المشاهد السينمائية السردية عند أحمد الجنديل في رواية الرماد
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
أن كلمة (مشهد سينمائي) الفرنسية الأصل تعني قطع اللقطات السينمائية, ولصقها,أما في اللغة الانجليزية فتسمى مرحلة قطع اللقطات السينمائية,ولكن عملية وصل اللقطات بطريقة خلاقة أو الحصول على تأثير خاص-وهو ما توصل إليه السينمائيون الروس الأوائل- فتسمى مشهد/ مونتاج أيضا,وقد ترجمت في بعض الكتب العربية إلى (التوليف, والتقطيع)وأبقيت على تسميتها (مشهد) في أكثر هذه الكتب,إذ إن هذه التسمية تلم بكل مراحل تقنية المشهد,لأنها الأصل في التسمية, وتذهب أبعد من مجرد الإشارة إلى آلية القطع واللصق.
وفي الآونة الأخيرة أخذت الرواية العراقية تستعير من الفنون الأخرى بعض الأساليب الفنية التي تساند عملية البناء السردي, وتدفع بها إلى حالات تشكل سردي جديد تضمن لها حضورها, وديمومتها, مثل استعارة أسلوب الحوار من المسرحية,وتوظيف المعطيات السردية,وتيار الوعي من الرواية الحديثة, وكذلك استعارة الأنماط الفنية في فن الحكاية وتوظيفها.
وأخيرا تعاملت الرواية العراقية مع الفن السابع (السينما), واستعارت منه أسلوب (المشاهد السينمائية), إن هذه القراءة النقدية تعمل على كشف مدى إمكانية أن تكون الرواية العراقية المعاصرة قد أفادت من هذا الأسلوب الأخير (المشهد السينمائي), وتقنياته التي تعد بؤرة العمل السينمائي,متخذة من رواية (الرماد) للروائي الكبير (احمد الجنديل) أنموذجا لها,فلو أخذنا المرحلة المنتبهة التي تتجاوز المرحلة المباشرة إلى أساليب (المشاهد السينمائية) تدل على انتباه الجنديل في هذه المرحلة من استعمال هذه التقنية,أي المتجاوزة لمفهوم المشهد فيزيائيا ,هو ربط لقطة واحدة بأخرى, إلى مرحلة تحاول الإحاطة بعموم المشاهد السينمائية,وخير مثال على هذه المرحلة هي السيرة الذاتية لـ(جابر العثمان) في رواية (الرماد) ومن خلال الحديث عن الراوي جابر خميس العثمان, إذ استطاع المبدع الكبير الجنديل من تقديم (مشاهد سينمائية) في الرواية عند جمعها تتكون سيرة جابر العثمان فنراه يقول: المشهد الأول: جابر خميس العثمان تجاوز الخامسة والستين من العمر, له عينان كعيني صقر جريح, وانف محدودب, فتحتا منخريه ضيقتان تحتهما شارب مشذوب بعناية, فمه صغير/ المشهد الثاني: عاش في كنف والديه مدللا ينعم بالحنان والرعاية وعندما دخل المدرسة كان المتفوق على اقرأنه حيث اجتاز مرحلة المتوسطة والاعداية وسط إعجاب الجميع / المشهد الثالث: وفي ليلة تحالفت فيها قوى الطبيعة مع رجال الشرطة, اقتحم بيت خميس العثمان للقبض على جابر وإيداعه سجن المدينة تنقل بعدها من سجن إلى آخر حتى استقر في سجن السلمان الذي يقع على الإطراف البعيدة لمدينة السماوة/ المشهد الرابع: كان خميس العثمان إذا جلس في المقهى وجاء الحديث عن سيرة ولده يمتلكه الحزن فيسرع إلى إخفائه بسيل من العبارات التي تخرج من فمه بلا صعوبة/ المشهد الخامس : في صباح الأربعاء وبينما كان خميس العثمان في عمله, وصلت مجموعة من الشرطة إلى المجرشة واقتادوه إلى المعتقل بتهمة الاعتداء على احد رجال الحكومة في مكان عام.
إذ يتشكل المشهد السينمائي السردي في رواية (الرماد) من مشاهد سينمائية صغيرة جدا , وحركة المشهد تخرج من قوة الصدمة بين هذه المشاهد ,ففي اللقطة الأولى كانت الحركة واضحة, وهادئة, وفي وضع معلوم,ولاسيما بعد إعادة أول حركة في هذه اللقطة,وهي(جابر العثمان تجاوز الخامسة والستين من العمر) وهذه تقنية ثانية تناولها الروائي الكبير أحمد الجنديل وهي (الفلاش باك) إذ بدا المشهد بالحديث عن نهاية الرواية,ونهاية عمر الراوي إذ أعيدت هذه الحركة في منتصف اللقطة لتمثل على سهولتها استعمالا سهلا لأسلوب الاسترجاع,وذلك ليعزز حضور اللقطة ككل بأجوائها,ودلالاتها,وفي هذه اللقطة تبدو الحكاية السردية مباشرة من حيث,تواصل الصور وبناؤها, لان الروائي (أحمد الجنديل) منتبه في الإفادة من تقنية المشهد السينمائي ,وذلك من خلال القصدية التي جاءت بها اللقطة الثانية,وهي تحمل دلالات تملأ الرواية بالحركة إذ إن حركة هذه اللقطة مجهولة, ومرتبكة, ومع هذا الغنى في تنوع البنية, جاءت الرواية بموضوعات مستمدة من روح الواقع العراقي في عقد التسعينيات, إذ كان الجوع,وخسائر الحرب الفادحة,جديرين بإثارة القلق الوجودي في نفس الروائي الجنديل, واستنهاض كلمته المناوئة للواقع, والنافذة له, لتبوح (المشاهد السينمائية) في الرواية بمواجع الذات ,والآخر, وترسم خطا بيانيا للازمة التي تعصف بحاضر الإنسان, ومستقبله.
لم نلمح في تفاصيل الرواية بارقة لروح تزدهي بالأمل, أو الحب.. انكسارات,حروب,حزن, فوضى, قلق, انتقل بنا الروائي المبدع الجنديل إلى (مشاهد سينمائية) جديدة في حياة جابر العثمان وهو يشاهد ماسي الشعب العراقي فنراه يقول في المشهد الآتي: سقط أمام جابر صبي لم يكمل العاشرة من عمره اخترقته رصاصة في رقبته كانت شفتاه تتحركان بخمول أول الأمر بعدها أطبقت السكينة عليهما اقترب من الصبي حاول إبعاده عن طريق الحشد احتراما لمشهد الموت صافحت كفه اليمنى دم الصبي الساخن ,وهذا هو تعبير مشروع عن ذات محملة بالأسى لا لنقص فيها,وإنما بدافع الضغوطات الخارجية التي أجبرت الكل على الانصياع لإرادة قاهرة عندما تختار البقاء في فضاءات العنف المتوالية.
إن الروائي الجنديل في هذا المشهد/ مشهد الموت لم يكن مشهدا عابرا,وإنما استرجع ذاته المتبقية في الذات العراقية المسلوبة الإرادة في قوانين الحرب,وقوانين الموت,وقوانين التعسف التي مازالت باقية,وما زلنا نطبقها في هذا الزمن الجاري,لكل شيء بقية من الألم, والحزن, ولكن أليس للفرح في أعمارنا بقية؟ سؤال أزلي نطرقه ونحن نجوب في خارطة الحزن التي رسمها لنا الجنديل في روايته (الرماد), وهنا نرى الانتباه في استعمال تقنية المشهد السينمائي شيئا واضحا لدى الجنديل,وذلك في البناء ألمشهدي, مثل رسم المشهد السردي بلقطة عامة أولا, والاستخدام البسيط لأسلوب الاسترجاع ثانيا, فضلا عن تنظيم منظم بتوزيع الوحدات الديكورية, فضلا عن براعة الروائي الجنديل ونضجه في البناء المشهدي في روايته (الرماد), وذلك بصور كلية تأتلف في الرواية هذا هو الظهير البانورامي لعموم العمل التصويري في الرواية,إذ إن كل ما سيرد في مشهد الرواية يعود في عمله إلى الأخذ من هذه(المشاهد السينمائية) التي هي موجز عام لموضوع الرواية الذي هو تصوير مشهد,وهناك ثمة فضاءات شاسعة من وظيفة محتملات العلاقات التمثيلية في الرواية ,تصل أحيانا إلى درجة تفعيل المتمثل الضمائري, على وفق حدود بنيات,وتراسلات التناقد,والتشابك داخل حلقات هوية المحاكاة,والانعكاس الواقعي للملفوظ الخطابي,وبدلا من قراءة القارئ لعوالم الرواية بمشاعر تهتم بتحديد درجات السردية, والتأويل, وسوف نهم بدلا من هذا بتناول الرواية على أساس وجود اضمارات كشوفية بهوية المتحرر من طابعية السردي, وما هو غير سردي ,أي بمعنى أننا سوف نتعامل مع الرواية على أساس ما يترشح منها من أوجه صورية يومية لقطية, وإمكانيات نسقية في تعليل صنع دلائلية الخطاب الصوري في الرواية, فينقلنا الجنديل إلى مشهد سينمائي آخر لحياة الراوي جابر العثمان, فنراه يقول: عند دخول جابر غرفته كانت ميسون تتأمله بنظراتها الكسولة وبطنها تضيق بحملها صوت انفجار وصل إليه من بعيد وعيارات نارية ترسل أزيزا حادا عن قرب وتصارع رشقات في جوف الظلام همس جابر إلى ميسون متسائلا: من لقح هذا الوطن ليحمل في أحشائه هذا الكم الهائل من الدمار؟!
أن أثر هذه العلاقات النصية داخل حدود مجريات انجذاب القراءة,بموجب قابليات الدلالة التي هي حركية الطبيعة داخل تنويعات العلاقة النصية العامة للرواية, وهذا المشهد السينمائي يتكون من أربع لقطات موجهة,وأربعة أفعال سردية بعدها يأتي التعليق على ذلك وهنا نلاحظ مشهد المفارقة بصياغة مؤثرة إذ إن اللقاءين تمّا في المكان نفسه,وهما لقاء(جابر) ولقاؤه (بميسون) والمكان غرفتهما بدلالتيه المكانيتين الأفقية,والعمودية ,ففي اللقاء الأول كان المكان أفقيا يتجسد في (اللقاء الطبيعي بين الزوج وزوجته), وأما اللقاء الثاني فالدلالة عمودية, وذلك بدلالة (دمار العراق)والمفارقة تحدث من خلال هذين اللقاءين لتخرج صورة المشهد المكونة بين هذين اللقاءين,بعد ذلك تأتي اللقطة الأخيرة ليتم بها الغرض من اللقطة السابقة, لم يسمع إجابة ابتسم لها من جديد.