غياب الديمقراطية.. يهدم المعبد فوق جميع الرؤوس
محمد المحسن | تونس
بين عامي 1967 و1979 اثنا عشر عاما وعدة حروب وهزائم عربية. بين التاريخين أيضا حروب وانتصارات غير عربية.بين التاريخين كذلك عدة متغيرات عميقة شملت العرب وغير العرب المنتصرين والمنكسرين على السواء.
ولكن لماذا عام 1967 ولماذا عام 1979؟ ألأنهما بالنسبة لنا نحن العرب، هما على نحو ما تاريخ واحد؟ فالهزيمة العربية المدوية-وفي القلب منها كانت الهزيمة الناصرية-لم تثمر العلقم،إلا في معاهدة الصلح المنفرد، بمعنى أن العدو انتظر أكثر من عشر سنوات ليجني ثمار حرب الأيام الستة.
ألا يعني ذلك على نحو آخر أنّ مقومات الهزيمة،رغم حرب اكتوبر 1973، بقيت كما هي في الجوهر، حتى أنها حين تكرست بزيارة رئيس أكبر دولة عربية للقدس المحتلة،كانت تصرخ – تلك المقومات – بأنها الأقوى والأشمل والأعمق غورا في أرض العرب،من كافة المظاهر السطحية الأقرب إلى المظاهرات في مقدمة جنازة؟
وهل كان النموذج الناصري المهزوم عسكريا واقتصاديا واجتماعيا عام 1967 نمطا مصريا خاصا لا يقبل التعميم العربي،وهل كانت مصر-أكتوبر 1973 والخيمة 101 واتفاقية سيناء الثانية وزيارة العدو واتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة واشنطن-مصر مصرية،أم كانت مصر عربية شاملة، مجرد نموذج رائد في النهضة والسقوط للعرب جميعا؟
والجواب أنّ الناصرية كانت نموذجا لا حالة فردية خاصة بمصر،فغياب الديمقراطية كهمزة وصل بين التحرير والتنمية كان أسلوب كافة الأنظمة “الإصلاحية”العربية.
كما أن مصر-المعاهدة،هي النموذج المكثف لكافة الأنظمة السلفية.. فالهزيمة عام 1967 وتكريسها عام 1979 كانت إنجازا عربيا شاملا تحتل فيه مصر موقع الصدارة والمسؤولية بحكم قيادتها للنموذجين الإصلاحي والسلفي معا.عروبة الهزيمة تكاد ترادف بمعنى ما عروبة مصر، فأصل الأصول هو النمط الإقتصادي – الإجتماعي، وفرع الفروع هو زيارة “إسرائيل” وتوقيع المعاهدة. النمط الناصري الغالب على مختلف الأنظمة الوسطية،هو غياب الربط بين التحرّر الوطني والتحرر الإجتماعي، أي غياب الصيغة الديمقراطية القادرة وحدها – بمشاركة الجماهير المستفيدة من التحرر المزدوج – على صنع القرار وحماية تنفيذه.
هذا النمط تحت أسماء مستعارة، هو الذي رسّخ الهزيمة ولا يزال، في كافة النظم التي لم يحكمها عبد الناصر، بل وبعد غياب الرجل بعشر سنوات.
إنّ القبول العربي التدريجي والشامل لما كان مرفوضا من البعض وعبد الناصر بعده حي،كقرار مجلس الأمن رقم 242، أصبح القاسم المشترك – أو الحد الأدنى – ين العرب جميعا،الأمر الذي يعني أنّه الحد الأقصى لغالبية العرب.
مصر- السادات بدورها، ليست أكثر من”نمط”، فالإنفتاح الاقتصادي والتحالف مع أمريكا واغتيال كافة أشكال الديمقراطية، ودعم الإتجاهات الثيوقراطية وضرب العلمنة،كلها عناوين رمزية لأسلوب حياة وموت الأنظمة السلفية التي ترفض علنا الصلح مع العدو، وتقبل علنا أيضا كل ما دعا إليه السادات في ذروة الحرب من مؤتمر جنيف إلى الدولة الفلسطينية. يقبلون كل المقدمات ويرفضون بعض البعض من جزئيات النتائج وتفاصيل النهايات، وحتى هذه لا يرفضونها سرا.
على طول المسافة بين الهزيمتين،كان النظامان-الإصلاحي والسلفي-يلتقيان في الإرتباط البنيوي أخيرا،بالسلسلة الإستعمارية لدورة رأس المال العالمي..حيث القهر القومي والوطني والإجتماعي والفردي،هو المسلسل الحتمي التابع، الأمر الذي يكرّس “زحف الهزيمة الطويل”في التخلّف والديكتاتورية ونقصان السيادة الوطنية. وهو أيضا الأمر،الذي تتفرّع عنه حروب القبائل والعشائر والطوائف، وتغير اتجاه البنادق إلى حروب الإخوة.كما تتفرّع عنه مذابح الفقراء على موائد الأغنياء، ومجازر الحلفاء على موائد الأجنبي.يتدهور الإقتصاد ويتحلّل المجتمع وتزدهر الأمية الأبجدية والأمية الثقافية،وتنقلب بعض القيم الأساسية رأسا على عقب في زمن قياسي.
حرب لبنان،حرب مصر-ليبيا،حرب الصحراء الغربية،يكفي؟خطف على الهوية الدينية والعرقية والسياسية،من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.ومن الشمال إلى الجنوب تعذيب يفضي إلى موت.ومن قلب الكلية العسكرية في قلب العاصمة المصرية إلى الكلية الحربية في قلب حلب السورية،يستأنف المتطرفون الإرهاب الديني وحمل السلاح.والسجن العربي يضيق بسكانه من العرب،كالسجن الصهيوني تماما.ومن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى،تأتي علامة المهدي المنتظر الذي لا يأتي.ترتفع أسعار النفط في بلاد النفط،وأسعار القطن في مزارع القطن.وتغادر مياه النيل الوادي العطشان لتروي صحراء العدو،تماما كتحوّل النفط العربي الإسلامي في أنابيب أمريكا إلى قذائف إسرائيلية على جنوب لبنان.
إنّ خط الانكسار العربي،خلال تلك الفترة،كان يتناقض بصورة مأساوية مع صورة العالم من حولنا..فحين كانت تلتهب حرب لبنان عام 1975،كانت فيتنام تحصل على استقلالها من أعتى قوّة مسلّحة في التاريخ،وحين كان”أحدنا”ينحني من دون خجل أو وجل للعلم الصهيوني في مطار بن غوريون، كانت الوحدة القومية بين شمال فيتنام وجنوبها قيد الإنجاز.
وحين كان العرب يقتتلون قبائل وعشائر وطوائف،ويحرفون اتجاه البنادق عن العدو الواحد،وحين كانوا يستنزفون دماء بعضهم بعضا في المنافي ومستشفيات الأمراض العقلية وأقبية التعذيب في السجون السرية والمعتقلات العلنية،وحين كانوا يخطفون أنفسهم ويذبحون رقابهم ذبح الشاة،ويلقون بها في الأنهر والصحارى والغابات،وحين كانوا يتناسلون بسرعة وحشية لتنسي الليالي ما يجري في النهار،فتصغر كسرة الخبز ويزيد عدد الذين لا يعرفون الألف من كوز الذرة،ويقل عدد المستشفيات والمدارس والبيوت،ويزيد عدد الكنائس والمساجد..
حين كان يحدث ذلك كله كانت أنغولا تزيح عن كاهلها أركان امبراطورية دامت أربعة قرون،وكان البرتغاليون يزيحون عن كاهلهم سطوة ديكتاتورية دامت أربعة عقود،وكانت اسبانيا تتخلى عن صحراء المغرب، بعد أن تخلت عن شبح فرانكو. وكانت ايران بشعبها الأعزل تسقط أقوى قلعة مسلحة في الشرق الأوسط،وكانت نيكاراغوا تطيح بالديكتاتورية المتوارثة.
كان خط الإنكسار العربي يتناقض بصورة مأسوية مع بقية خطوط العرض والطول في خريطة العالم.. حيث يتلقى النمر الأمريكي – والقط الصهيوني بالتبعية – ضربات هائلة،بينما يقوم العرب دون غيرهم بتضميد جراح النمر الكسير والقط الهائج،بدموع أطفالهم ودماء شبابهم وماء الحياة لأجيالهم.
شهدت الاثنتا عشرة سنة بين الهزيمتين،متغيرات حثيثة في القيم الرئيسية لمسيرة التاريخ الاجتماعي-الثقافي للعرب.. فقد تراجعت الفكرة القومية تراجعا واضحا أمام تيارين:الديني والمذهبي من ناحية، والإقليمي والقطري من ناحية أخرى. كذلك تراجعت قضية التنمية أمام فكرة التحديث التكنولوجي. كما برزت قضية الديمقراطية،وكأنها البديل عن”التحرير” الوطني والإجتماعي، وأحيانا أخرى بصفتها الطريق الوحيد إلى التحرير.
وربما كانت مصر – مرة أخرى وليست أخيرة- هي البلد الأكثر دويا بما جرى في حقيقة الأمر، للعرب جميعا.. فالإقليمية والطائفية التي أفرزتها حرب لبنان ليست أقل من الشوفينية والإرهاب الديني في مصر. وما ظهر بارزا على السطح المصري أو اللبناني كان مترادفات سرية وعلنية في كل أرض عربية.
أردت القول إنّ الرؤية الجديدة لهذا الجيل (جيل اليوم)، عليها أن تكون الرؤية المضادة لجيل الهزيمة..الرؤية التي تضع الديمقراطية في مكانها القابض على التحرير الوطني من ناحية، والتحرير الاجتماعي من الناحية الأخرى.يجب أن تكون – أولا وأخيرا – الإستيعاب التاريخي المر: لا حرية للوطن ولا تقدم للمجتمع بغير الديمقراطية، وأي إنجاز هنا أو هناك في غيابها يهدم المعبد بأكمله فوق جميع الرؤوس.
إنها رؤية “الثورة الثقافية الشاملة” في مواجهة “الإصلاح الوسطي” و”الصمود السلفي”معا، اللذين يلتقيان في خاتمة المطاف.