استهداف الثقافة اعتداءٌ على المجتمع
نهاد أبو غوش | فلسطين
من المفيد دائما التذكير بأهمية الثقافة الوطنية الفلسطينية في معركة الشعب الفلسطيني لانتزاع حقوقه الوطنية، ويكفي للتدليل على ذلك أن نُذكّر بتعليق غولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية في الستينات على اغتيال الشهيد غسان كنفاني حين قالت” اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح”. وإلى جانب غسان برز على لوائح الاغتيالات الإسرائيلية مجموعة من خيرة المبدعين والمثقفين والإعلاميين الفلسطينيين الذين كان سلاحهم الرئيسي القلم والريشة والكلمة للدفاع عن شعبهم وقضيته الوطنية، ومن بينهم الشهداء ماجد أبو شرار، وكمال ناصر، وناجي العلي وحنا مقبل وهاني جوهرية وحنا ميخائيل، وعزالدين القلق ونعيم خضر، وعبد الوهاب الكيالي، ومحمود الهمشري ووائل زعيتر وعلي فودة، وغيرهم كثيرون إلى جانب مَن تعرضوا للاعتقال مِن مبدعي فلسطين وكتابها ومثقفيها ومنهم الشعراء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، ومَن تعرضوا للإبعاد كأديبنا المقدسي محمود شقير، وأكرم هنية وخليل السواحري وغيرهم.
استهداف الثقافة والمثقفين ليس اختصاصا إسرائيليا، بل هو ظاهرة عالمية دفع ثمنها كبار المبدعين العالميين الذين واجهوا الاستبداد كالشاعر التركي ناظم حكمت، والتشيلي بابلو نيرودا، وثمة مقولة شهيرة تنسب أحيانا لوزير الدعاية النازية غوبلز مفادها ” كلما سمعت كلمة ثقافة أتحسّس مسدسي”.
الآن وفي ظروف الأزمة الداخلية المستعصية التي نعيش، ومع تراجع مكانة القضية الفلسطينية إقليميا ودوليا، واشتداد الهجمة الإسرائيلية على أرضنا ومقدساتنا وسائر حقوقنا الوطنية. تنطلق من بين صفوفنا هجمة على مناخ الحريات العامة ومن ضمنها حرية التعبير والإبداع الثقافي والفني التي انتزعناها من بين أنياب المحتل، وهي التي نَمَتْ وتطورت وترسخت في سياق مواجهة الاحتلال وإعادة بناء الشخصية الوطنية الفلسطينية، وصياغة وعيها الوطني. ففي الأسابيع القليلة الماضية، تعرضت الثقافة وحرية الإبداع التي هي شرط لازدهارها، إلى سلسلة من الهجمات والتهديدات التي أدت إلى وقف بعض العروض والفعاليات، وترهيب جميع العاملين والمهتمين بحقول الثقافة والفنون، ما ينذر بانتكاسة خطيرة للمجتمع الفلسطيني بشكل عام، وتراجع مقلق للحريات العامة ولشروط الإبداع الثقافي والفني بالتحديد.
آخر ما جرى في هذا السياق هو قرار مؤسسة رصينة مثل مؤسسة عبد المحسن القطان إلغاء إحدى فعالياتها وإغلاق أبوابها مؤقتا بعد تلقيها تهديدا من “مجهول”، واقترن ذلك ببيان احتجاج يقطر أسى وألما بسبب امتناع السلطة وأجهزتها عن توفير الحماية المطلوبة للمؤسسات الثقافية. وحذّر البيان من “الآثار الوخيمة التي يمكن أن تجرها هذه التهديدات والأفعال على الحياة الثقافية” في فلسطين وعلى المجتمع بشكل عام، فهذا التهديد ليس الأول، بل سبقته تهديدات واعتداءات عملية كما جرى لمسرح “عشتار” والفنان إدوار معلم ومسيرة الفرق الدولية المشاركة في مهرجان المسرح، كما اضطر منظمو مهرجان موسيقي في بيت لحم لإلغائه بسبب مثل هذه التهديدات، وقبل ذلك الاعتداء على فعالية ل”المستودع الثقافي”. وقبل عام ونصف العام، هاجم شبان غاضبون فعالية فنية في مقام النبي موسى بحجة انتهاك حرمة مسجد، لم يسائل أحد هؤلاء الشبان الذين حظوا بتأييد حتى من بعض الأوساط القيادية في السلطة، بينما جرى اعتقال الفنانة سما عبد الهادي ومساءلتها على الرغم من حصولها على الأذونات الرسمية للفعالية!
ثمة عدد من المسائل التي تثير القلق في مجمل هذه الحوادث وأبرزها أن من يقومون بالتهديد والاعتداء هم أفراد ومجموعات قرروا أخذ القانون بيدهم نيابة عن السلطة وأدواتها ومؤسساتها العدلية والأمنية، ونيابة عن المجتمع بقواه وهيئاته وتشكيلاته المختلفة، ما يفتح الطريق أمام دعاة الفوضى والفلتان لتطبيق قانونهم الخاص وفق وعيهم ومزاجهم ومصالحهم، وهو ما يمكن ان يتسع غدا ليشمل التدخل في سلوك الناس في المرافق العامة والجامعات والشوارع وأماكن العمل.
في هذا المنحى الانحداري الهابط، يبدو أن الثقافة تمثل “الضلع القاصر” أو “الحيط المائل” الذي يستقوي عليه أنصار الفوضى، ويبرر هؤلاء أفعالهم بادعاءات الدفاع عن ثقافة المجتمع وعن الفضيلة، مع أن ثمة شكوكا جدية في مدى أهلية هؤلاء لتقديم تَصَوُّر بشأن الثقافة والفضيلة، ولا سيما بعد أن تبين أن اعتداءَهم على مسرح عشتار كان بسبب سوء فهم نتيجة تحريض من جهة ما، فخُيَّل لهم بأن الألوان التي حملها المسرحيون في فعاليتهم ترمز لراية المثليين! مع ملاحظة أن غيرة هؤلاء وحَمِيّتهم تتركز على القضايا المقترنة بالجنس والتعري أو الملابس الخفيفة، ولا تثور لما يتعرض له عشرات آلاف الفلسطينيين والفلسطينيات يوميا من انتهاكات وعمليات إذلال منهجي تطال كرامتهم وإنسانيتهم، على الحواجز والمعابر وأماكن العمل في المستوطنات والمشاريع الإسرائيلية، علاوة على الاقتحامات اليومية وتدنيس أقدس المقدسات والاعتداء على المرابطات والمرابطين.
غريب هو صمت السلطة وتغاضيها، بل تقاعسها عن القيام بواجباتها في حماية الثقافة والفنون ومؤسساتها، وحماية الأفراد بصرف النظر عن توجهاتهم، ففي الوقت الذي تظهر السلطة وأجهزتها أقصى درجات الاستنفار في ملاحقة الناشطين المعارضين واعتقالهم، نجدها تغض الطرف عن الاعتداءات على الثقافة، وعن مظاهر الفلتان والفوضى التي بلغت ذروتها في مدينة الخليل وفي واقعة الاعتداء الآثم على الدكتور ناصر الدين الشاعر. وبهذه المواقف تساهم السلطة في الانتقاص من هيبتها وإضعاف شرعيتها، وكأنها تطلق النار على قدميها وعلى مشروع بناء دولة القانون والمؤسسات ذات السيادة.
خطر الاعتداء على الثقافة ومؤسساتها يتهدد المجتمع الفلسطيني كله بمؤسساته وحرياته العامة وقيمه وتقاليده النضالية والديمقراطية التعددية، ولا يعني ذلك قطعيا أننا جميعا مطالبون بتقبل او تأييد أي مشروع ثقافي أو عرض فني كما هو دون نقد أو تمحيص، ولكن من كان لديه اعتراض على شيء فأمامه جهات اختصاص هي المكلفة بإنفاذ القانون، وأمامه المؤسسات الرسمية، لا أن يعمد إلى فرض القانون باليد والهروات والجنازير، وقد يكون المعتدي اليوم هو الضحية غدا.