأثيرات الأخرى ذات المنحى الاقتصادي التي جعلت الناس – في وطننا العربي خاصة – يلهثون وراء تحصيل لقمة عيشهم طارحين ما عدا ذلك وراء ظهورهم، أقول إن هذه العوامل مجتمعة كانت السبب المباشر – فيما أحسب – وراء إحداث هذه القطيعة!

(9) كثير من الأصوات تبشر بعودة القصيدة العمودية لتتسيد المناطق المضيئة في المشهد الشعري العربي.. هل تعتقد أن هذه بشارة أم خسارة في ظل أزمة النمطيّة والتكرار في الرؤية واللغة والصورة والإيقاع التي أصابت قصيدة التفعيلة خاصة، في إطار حركة الشعر العربي المعاصر، منذ ستينيات القرن الماضي، إلى حالة من السأم و”الإرهاق الجمالي”.
الجواب:
||| لا يمكنني بحال أن أعتبر العودة إلى كتابة القصيدة العمودية خسارة، تلك القصيدة التي تربيت عليها أثناء دراستي في كلية دار العلوم، وما زلت أعشقها وأردد ما أحفظه من نماذجها المضيئة في مجالسي مع قرنائي من الشعراء، بل أعتبر هذه العودة بشارة ، والحق أن العديد من شعراء جيلي يكتبونها ببراعة، مراعين في طرحهم الشعري لها أن يكون متساوقًا مع اللحظة الراهنة، ومتصالحًا – إلى حد ما- مع حركة الزمن، يأتي في مقدمة هؤلاء الشعراء: “أحمد إبراهيم جاد، علي عمران، محمود حسن عبد التواب، وغيرهم” ومن الشاعرات على سبيل المثال: “شريفة السيد، فوزية شاهين، وغيرهما” يلي هؤلاء ثلة أخرى تتجاور مع مسلك هؤلاء سالفي الذكر ، أمثال: “ياسر أنور، أحمد حسن، عصام بدر، وغيرهم” غير أن هذه العودة ما تزال محفوفة بالمخاطر فالغالب على هذه العودة – حسب متابعتي – أنها نمطية تكرارية تجتر أنساقًا وتراكيب سابقة التجهيز على المستويين: البناء الشكلاني والمضموني المستهلك! والذي أود أن أخلص إليه يتمثل في أن الشعر دائمًا يكمن في قليله ولا يصل إلى هذا القليل إلا ثلة محدودة تمتلك موهبة فارقة، وثقافة تخترق حواجز الثابت والمتصالح عليه، ساعية إلى بلوغ غايات أكثر رحابة من أجل العثور على لحظة الشعر النادرة / لحظة ورود الخاطر الشعري على قلب الشاعر في أبهى لحظات تحققه. أما عن حالة السأم والإرهاق الجمالي الحالة، فإن مبعثها_ فيما أظن_ ما انطوى عليه الطرح الشعري الراهن من النمطية والتكرار التي لم تصب قصيدة التفعيلة وحدها بل تعدتها حتى إلى ما عُرف بقصيدة النثر التي أصبحت هي الأخرى نمطية تكرارية في جُل طرحها. القضية إذن تتعلق بالشاعر، وبالشاعر وحده، فهو الذي يحدد من خلال موهبته وثقافته موقعه على خارطة الشعر متسعة الأرجاء ، محدودة المنافذ. غير أني أحترز هنا لأقول إن هناك شعراء من الموجة التسعينية يكتبون فيما يعرف بشعر التفعيلة، ويجددون فيه لغة وخيال ومضامين من أمثال: “حسن عامر، خالد رطيل، وسلمى فايد”.

(10) هناك فشل للنظريات النقدية الغربية التي تمّ شتلها في البيئة العربية وبتعبير فخري صالح (لا تتجذر في الواقع الثقافي وظلت مجرد أيقونات ثقافية نخبوية لا تتصل بحاجات حقيقية للثقافة العربية.. ما تقييمك للمنتج النقدي العربي المشتت بين الأكاديمي والصحفي الانطباعي؟
جواب:
||| أتفق تمامًا مع “فخري صالح” في أن هذه النظريات الوافدة قد تم تأكيد فشل زراعتها في واقعنا الثقافي العربي، وهي بالفعل ستظل مجرد أيقونات ثقافية نخبوية على غير صلة بحاجات واقعنا الثقافي العربي، أما عن المنهج النقدي العربي المشتت ، فبإمكانك أن تعود إلى إجابتي على سؤالك الثالث من هذه الروزنامة الجادة التي تتمثل في هذه الأسئلة، ولكن الذي أود أن أضيفه إلى ما طرحته في إجابتي عن السؤال الثالث يتمثل في أننا بحاجة ماسة إلى فيلسوف عبقري آخر يعادل” ابن رشد” في عمله على فلسفة أرسطو في ترتيبها وتبويبها وإقامة الشروحات عليها، أعني أننا بحاجة إلى ناقد فذ يقوم بالعمل نفسه لجمع الشتات النقدي قديمه وحديثه بقصد ترتيبه وتبويبه وإقامة الشروحات عليه، ناشدًا من وراء ذلك الوصول إلى نظرية نقدية عربية خالصة، تمامًا مثلما فعل “ابن رشد” مع فلسفة “ارسطو” وما انطوت عليه من نظريات.

(11) في ظل اتساع حرية التعبير على مواقع الإنترنت، وتحطيم جدار الاحتكار داخل الصحافة الورقية وظهور مصطلحات من قبيل: (المواطن الصحفي)، وشعراء (الفضاء الأزرق)، و(المؤسسات والصحف الإلكترونية)، و(الجوائز وشهادات الدكتوراه الفخرية) التي تتطاير في الفضاء.. ما ملامح مستقبل صناعة النشر؟.
الجواب:
||| أنا مع اتساع حرية التعبير، أيًا كانت وسائلها سواء في مواقع الانترنت، أو على وسائل التواصل الاجتماعي على تعددها، وأنا مع تحطيم جدر الاحتكار داخل الصحافة الورقية، بل مع تحطيم جدر الاحتكار أيًا ما كان موقعها، سواء في مؤسسات الدول أو الأفراد أو الجماعات، فالاحتكار وحده مذمة، وهو _أي الاحتكار – ينتمي بلاغيًا – كما أسلفت – إلى مراعاة أحوال الآخرين من المخاطبين بفتح الطاء، في إغفال يكاد يكون تامًا لمراعاة أحوال المخاطبين بكسرها. أنا مع كسر تابوهات هذه البلاغة، ليكن هناك ما يسمى بالمواطن الصحفي، ذلك المواطن الذي يقوم بدور غاية في الأهمية والخطورة في نقل الحقيقة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي القنوات الفضائية الأخرى، وإنني كذلك مع شعراء ما يسمى بالفضاء الأزرق، يكفي أنهم يعبرون عن أحوالهم، وطموحاتهم بعيدًا عن مضايقات الآخر الذي يودّ اعتبار حاله هو فقط، وتنحية الاعتبارات الأخرى التي تتعلق بأحوال الغير، فهم – أي شعراء الفضاء الأزرق – يودون إيصال رسائلهم في غفلة من مضايقات ذلك الآخر، وإقامته المشروطة التي يودّ أن يفرضها على أمثال هؤلاء بقصد نزعهم حريتهم في التعبير، تلك الحرية التي يبذل في سبيل تحققها الدم، ويحلو من أجل نيلها تقديم القرابين، غير أني لست مع شهادات الدكتوراه الفخرية التي أصبحت سبوبة مقيتة، لا تقيم وزنًا إضافيًا للحاصلين عليها، ولا تقدم ولا تؤخر في مكانة هؤلاء لدى العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى