مجالس العلم.. خواطر ودلالات (٢)

رضا راشد | باحث في اللغة والأدب والبلاغة | الأزهر الشريف

(معالم التحليل البلاغي لكلام العلماء)

ومازال الحديث موصولا مع مجلس قسم البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية بإيتاي البارود، وما زلنا مع الخواطر التي انبعث في الذهن من حضوره.

وقد قلت في المنشور السابق:
لقد وفق القسم في اختيار كتاب ثلاث رسائل في إعجاز القرآن مادة للمدارسة من عدة أوجه ذكرت منه أربعة، وهاك خامسها وآخرها:
(٥) أنه من المهم جدا أن نتعرف على التراث البلاغي في مرحلة ما قبل عبد القاهر، ولا سيما في قضية الإعجاز ؛ الرحمِ الأولى التي تخلقت فيها علوم البلاغة، بالإضافة للرحم الثانية؛ وهي كتب الموازنات الأدبية وشروح الشعر وغيرها، وفي ذلك فوائد جمة لمن يروم تبين مكانة عبد القاهر بين البلاغيين :من أين ابتدأ؟ وإلى أين انتهى؟ وكيف كانت الفكرة البلاغية قبل أن تمر على عقل عبد القاهر وكيف صارت بعد أن مرت بعقله؟ وما الذي أضافه للفكرة؟ ومن أي منبع كان ما أضافه؛ تعرفا على منبع هذه الزيادة، سواء أكان ذلك من نفسه أم كان من تراث أمته..وهذا كله أمر مهم جدا في تهيئة اللاحقين من البلاغيين لاقتفاء أثر السابقين.، ومعلوم أن اقتفاء آثارهم مستحيل لمن لم يتعرف على سبيلهم في بلوغ ما بلغوا.
وقضية ضرورة التعرف على مصادر العلماء الذين أسسوا العلوم وكيف استنبتوا من البذرة شجرة قضية ما برح لسان وقلم شيخ البلاغيين فضيلة لدكتور محمد أبو موسى يلهجان بالدعوة إليها والتأكيد عليها (^) ومما أثار إعجابي أيضا، ما اتخذ من معالم لتحليل النص جديرة بأن يوليها الباحثون عنايتهم، ومن أهم هذه المعالم ما يلي:
(١) التوجه بالتحليل إلى لغة أهل العلم، بدلا من أن كان الاقتصار به على لغة الأدباء، وهذا كان ولا يزال من الأبواب البلاغية التي حرص شيخ البلاغيين لا أخلى الله مكانه يحرض طلاب العلم على استحضارها في تحليلهم.
(٢) عدم اقتصار التحليل على جانب النظم التركيبي في إطار الجملة (تعريفا وتنكيرا،وذكرا وحذفا، وتقديما وتأخيرا …إلخ) بل ضم إليه تحليل النظم الترتيبي أيضا وقد تمثل ذلك في تحليل قوله تعالى (وتودون ان غير ذات الشوكة تكون لكم) للدكتور سعيد جمعة حيث لاحظ أن في بعض الجمل تقديما لها عن موضعها أو تأخيرا عن مكانها ثم علل ذلك تعليلا جيدا.
(٣) توسيع إطار التحليل ليشمل العمل كله؛ استبانة لمنهج الرماني في تحليل شواهد الاستعارة :ما هو؟ وهل خولف؟ وما سبب المخالفة إن وجد؟..وذلك كله من خلال النظرة الكلية الشاملة التي ترد آخر الكلام على أوله، وأول الكلام على آخره.
(٤) توخى التحليل رصد الظاهرة البيانية في كلام الرماني، ثم محاولة تعليلها وتفسيرها.
(٥) كذلك مما يحمد في أنماط التحليل التي طبقت في المجلس؛ استبصارا لمنهج الرماني في تحليل شواهد الاستعارة وتعليلا لما خالف فيه منهجه في بعض المواضع- اللجوء إلى عناصر المقام واستحضارها والاستعانة بها في كشف خفايا السياق..وهذا معلم جيد من معالم التحليل خليق أن ينشر ويؤكد عليه حتى يكون من أبجديات التحليل عند صغار الباحثين وأنا منهم. فبدهي أن يفضي بك تحليل الكلام إلى علامات استفهام يعييك أن تجد لها إجابة إذا ما اقتصرت على تحليل السياق، وحينئذ فلا مفر أمامك سوى أن تلجأ إلى المقام تناجيه وتخادنه لعله يفضي لك ببعض الأسرار التي قد تكون عاملا مهما أو سببا مباشر في كشف اللثام عن العديد من أسرار الكلام.

مهم جدا أن نتعرف على مؤلف الكتاب وظروفه وظروف عصره وأحوال بيئته ومتى ألف كتابه؟ أكان في مرحلة مبكرة أم كان بأخرة من عمره ؟..ثم ما أثر ذلك كله عليه في تصنيف كتابه؟

لقد مر علينا زمان طويل وأحدنا يتوهم أنه إن ابتدأ قراءة الكتاب بمطالعة عنوانه، ثم مقدمته، ثم ألقى نظرة على الفهرس، ثم تصفح بعض عنواناته، أو جرد الكتاب جردا سريعا، ليتبع هذه القراءة السريعة بقراءة تفصيلية تطيل الأناة عند كل جملة وكلمة وحرف- فقد أوفي على الغاية ، وأنه أعطى الكتاب حقه كاملا. وإنه لواهم؛ فإن في معرفة القارئ بظروف المؤلف، وأحواله والأسباب التي دعته لتأليف هذا الكتاب والظروف التاريخية والاجتماعية بل والسياسية التي صاحبته أثناء تأليف كتابه، وما أثر ذلك كله عليه في تأليف الكتاب ..إن في معرفة ذلك ما يكسب القارئ أضواء يسلط أشعتها على النص فيتضح له من الجوانب الخفية ما لم يكن ليتضح بغير هذه الأشعة المستلة من تحليل عناصر المقام …وقد تمثل هذا في تعليل إيجاز الرماني في تحليل شواهد الاستعارة بأنه نزل على رغبة من التمس منه تأليف هذه الرسالة .

وهذا المعلم من معالم التحليل تجده ماثلا بارزا في كتاب الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله (قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام ) حيث كان الشيخ قد وقع -بتحليل كلام ابن سلام- في تيه متراكب الظلمات، ثم لم يستطع الخروج من هذا التيه إلا بتحليل بعض عناصر المقام، تعرفا على حياة ابن سلام ومتى ألف كتابه ..إلخ فحينئذ استطاع أن يجد إجابات لما اعترضه من سؤالات غامضة كانت من قبل .

وبعد:

فأرجو أن أكون قد وفيت -بهذه الخواطر-ببعض حق المجلس علي، وما ابتغيت من الكتابة إلا الثواب من الله عز وجل فالدال على الخير كفاعله .

وأخيرا :

أدعو الله بالتوفيق والسداد لكل من قام على هذه الفكرة:تفكيرا فيها وتنفيذا لها ،
إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى