المغالطات المنطقية وأثرها في الشعر العربي ( 1 )
د. يوسف حطّيني | شاعر وناقد أكاديمي – جامعة الإمارات
تمهيد
(1)
تهدف هذه الدراسة إلى تقصّي أثر المغالطات المنطقية في الشعر العربي، قديمه وحديثه، راصدة علاقة البلاغة العربية بالمنطق، وترجّح موقف الشعر من ذلك بين نبذٍ وجذب، مسلطة الضوء على مفهوم المغالطات، وكيفية بنائها لمخاطبة قلب القارئ، لا عقله؛ ذلك أنّ المنطق الذي يُستحسن أن يسم أبنية المقولات والحوارات السياسية والاجتماعية والتجارية يمكن أن يكونَ عثرة في طريق تلقّي الشعر؛ فالشعر، والفن عموماً، عند كثير من الباحثين والمبدعين، لم يُنجز ليُدرك معناه، بل ليُحَسَّ أثره في المتلقي، وهذا ما نحاول اختبار صدقيته من خلال عرض المغالطات وبيان تأثيرها، بعد أن نقدّم بتمهيد تاريخي يتتبع العلاقة بين البلاغة العربية والفلسفة اليونانية، وصولاً إلى المنطق الأرسطي في القياس، واختراق هذا المنطق بالمغالطات القصدية وغير القصدية.
(2)
تماماً، كما أن اللغة موجودة قبل علم اللغة؛ فإنّ البلاغة موجودة قبل علم البلاغة، وقد فُطر الإنسان العربي منذ أقدم العصور الأدبية المعروفة على فصاحة اللسان ونصاعة البيان. وفي الأدب الجاهلي وما تلاه أمثلة كثيرة تغني عن التمثيل، تعبّر عن مدى اهتمام العرب ببليغ الكلام في شعرهم ونثرهم على السواء. على أنّ البلاغة العربية، بوصفها علماً، له قواعده وأصوله، لم تتبلور إلا في العصور اللاحقة؛ إذ انتقلت من الملاحظات الانطباعية على النص الأدبي إلى محاولات التقعيد التي بلغ بعضها حدّ التعقيد، اعتماداً على ربط البلاغة بالفلسفة حيناً، واللسانيات والأسلوبيات حيناً آخر. وربما كان تمّام حسّان محقاً حين أشار إلى أن البلاغة العربية مرت بمرحلتين “كانت أولاهما أقرب إلى النقد العملي، وكانت الأخرى ألصق وأوغل بالأسلوبيات[1]“، بما تعنيه الأسلوبية من تحليل للنص الأدبي، والكشف عن أبرز معالمه ومميزاته الفنية والجمالية، والعمل على استنتاج منطقه الداخلي. وبكلام آخر: لقد انتقل العرب في البلاغة من مرحلة التذوق الجمالي إلى مرحلة وضع الأسس التي أسهمت في إرساء علم البلاغة، وأسهمت في تعقيده أحياناً، حين تمّ ربط بحوثها ببحوث المناطقة على سبيل الخصوص.
بدأ ظهور ملامح البلاغة العربية الأولى عن طريق شذرات مبثوثة في نصوص مختلفة الأغراض، على نحو ما نجد عند مسلم بن الوليد (ت: 208ه) وبشر بن المعتمر (ت:210ه)، حتى جاء الجاحظ (ت: 225هـ)، وبذل جهوداً كبيرة في مجال التقعيد البلاغي، محاولاً جمع تلك الشذرات، مستنداً إلى قدرته الحادة على الاستبصار، فبنى قواعد مبدئية، وأشاع استخدام مصطلح البيان، ليس بوصفه فرعاً من فروع البلاغة، بل بوصفه البلاغة ذاتها، بما تعنيه من وضوح الدلالة وصواب الإشارة، و حسن الاختصار، ودقة المدخل[2]، فـ”كلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه ويدعو إليه ويحث عليه، بذلك نطق القرآن، و بذلك تفاخرت العرب، وتفاضلت أصناف الأعجام[3]“.
وتبِعَت ذلك محاولة جادة قام بها قدامة بن جعفر(ت: 337هـ) الذي وضع كتاب نقد الشعر، مفصّلاً في حدّه، ونعوته، وعيوبه[4]؛ ليفتح الطريق أمام ابن المعتزّ الّذي خصص كتاباً للبديع[5]، منتشلاً البلاغة العربية من عفويتها، عن طريق إدخالها في أنساق تصنيفية واضحة المعالم؛ غير أنّ تركيز جهوده على علم البديع أبعد جهده، على الرغم من تميزه، عن النظرة الشاملة التي جاء بها مَنْ بعده، وكان لا بد أن تتضافر آنذاكَ جهود كثيرة من أجل تقديم البلاغة في ثوب أوسع نظرة، وأكثر شمولاً، نخصّ بالذكر جهود عند عبد القاهر الجرجاني (ت: 471هـ)، ولا سيما في كتابه “أسرار البلاغة”؛ إذ تناول اللفظ والمعنى، والتجنيس والاستعارة والتشبيه والتمثيل، والأخذ والسرقة والحقيقة والمجاز، والحذف والزيادة، فاتحاً بذلك الباب على مصراعيه، لتصنيف أبواب أخرى في البلاغة، ليضيفَ إلى ما تقدّمَ كلّ من الزمخشري (ت: 538هـ) وأسامة بن منقذ (ت: 584هـ) وغيرهما بعض اللّطائف البلاغية، حتى وصل الأمر إلى السّكاكي (ت: 626ه) الذي لم يكتف بوضع حدود واضحة وأطر ثابتة لعلم البلاغة فحسب، بل وضع الإطار العام لعلوم اللغة المتنوعة، ومن ضمنها علم البلاغة، في كتبه “مفتاح العلوم” الذي فصّل فيه القول عن منطق علم الصرف، وعلم النحو، وعلمَيْ المعاني والبيان، وعلم الاستدلال، وعلم الشعر، ودفع المطاعن، شاغلاً نفسه بإقناع المتلقي بوجاهة تصنيفه وترتيبه المنطقي على مستوى الأبواب وداخل الأبواب والفصول، ولعلّ أوضح مثال على اهتمامه بالترتيب هو بدؤه الكتاب، بخلاف من سبقه، بعلم الصرف لا بعلم النحو؛ لأنّ الانطلاق، وفق ما يرى، يكون من المفردة لا من الجملة. وقد تجسّد الأثر الجديد لنظرته النقدية التي انتقلت إلى معالجة المفردات والعلاقات الإسنادية معالجة منطقية، لا سيما في كتاب المعاني، كما أدّى ولعه بالتصنيف إلى إنتاج كتاب لم يدع فيه شاردة ولا واردة إلا استقصاها في أنواع التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية.
وبالطبع فإنّ الساحة النقدية البلاغية لم تخلُ من آخرين، غير أن السابق ذكرهم قدّموا للبلاغة العربية خدمات جُلّى أسفرت عن وصول علم البلاغة إلى أوج اكتماله؛ ليتركوا لمن بعدهم مهمة الشرح والتفسير والتمثيل، قبل أن تحاول البلاغة العربية عند النقاد المحدثين الإفادة مما أنجزه الغرب في الشعرية والأسلوبية.
(2)
إذن.. لقد وصل علم البلاغة العربية القديمة مع السكاكي إلى أوج نضجه المعرفي المعياري، بعد أن بلغ أوج اكتماله الجمالي التذوقي على يد عبد القاهر الجرجاني؛ وعلى الرغم من أن تأثر البلاغة بالمنطق سبق السكاكي بقرون، على يد قدامة بن جعفر والجاحظ وغيرهما، فقد اتخذ عند الأخير منحى مختلفاً، يكاد يبلغ درجة الاكتمال التصنيفي؛ فقد اجتهد السكاكي اجتهاداً يُحمد له، وأعاد إلى أذهان المتأخرين الخلاف القديم المتجدد عن مفاهيم الصدق والكذب، والحقيقة والمجاز، بسبب إخلاصه لما نذر له نفسه من انشغال بالعلة والمعلول، والاستنتاج والاستدلال، والرسوم والحدود، وغيرها من القضايا المنطقية، على حساب البراعة وصفاء الطبع[6].
إن ما يحسب للسكاكي حقاً هو أنه لم يبق أسير النظرة التقليدية للبلاغة، إذ أفاد من الفلسفة اليونانية في الدرس البلاغي إفادة كبيرة، بعد أن كانت تلك الفائدة شبه مقتصرة على فلاسفة العرب والمسلمين[7]، وغيّر طريقة النظر إلى الأدب، وإلى الشعر خاصة، من حيث هو “قضايا”، وليس مجرد “إنشاء لغوي”، فهو يجتهد اجتهاداً لافتاً في التمهيد المنطقي للفصل الذي يقبل على شرحه، فهو حين يعقد فصلاً لتتبع خواص تراكيب الكلام في الاستدلال يميّز بين الحدّ والرّسم، تأصيلاً لما يأتي بعد ذلك من خواص تلك التراكيب[8]“، وهو حين يُقبل تطبيقياً على عرض الجملة الخبرية والجملة الشرطية، يقدّم الجملة الخبرية، دون أن يترك عادته في تعليل ترتيب الأبواب والفصول والفقرات، فيشير إلى أنه قدّم الجملة الخبرية على الشرطية لأن “الجملة الشرطية جملة خبرية مخصوصة والمخصوص متأخر عن المطلق[9]“، قبل أن يستخدم مصطلحي السابقة واللاحقة اللذين يقابلان المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى عند أرسطو، بينما يقابل اللزومُ الاستنتاجَ[10]. يقول السكاكي:
“السابقة واللاحقة متى كانتا بعضيتين احتمل البعضان التغاير ولم يلزم اتحاد المبتدأين فلا يتحقق لخبريهما اجتماع وتركيب الدليل في هذه الصورة لا يزيد على ستة أضرب: أحدها سابقة مثبتة كلية ولاحقة مثلها. وثانيها سابقة مثبتة بعضية ولاحقة مثبتة كلية. وثالثها سابقة مثبتة كلية ولاحقة مثبتة بعضية، والحاصل في هذه الثلاثة ثبوت بعضي. مثال الأول: كل إنسان حيوان وكل إنسان ناطق يلزم بعض الحيوان الناطق. ومثال الثاني: بعض الناس قصير وكل إنسان ضحاك يلزم بعض القصار ضحاك. ومثال الثالث: كل إنسان حيوان وبعض الناس كاتب يلزم بعض الحيوان كاتب. ورابعها سابقة مثبتة كلية ولاحقة منفية كلية. وخامسها سابقة مثبتة بعضية ولاحقة منفية كلية. وسادسها سابقة مثبتة كلية ولاحقة منفية بعضية، والحاصل في هذه الثلاثة نفي بعض، مثال الرابع: كل إنسان حيوان ولا إنسان بفرس يلزم بعض الحيوان ليس بفرس ومثال الخامس بعض الحيوان أبيض ولا حيوان بحجر يلزم بعض الأبيض ليس بحجر ومثال السادس كل إنسان ناطق وبعض الناس ليس بكاتب يلزم بعض الناطق ليس بكاتب[11]“.
إنّ إفادة علوم البلاغة من البحث المنطقي، وجعل تتبع تراكيب الكلام الاستدلالي، مما يلزم المعاني والبيان، وتصنيفها بهذا الشكل الذي يقترب من الاكتمال، يتوّج جهوداً سابقة، من مثل جهود الجاحظ في “البيان والتبيين”، وقدامة بن جعفر في “نقد الشعر”، غير أن ميزة السكاكي تكمن في تبويبها وتسبيب عرضها على النحو الذي عرضه، وهذا ما أسهم إسهاماً كبيراً في اتساع أبحاث البلاغة العربية وظهور أبوابها واستقلال علومها.
(3)
وإذا كانت البلاغة العربية والدراسات الأدبية قد أفادتا من “المنطق” الذي دخل الثقافة العربية مترجَماً في صدر الإسلام، ومؤلَّفاً في منتصف القرن الثالث الهجري[12]؛ فإنّ من حقّهما أن تفيدا من “المغالطات المنطقية” التي دخلت حقل الفلسفة، بوصفها مبحثاً مستقلاً بذاته، في منتصف القرن العشرين، وأن تثير مجموعة من التساؤلات حول تلك المغالطات التي اجتهد الدارسون لتقصيها في الحوارات الإعلامية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، دون أن يقتربوا، إلا نادراً، من الحقل الأدبي.
لقد حولت الدراسات النقدية العربية ذات المرجعية الفلسفية الجملة قضيةً، وعليه فإنّ “القضايا/ الجمل” المترابطة سببياً يمكن أن تخضع للقياس المنطقي الذي يعرّف بأنه “قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها (أو لذاته) قول آخر بالضرورة[13]“؛ وكلّنا نتذكر الشكل المبسّط للقياس المبسط الذي طرحه أرسطو، وهو عبارة عن تركيب من الجمل (المقدمة الكبرى) ومجموعة من الجمل (المقدمات الصغرى) تليها الخاتمة أو النتائج:
- كلُّ إنسان فانٍ = المقدمة الكبرى
- سقراط إنسان=المقدمة الصغرى
- سقراط فانٍ = النتيجة
غير أن المغالطات المنطقية تنشأ عن أي خلل في القياس المنطقي قد يحلّ بإحدى المقدمات أو النتيجة، أو طريقة العرض المخادعة، على نحو ما نجد في الترسيمة التالية:
- كل إنسان فان= المقدمة الكبرى
- القطّ ليس إنساناً=المقدمة الصغرى
- القطّ ليس فانياً= النتيجة
وواضح هنا أن الخطأ ناتج عن عدم فهم دقيق للمقدمة الكبرى عند صياغة المقدمة الصغرى، أو ربما كان الأمر متعمّداً أو مخادعاً، والخداع وارد في القضايا الإقناعية، لدرجة أن شوبنهاور، قبل أن يستقلّ مبحث المغالطات المنطقية بنفسه، قال:
“كم يكون رائعاً لو أمكننا أن نقيّض لكل خدعة جدلية اسماً مختصراً وبيّن الملاءمة بحيث يتسنّى لنا كلّما ارتكب أحد هذه الخدعة أو تلك أن نوّبخه عليها للتوّ واللّحظة[14]“.
لا شك أنك ستكون مع شوبنهاور ضد المخادعة التي يلجأ إليها مناصرو الطوائف والمذاهب والسياسيون ومروجو الدعايات السلعية، وغيرهم، ولكنك ربما لن تكون كذلك حين يتعلق الأمر بالشعر والصورة الشعرية، فأنت مثلاً لن يسرّك أن يجمعك رئيس العمل مع زملائك في الصباح المبكر في يوم عطلة ليدعوك إلى كأس من الشاي، ولن ترضى أن يوقظك أحدهم في الليل من عزّ نومك ليخبرك بأمر تافه، ولكن الأمر في الشعر يختلف، من وجهة نظري على الأقل؛ وها هو ذا قيس بن الملوح يطلب من الناس أن يستيقظوا في عزّ الليل، بما يوحي بأن هناك أمراً جللاً، مستخدماً مبدأ بناء الذروة وتفريغها من محتواها في الشطر الثاني، فيقول:
أَلا أَيُّها النوّامُ وَيَحكُمُ هُبّوا
أُسائِلُكُم هَل يَقتُلُ الرَجُلَ الحُبُّ[15]
هنا، في تقديري، لا يمكن أن يقول النوّام لقيس: تبّاً لك.. ألهذا أيقظتنا؟!؛ فهم ليسوا في معرض محاسبة الشاعر بالمنطق، حتى إنهم في القصيدة يستقظون ويردون عليه وعلى سؤاله بما يدعم وجهة نظره، أو وجهة نظر قلبه:
أَلا أَيُّها النوّامُ وَيَحكُمُ هُبّوا
أُسائِلُكُم هَل يَقتُلُ الرَجُلَ الحُبُّ
|||
فَقالوا نَعَم حَتّى يَرُضَّ عِظامَهُ
وَيَترُكَهُ حَيرانَ لَيسَ لَهُ لُبُّ[16]
لقد أحصى الدارسون عشرات المغالطات المنطقية التي ترتكب في الحوارات المختلفة، من قبل أن تتمثل حدود مبحث المغالطات، بل إن هذه المغالطات كانت موجودة منذ أقدم العصور، قبل أن يتم تصنيفها؛ ففي محاورة من محاورات أفلاطون المعروفة يقول لجورجياس:
“وإذا ما دخل الطبيب والطاهي في مباراة كان الأطفال قضاتها، أو الرجال الذين ليست لديهم معرفة أكثر من الأطفال، فإنّهم كي يقرروا أي منهما يفهم أكثر بجودة الطعام ورداءته، فسيجوع الطبيب حتى الموت حينئذٍ “[17].
وهنا مربط الفرس، فالمغالطة تهزم منطق العقل عند متذوّقي الشعر الذين ليس همهم البحث عن الحقائق، بل التمتّع باختراقها واحتراقها أمام أعينهم؛ ذلك أنّ “الصور البيانية لا يمكن أن تستخدم استخداماً مأموناً إلا كوسيلة إيضاح لمعنى معين يرمي إليه المتحدث، إنها أدوات للتعبير، وليست مصادر للمعرفة[18]“.
(4)
لقد عرّف أرسطو المنطق بأنه “نسق من القواعد التي يمكن أن يتم الاستنباط وفقا لها[19]“؛ وهو يمثّل في أعمّ تعريفاته “علم قواعد التفكير”، ولعلّ من المثالي أن نعتقد أن كلّ من خاض الحوارات بمعناها الواسع حكيم يفصل اعتقاده على قدر البيّنة[20]، فكثير من المتحاورين يحتكم للقوة وسطوة المجتمع وغريزة القطيع، وكثير منهم أيضاً يمارس الخداع في الإقناع عن دراية ونية مبيّتة، عبر استخدام مغالطات منطقية يدرك زيفها، مهملاً عن قصد أو غير قصد المنطق غير الصوري، مبتعداً عن “استخدام المنطق في تعرّف الحجج وتحليلها وتقييمها، كما ترد في سياقات الحديث العادي ومداولات الحياة اليومية[21]“، متجاهلاً القواعد الجدلية الصحيحة التي تقود إلى حوار مثمر وبنّاء؛ متعمّداً التلاعب بالمنطق (بعدم صدق مقدماته أو خلل في طريقة استدلاله، أو تمويه في صوغ نتيجته)، وصولاً إلى نتيجة غير منطقية، تعتمد على المغالطة لإقناع الآخرين من أجل خداعهم.
إن أمنية شوبنهاور الآنفة الذكر في إيجاد اسم لكل خدعة جدلية صارت حقيقة واقعة، وصار بالإمكان تسمية المغالطات بأسمائها (من مثل التعميم المتسرّع والمصادرة على المطلوب ورجل القش والرنجة الحمراء والقسمة الزائفة وسرير بروكروست وغيرها)، ولكنّ هذا الأمر انتشر بين الأطر الضيقة التي تهتم بصناعة الخدعة، أكثر من انتشاره بين عموم المستهدفين بها؛ إذ بقيت العامة على جهلها، وصار الخادعون أكثر إصراراً على تعلّم مغالطات جديدة لممارسة الخداع.
على أن استخدام المغالطات في الفن يمكن أن يعمّق الأثر الذي يتركه في المتلقي، ولنأخذ مثلاً على ذلك أثر مغالطة الرنجة الحمراء[22] في الرسم الكاريكاتوري للشخصيات؛ إذ يتم التركيز على عضو من أعضاء للفت النظر إليه، مما قد يضيّع الانتباه إلى أجزاء أخرى، لا يريد الفنّان التركيز عليها.
إنّ التصوير الكاريكاتوري “الكاذب” ينتج شكلاً “مكذوباً” يجانب حقيقة التصوير، ولكنه يرقى (أو ينحدر) بالمعنى والدلالة إلى آفاق جديدة، وهذا يشكّل دعماً لفكرة تعميق الأثر الفني، أياً كان نوعه، عن طريق مخادعة المنطق، ويرتدّ بنا عبر تاريخ الأدب العربي إلى البحتري (ت: 280هـ) الذي أنِف من إخضاع الشعر للمعيارية صارمة، رافضاً تقييد الإبداع، عبر “منطَقة الشعر”، يقول البحتري:
وخيرتي عقلُ صاحبي فمتى
سقتُ القوافي فخيرتي أدبُهْ
|||
كلفـتـمونا حدودَ منطقـكم
في الشّعر، يُلغى عن صدقه كَذِبُهْ
|||
ولم يكن ذو القروح يلهج بالـ
ـمنطـق، ما نوعُه؟ وما سببُـهْ؟
||
والشعرُ لمـحٌ تكفي إشارتُـهُ
وليس بالهـذرِ طُوّلـت خُطَبُـهْ[23]
كما يعيدنا أيضاً إلى مقولة انتشرت في تاريخنا النقدي تؤكد أن “أحسنَ الشعر أكذبه”، وهي مقولة أوردها قدامة بن جعفر المتوفى في بدايات القرن الرابع الهجري، في كتابه “نقد الشعر” في السياق التالي: “وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعر أكذبه[24]“، مما يشير إلى وجودها قبل ذلك حتى إن بعضهم ينسبها إلى زياد بن أبي سفيان (ت: 53هـ) المعروف باسم زياد بن أبيه.
غير أنّ كل ما تقدّم لا يعني خلوّ الشعر العربي من المنطق، فقد نحا كثير منه نحو النزعة العقلانية الذهنية، كما نجد في المنظومات التعليمية، وكما نجد في كثير من شعر المعرّي والعقّاد، وكذلك في شعر الحكمة الذي أفاد من صيغة الشرط، من مثل قول زهير:
ومن يغتربْ يحسب عدوّاً صديقه
ومن لا يكّرِم نفسَه لا يُكرَّمِ[25]
في هذا الكتاب يجتمع الشعر والبلاغة والفلسفة في صعيد واحد؛ لتنهض أسئلة جوهرية نحاول أن نجيب عنها في ثنايا الفصول: إلى أي حدّ يمكن أن أسهمت المغالطات المنطقية في إكساب دور جمالي للشعر، في مختلف عصوره، وهل أخلص الشعر لطروحاته اللامنطقية التي عبّر عنها كثيرون؟ وهل كانت يمكن تسويغ المغالطات المنطقية في الشعر أخلاقيا؛ لنرقى بالفكر الاجتماعي أو الوطني أو القومي أو الإنساني نحو آفاق جديدة؟
الإحالات والمراجع والمصادر
[1]تمام حسّان: الأصول- دراسة إبستمولوجية للفكر اللغوي عند العرب، عالم الكتب، القاهرة، 2000م، ص279.
[2]سبق الجاحظُ البلاغيين العرب في الحديث عن التشبيه والاستعارة والكناية والتمثيل لها، واستخدم لفظ المثل (الذي عرف فيما بعد بالمجاز) مقابلاً للحقيقة، غير أنه لم يقدّم للقارئ تعريفات اصطلاحية. يمكن النظر في:
د. عبد العزيز عتيق: علم البيان، دار النهضة العربية، بيروت، 1985م، ص ص10ـ11.
[3]الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق: حسن السندوبي، مؤسسة هنداوي، 2022، ص77.
[4]قسم قدامة بن جعفر كتابه نقد الشعر إلى ثلاثة فصول يتحدث في الفصل الأول عن حدّ الشعر “ الحائز له عما ليس بشعر، وليس يوجد في العبارة عن ذلك أبلغ ولا أوجز – مع تمام الدلالة – من أن يقال فيه: إنه قول موزون مقفى يدل على معنى“، وجعل الفصل الثاني للنعوت، فذكر نعوت اللفظ والوزن والقافية، ونعوت المعاني التي يدلّ عليها الشعر بأغراضه الشعرية المختلفة، ثم خصص الفصل الثالث لعيوب الشعر كعيوب اللفظ الذي لا يناسب الغرض الشعري، وفساد المقابلات والتناقض، وعيوب الوزن وغيرها. تمكن العودة إلى:
أبو الفرج قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ط1، مطبعة الجوائب، قسطنطينية، 1302هـ (1885م)، وبشكل خاص ص3.
[5]قسم ابن المعتز كتابه “البديع” إلى بابين سمّى الأول البديع، وذكر فيه التَّجنيس، والمُطابَقَة، والاستعارة، ورد أعجاز الكلام على ما تقدّمها، والمذهب الكلامي الذي أخذ تسميته من الجاحظ، كما يشير إلى ذلك بنفسه. والباب الثاني سماه “محاسن الكلام”، وتحدّث فيه عن الالتفات، واعتراض كلام في كلام لم يتمم الشاعر معناه ثم يعود فيتممه في بيت واحد، والرجوع، وحسن الخروج من معنى إلى معنى، وتأكيد المدح بما يُشبه الذم، وتجاهل العارف، وهَزْل يُرَاد به الجد، وحُسن التضمينِ، والتَّعريضُ والكنايةُ، والإفراطُ في الصفةِ “المبالغة”، وحسنُ التشبيهِ، وإعناتُ الشاعر نفسه في القوافي وتكلّفه من ذلك ما ليس له، وحُسنُ الإبتداءات. وأشار بعد كل هذا التفصيل إلى أن محاسن الشعر “كثيرة لا ينبغي للعالم أن يدعي الإحاطة بها حتى يتبرّأ من شذوذ بعضها عن علمه وذكره”. تمكن مراجعة:
ـ د. عبد العزيز عتيق: علم البديع، دار النهضة العربية، بيروت، ص ص14ـ15.
ـ عبد الله بن المعتز: كتاب البديع، دار المسيرة، بيروت، ط3، 1982، ص58.
[6]. يقول عن الرحمن البرقوقي في مقدمة الطبعة الأولى من كتاب التلخيص للخطيب القزويني (الذي يلخص فيه كتاب مفتاح العلوم للسكاكي) عن صفات أبي يعقوب يوسف السكاكي صاحب المفتاح: “إمام فتّ في عضده حبّ الفلسفة، فعمد إلى هذا العلم، وقبعَ فيه كِسْرَ بيته، لا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا حسه، فوضع ما وضع مما نهج فيه أهل النظر من الحكماء، لا منهج المطبوعين من البلغاء، وهو وإن فاق عبد القاهر في التقسيم والتبويب وتقريب الأحكام؛ فلم يبلغ شأوه في لطف الحس، وصفاء الديباجة، وبراعة الكلام”. يمكن النظر في:
ـ جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الخطيب: التلخيص في علوم البلاغة، ضبطه وشرحه: عبد الرحمن البرقوقي، دار الفكر العربي، ص3.
[7]أفاد عدد من البلاغيين العرب قبل السكاكي فائدة محدودة من الفلسفة اليونانية، وتناولوا علوم اللغة والبلاغة وفق مدرسة المتكلّمين، كالجاحظ (ت: 255هـ)، وقدامة بن جعفر (ت: 337هـ) وأبو هلال العسكري (ت: 395هـ).
[8] يقول السكاكي: “الحد عندنا دون جماعة من ذوي التحصيل عبارةٌ عن تعريف الشيء بأجزائه أو بلوازمه أو بما يتركب منهما تعريفاً جامعاً مانعاً، ونعني بالجامع كونه متناولاً لجميع أفراده، إن كانت له أفراد، وبالمانع كونه آبياً دخول غيره فيه، فإن كان ذلك الشيء حقيقة من الحقائق، مثل حقيقة الحيوان والإنسان والفرس وقع تعريفاً للحقيقة، وإن لم يكن مثل العنقاء أو مثل المرسن وقع تفصيلاً للفظ الدال عليه بالإجمال، وكثيراً ما نغيّر العبارة، فنقول: الحدّ هو وصف الشيء وصفاً مساوياً، ونعني بالمساواة أن ليس فيه زيادة تخرج فرداً من أفراد الموصوف، ولا نقصان يدخل فيه غيره، فشأن الوصف هذا يكثر الموصوف بقلته، ويقلله بكثرته؛ ولذلك يلزمه الطرد والعكس، فامتناع الطرد علامة النقصان، وامتناع العكس علامة الزيادة، وصحتهما معاً علامة المساواة، والعبرة بزيادة الوصف ونقصانه الزيادة في المعنى والنقصان فيه، لا تكثير الألفاظ وتقليلها في التعبير عن مفهوم واحد، وهاهنا عدة اصطلاحات لذوي التحصيل لا بأس بالوقوف عليها، وهي أن الحقيقة إذا عرفت بجميع أجزائها سمي حدّاً تامّاً، وهو أتم التعريفات، وإذا عرفت ببعض أجزائها سمي حدّاً ناقصاً، وإذا عرفت بلوازمها سمّي رسماً ناقصاً، وإذا عرفت بما يتركب من أجزاء ولوازم سمّي رسماً تامّاً، ويظهر من هذا الشيء متى كان بسيطاً امتنع تعريفه بالحدّ، ولم يمتنع تعريفه بالرسم، ولذلك يعدّ الرسم أعمّ، كما يعدّ الحد أتمّ” تمكن العودة إلى:
ـأبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكّاكي: كتاب مفتاح العلوم، الطبعة الأولى، المطبعة الأدبية، مصر، ص230.
[9]المرجع نفسه، مصر، ص232.
[10]من المشهور جداً بين العامة والخاصة أنّ الشكل المبسط للقياس المنطقي الأرسطي يبدأ من مقدمة كبرى، تتبعها مقدمة (أو مقدمات صغرى) متلازمة، تنشأ عنها نتيجة لازمة (كل إنسان فان/ سقراط إنسان/ سقراط فان).
[11]أبو يعقوب يوسف بين أبي بكر محمد بن علي السكّاكي: كتاب مفتاح العلوم، مرجع سابق، ص235ـ 236.
[12]لا ننكر جهود العلماء العرب والمسلمين في الفلسفة من أمثال الكندي (ت: 256هـ) الذي عرّف العرب بالفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة الهلنستية، وألّف وصنّف في علوم متنوعة، والفارابي (ت: 339 هـ) الذي لُقّب بالمعلّم الثاني؛ لأنه شرح أرسطو وأضاف له وعلّق عليه، وابن رشد (ت: 595هـ) الذي دافع عن الفلسفة، وشرح نظريات أرسطو وأفلاطون، ولكننا نعرض في هذه المقدمة لمدى إفادة الفلسفة من البلاغة.
[13]ابن رشد: تلخيص “القياس” لأرسطو، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، ط1، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1988، ص5.
[14]عادل مصطفى: المغالطات المنطقية (طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي: فصول من المنطق غير الصوري)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2007، ص9.
[15]قيس بن الملوح: ديوان قيس بن الملوّح (مجنون ليلى)، دراسة وتعليق: يسرى عبد الغني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999م، ص49.
[16]المصدر نفسه، ص49.
[17]أفلاطون: المحاورات الكاملة، ترجمة: شوقي داود تمراز، الأهلية للنشر والتوزيع، مج2، بيروت، 1994،ص334.
[18]عادل مصطفى: المغالطات المنطقية، مرجع سابق، 2007، ص155.
[19] ماهر عبد القادر محمد علي: المنطق ومناهج البحث، منشورات كلية أصول الدين، نينوى، 2007، ص15.
[20]يقول ديفيد هيوم:”الحكيم من يفصّل اعتقاده على قدّ البيّنة”. انظر:
عادل مصطفى: المغالطات المنطقية، مرجع سابق، 2007، ص11.
[21]المرجع نفسه، ص12، والتعريف كما يشير عادل مصطفى في الهامش منقول عن:
The Cambridge Dictionary Of Philosophy, Cambridge University Press, 1995, P. 376.
[22]تقوم مغالطة الرنجة الحمراء (Red Herring) على توجيه المتلقي إلى ما هو ليس جوهرياً في قضية ما، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى الرنجة الحمراء (من أنواع السمك) ذات الرائحة النفاذة التي كان يضعها اللصوص في طريق الكلاب البوليسية لتضليلها عن اللحاق بهم.
[23]البحتري: ديوان البحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، دار المعارف، القاهرة، 2009، ص ص208ـ 209.
[24]أبو الفرج قدامة بن جعفر: نقد الشعر، مرجع سابق، ص62,
[25]أبو العباس ثعلب: شرح شعر زهير بن أبي سلمى، تحقيق: د. فخر الدين قباوة، دمشق، ط3، 2008، ص36.