أبو الأنوار

يكتبها: محمد فيض خالد

باتَ في ليالي الصَّيف الطّويلة، مصدر إسعادٍ وبهجة، ما إن يَحلّ الليل، وتتقدّم جحافله، إلّا وتراهُ قد توهّجَ توهج الثِّمار اليانعة فوقَ الحائطِ،كأنّ خيوطه قد نُسِجَت من الإشراقِ والنّقاء، مُشعِّا كثغرٍ، يفتح صوته في عنفوانٍ صَاخب، يَفح فحيح الواثق، يكاد يجيبُ بغيرِ لسان، يلقي في نفوسِ من حوله الطمأنينة، ليقضوا ساعات سمرهم في أنس وارتياح.
يختلف الناس إلى هالةِ نوره اختلاف الفراش وهوام الليل، في قريتنا ظلّ “عبد الرازق” المَلهى الوحيد الذي يستقبلُ زبائن التَّسلية في دكانهِ، تبدأ وصلة الانبساط والفرفشة من بعدِ صلاة العشاءِ، وحَتّى ساعات الفجر الأولى، في دربةِ الخبير، يعمد قبيل المغيب في ملء خزان “الكلوب” بالسبيرتو الأبيض، يطلق عليه في خُيلاء ٍ”أبو الأنوار”، في عَبقٍ أثير ، تَعجّ رائحته نفاذة، لكنها تنعش الأنوف التي تَحلَّقت، وقد اضطرب الأمل في قلوبها الغضة، جاؤا خصيصا كي يحضروا هذه المراسم ، وتلك عادتهم عند كُلّ مساء، إيذانا بيدءِ ليلةٍ جديدةٍ من اللّعبِ .
ساعتئذٍ تأخذُ صاحبنا الجلالة، يبدأ في دنَدنةٍ خافتة، تقطعها تنهيدة خفيفة مُفتعلة، يَهرش رأسه مُتَهلِّلا، يُطلِقُ عقيرته ثانيةً في تَلطّفٍ:”الرتينة زي الفل بالصلاة على النبي”، يعودُ لعملهِ في صمتٍ، قبل أن يخرج من جيبهِ علبة الكبريت ، يحكّ العود بقوة، يسلم اللهب لتلك الزبالة الرقيقة، سريعا تطلق لسانها بالنور، يتلألأ المكان من حولهِ غارقا في ونسٍ، كَشمسِ الضُّحي.
يتغامز الصغار في ريبةٍ، يكتمون ضحكة ثقيلة، تفيض بها حنوكهم الممتلئة بطعامها، يبدأ صاحبنا في سردِ حكايته المملة، يُردِّدها في استعبارٍ وتأثر، يقول في انفعالٍ :”الكلوب دا خطر.. عايز واحد صاحي!”، في كل حينٍ يذكر تفاصيل قصته الرائجة، عن “صادق مدكور” الذي التهمت نيران “الكلوب” ذراعه في توحشٍ، يواسيه قليلا في مأساتهِ، قبل أن ينفجر مُوبِّخا رعونته لاعنا استهتاره، في ابتسامٍ وبشر، يَهرش شعرات صدره مُنتَشيا، ثم يرفعه في جرأةٍ، يُعلِقهُ في خُطافٍ تدلى من سقفِ الدُّكان، تهشّ في وجوهِ الزَّبائن الذين تهافتوا الفرحة، يطالعون نوره الأبيض لتَتدفق حكايا السّهر، وسط أكوابِ الشّاي وقد علت رغوتها الصَّفراء الساحرة، وخيوط الدخان المُتَصاعِد من أعناقِ “الجِوزة” كما الأفاعي، تتلاقى أصوات تكسير قشور الفول السوداني واللب مع وشيشه، فتسيل على الدرب والقرية جميعا، روحا طيبة لا توصف .
ظَلَّت قريتنا طويلا أسيرة طيَّعة لكلوبِ “عبدالرازق”، عن قناعةٍ تتَلذّذ لفتنةِ أنواره السَّاحرة، مُنفَرِدا في غرورٍ، يرسم ملامحَ الحياة فيها، لا يجرؤ أحد أن يُعلن عصيانه، معه يُولدُ النهار، ويموت الليل، وبهِ تنشط حركة الدروب وتخمد، وعلى وقع أنفاسه الملتهبة تغوص الدُّور بأهلها، ومع غيابهِ تنَزع عنها الحياة، فتعود هامدة كما القبور ،
لكنّ الدَّهر لا يبقى على حالهِ، وما أسرع مرور الأيام ودورانها، بعد هنيهةٍ سيطرَ كبرياء الغنى وبطر الثروة، بعض نفرٍ من الأُجرية، الذين ابتسم لهم الحظ وغرّّتهم الأمانيّ ، فعادوا بعد غربةٍ طويلة قَضوها في ليبيا والخليج، لتغزو أضواء “الكلوبات” بيوت القرية، تفكّ عنها طلاسم أعوام طويلة قضتها أسيرة “أبو الأنوار” ..
لم يبق لعبد الرزاق، غير الكلام وحسرة تملأ نفسه الأسيفة، يجلس على عتبةِ دكانه، يحكي للمارة حكاية “أبو الأنوار” عندما سَافرَ بصحبةِ حكيم الصحة؛ لتهنئة “أبو العزم” باشا، بمناسبةِ زفاف كريمته، كيف عادَ بهِ محمولا فوق الأيدي مهدهدا، لكن وجهه يعود مُسودَّا وهو كظيم، يُطاِلعُ “الكلوب” وقد داهمَ الصّدأ جسده الواهن، يطأطئ رأسه في خذلان، تتلوى ثعابين الذكرى من أمامه، تُحَاول لملمة كبرياؤه الجريح لكن دونما فائدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى