تاريخ

صِّراع الحرية وسياسة القطيع!!

الكاتبة – شيرين أبو خيشه | القاهرة 

إنَّما الفردُ على نفسه وبدنه وعقله سلطان.
(جون ستيوارت مِل)

مُلَّ المُقامُ فكم أُعاشِرُ أمر
أمَرَتْ بغيرِ صلاحِهاأُمَراؤها
ظَلموا الرَّعيَّةَ واستجازوا كَيْدَها
فَعَدَوا مَصالَحها وهُمْ أُجَراؤها

(المعري)

الصراع بين الحرية والسلطة أبرز سمات الأحقاب التاريخية التي نعلمها منذ القِدَم غير أن هذا الصراع كان في الأزمنة القديمة بين المواطنين أو طبقات منهم وبين الحكومة وكانت الحرية تعني الحماية ضد طغيان الحكام السياسيين إذ كان يُنْظَرُ إلى الحكام على أنهم في وضع مضاد بالضرورة للشعب الذي يحكمونه باستثناء بعضٍ من الحكومات الشعبية وكان الحكامُ عبارةً عن حاكمٍ واحدٍ أو قبيلة مهيمنة أو طبقة مغلقة وكلهم يستمدون سلطتهم بالوراثة أو الغزو وهم في جميع الأحوال لم يكونوا يتولَّون الحكم بمشيئة المحكومين ورغبتهم ولم يكن سَراةُ الناس يغامرون وربما لا يرغبون بالدخول في صراعٍ مع الحكام مهما تكن ألوانُ الحصانة التي يتمتعون بها ضد ممارساتهم الجائرة فقد كان يُنظَر إلى سلطة الحكام على أنها ضرورية ولكن أيضًا على أنها شديدة الخطورة فهي سلاحٌ خليقٌ بأن يستخدمه الحكامُ ضد رعاياهم استخدامًا لا يَقِلُّ بحالٍ عن استخدامه ضد العدو الخارجي ولكي تتم حمايةُ الأعضاء الأضعف في المجتمع من أن يقعوا فريسةً لما لا حَصْرَ له من النسور الكواسر فقد دَعَت الحاجة إلى وجود واحدٍ أشدَّ افتراسًا من الباقين تُفوَّض إليه مهمةُ كبحهم وإخضاعهم غير أن ملك النسور لن يكون أقل ميلًا لافتراس القطيع من أي واحدٍ من صغار الطامعين وعليه فقد كان لِزامًا على القطيع أن يكون في موقف دفاعٍ دائمٍ ضد منقاره ومخالبه ولذا فقد كان هدف الوطنيين هو أن يضعوا حدودًا للسلطة التي يُسمَح للحاكم بممارستها على المجتمع وكان هذا الحد من سلطة الحاكم هو ما يعنونه بالحرية ولقد حاولوا تحقيقَ ذلك بطريقتين الأولى هي الحصول على اعتراف بضروبٍ معينةٍ من الحصانة تُسَمَّى الحريات السياسية أو الحقوق السياسية والتي كان انتهاكُها من قِبَلِ الحاكم يُعَد خرقًا لواجبه وإذا انتهكها بالفعل فإن مقاومته مقاومةً خاصة أو التمرد عليه تمرُّدًا عامًّا يُعَد أمرًا له ما يسوِّغه والطريقة الثانية وهي بصفة عامة متأخرة زمنيًّا عن الأولى في تأسيس ضوابط دستورية بموجبها تكون موافقةُ المجتمع أو هيئة من صنفٍ ما يُفترَض أنها تمثل مصالحَ المجتمع شَرْطًا ضروريًّا لإجازة بعض القرارات المهمة التي تتخذها السلطة الحاكمة ولكن مع تقدُّم البشرية جاء الوقت الذي لم يعد فيه الناس يرون أي ضرورة طبيعية في أن يكون حكامُهم سلطةً مستقلةً مصلحتُها في تضاد مع مصلحتهم وبدأ لهم أن من الأفضل كثيرًا أن يكون مختلف حكام الدولة مُفوَّضين أو مندوبين عنهم متى شاءوا وبهذه الطريقة وحدها يضمنون ضمانًا تامًّا ألا يُساءَ استخدامُ سلطات الحكومة ضدهم ومِنْ ثَمَّ فليس ما يدعو إلى الحد من سلطة الحكام ما داموا في هويةٍ مع الشعب وما دامت مصالُحهم وإراداتهم هي مصالح الأمة وإرادتها وليس ما يدعو إلى أن تحمي الأمةُ نفسَها من نفسِها فما سلطة الحكام إلا سلطة الأمة ذاتها وقد تركَّزت في أيديهم بحيث تجعل الأمة قادرة على استخدامها وما الحكامُ في حقيقة الأمر إلا أداةُ الأمة أو آلتُها في حكم نفسها.
لا جدوى بأن تلجِمَ الحكام بينما تترك نفسه حُرًّا طليقًا هذا يبدو وجيهًا مُحكَمًا ولكن فقط على صعيدٍ نظريٍّ أو في فراغ تجريدي مثالي فإذا ما انتقل إلى الصعيد العملي الفعلي اصطدم بإملاءات الحياة واحتَكَّ بتضاريس الواقع وسلطة الشعب على نفسه لا تعبر عن واقع الأمر ولا تترجمه ترجمةً أمينةً فالشعب الذي يمارس السلطة ليس هو دائمًا الشعب الذي تمارَس عليه السلطة والحكم الذاتي الذي يتحدثون عنه ليس هو حُكمَ كل فرد لنفسه بل حكم كل فرد بواسطة الباقين مجتمعين بل إن إرادة الشعب تعني عمليًّا إرادة الشطر الأكثر عددًا أو الأكثر فاعلية من الشعب أي الأغلبية أولئك الذين نجحوا في أن يجعلوا أنفسهم أغلبيةالشعب إذن قد يحب أن يَكبِتَ عددًا من أفراده وتلك إساءةٌ لاستخدام السلطة تستوجب نفسَ الحذر والاحتراز لقد بات واضحًا أن من أهم مشكلات المجتمع الديمقراطي مشكلةَ استبداد الرأي العام وطغيان الأقليه التي تميل إلى فرض رأيها على الأغلبية وبالتالي على الفرد وبذلك تشكل تهديدًا خطيرًا للحريةوكغيره من أصناف الطغيان كان الطغيان على الأغلبية في بداية الأمر ولا يزال لدى العامة رهَبُه من المستقبل من قرارات السلطات العامة ولكن سرعان ما أدرك المتفطنون من الناس أن المجتمع إذا ما تحول هو نفسه إلى طاغية المجتمع ككل على الأفراد المنفصلين الذين يؤلفونه فإن وسائل طغيانه لا تنحصر في قراراتٍ ينفذها بأيدي موظفيه السياسيين إن المجتمع قادرٌ على تنفيذ أوامره الخاصة وهو ينفذها فعلًا وإذا ما أصدر المجتمعُ أوامرَ خاطئةً بدلًا من الأوامر الصحيحة أيَّ أوامرَ على الإطلاق في أشياء لا دخل له بها فإنه بذلك يمارس طغيانًا اجتماعيًّا أشد هولًا من كثيرٍ من ألوان الاضطهاد السياسي وهو الطغيان الاجتماعي وإن لم تدعمه عادةً عقوباتٌ شديدةٌ هو أمْكَنُ من سواه من ضروب الطغيان فهو ينفُذ نفاذًا أعمقَ بكثيرٍ إلى تفصيلات الحياة ودقائقهاويستعبد الروحَ نفسها إذن من طغيان الحاكم لا يكفي فلا بد من الوقاية أيضًا ضد طغيان الرأي السائد والشعور السائد التوقي من مَيْل المجتمع بطرقٍ أخرى
هناك حَدًّا للتدخل للرأي الجمعي في استقلالية الفرد والعثور على هذا الحد وصيانته من التعدي والانتهاك هو أمر لا يقل أهمية لرخاء البشر وسعادتهم عن الوقاية من الاستبداد السياسي.
نجد أنفسنا بإزاء مشكلة شديدة الصعوبة لم يحرز البشر تقدُّمًا كبيرًا في حلها إن تأمين حرية الفرد تعني أيضًا وضْعَ حدودٍ لتدخُّلِ الآخرين وإن كل ما يجعل الوجود ذا قيمة بالنسبة لأي فرد هو أمرٌ يعتمد على فرض قيودٍ على أفعال الآخرين ومِنْ ثَمَّ فإن بعض قواعد السلوك لا بد من فرضها بالقانون في المقام الأوَّل وبالرأي في كثيرٍ من المناحي فإن الناس في أي عصرٍ وأي بلدٍ تبدو لهم القواعدُ التي يرونها حولهم أمرًا واضحًا بذاته ولا يحتاج إلى تبرير وكأنها مسألةٌ تُجْمِع البشريةُ عليها في كل زمان ومكان وليس ذلك كله سوى وَهْمٍ عام وهو أحد الأمثلة على التأثير السحري للعادات الاجتماعية وهذه العادات كما يقول المثل السائر غير أن الناس ما فتِئوا يخطئون فيظنونها طبيعة وما لا يجوز للمجتمع في تعامله مع الفرد بطريق القهر والسيطرة سواء كانت الوسائل المستخدمة هي القوة المادية في صورة عقوبات قانونية أو في صورة إكراه أدبي يمارسه الرأيُ العام يفيد هذا المبدأ أن الغاية الوحيدة التي تبرر للبشر التدخل في حرية الفعل الخاصة بأي واحد منهم هي حمايةُ أنفسهم منه وأن الغرض الوحيد الذي يحق فيه استخدامُ القوة ضد أي عضو في مجتمع متحضر هو منعُه من الإضرار بالآخرين إن استخدام القوة لمصلحة الفرد المادية أو الأدبية ليس مُبرِّرًا كافيًا إذ لا يحق لأحد أن يجبره على أن يفعل شيئًا أو لا يفعل لأن ذلك خيرٌ له أو لأن ذلك سوف يجعله أسعد حالًا فتلك مبرراتٌ وجيهةٌ للاعتراض عليه أو مناقشته أو محاولة إقناعه أو استعطافه وليس لإكراهه أو إلحاق أي أذى به إن هو فعل غير ذلك فلا شيء يبرر ذلك إلا أن يكون السلوكُ الذي يُرادُ صَرفُه عنه من شأنه ومن المقدر له أن يُلحِقَ الضررَ بالغير إن الجانب الوحيد من سلوك الفرد الذي يجعله مسئولًا أمام المجتمع هو ذلك الجانب الذي يمس الآخرين ويعنيهم أمَّا الجانب الذي لا يمَس غيرَ صاحبه فإنه يخُصُّه وحدَه وله فيه مُطلقُ الحق إنما الفردُ على نفسه وبَدَنِه وعقله سلطان فبرضاهم ورغبتهم الحرة وموافقتهم ومشاركتهم طواعيةً ومن غير خداع فمجال الوعي الباطن يقتضي حرية الضمير بأوسع معنى لهاحرية الفكر والشعور الحرية المطلقة للرأي في جميع الأمور عملية كانت أو نظرية أو علمية أو خلقية أو لاهوتية وقد تبدو حرية التعبير عن الآراء ونشرها خاضعة لمبدأ آخر ما دامت تلحق بذلك الجانب من سلوك الفرد الذي يمس الآخرين ولكن بما أن حرية التعبير والنشر لا تقل أهمية عن حرية الفكر ذاته وبما أنها ترتكز إلى حد كبير على نفس المبررات فإنها لا يمكن عمليًّا فصلُها عن حرية الفكر.
حرية الميول والأذواق وحرية تخطيط حياتنا وَفقًا لشخصيتنا الخاصة وحرية أن نفعل ما نهواه متحملين تَبِعَتَه دون إعاقةٍ من جانب رفاقنا من الخَلْق ما دام فعلُنا لا يُلحِقُ بهم ضررًا مهما بدا لهم تصرفُنا أحمقَ أو شاذًّا أو خطأً.
 يترتب على هذه الحرية الخاصة بكل فرد وداخل نفس الحدود حريةُ اجتماع الأفراد وحرية تضامنهم لتحقيق أي غرض لا يتضمن الإضرار بالآخرين بافتراض أن الأشخاص المجتمعين بالغون راشدون غيرُ مُكرَهين أو مخدوعين.
والمجتمع الذي لا تُحترَم فيه هذه الحريات ليس مجتمعًا حُرًّا مَهمَا يكن شكل حكومته وما هو بمجتمع حر تمام الحرية ذلك الذي لا تتوافر فيه هذه الحرياتُ على نحوٍ مُطلَق وبدون تَحَفُّظ فليس ثمة حرية تستحق اسم الحرية غير حرية سعينا وراء صالحنا الخاص بطريقتنا الخاصة ما دُمنا لا نحاول حرمان الآخرين من صالحهم ولا نحاول إحباط جهودهم للحصول عليها إنما كل فرد هو القَيِّمُ الحق على صحته سواء الجسدية أو العقلية أو الروحية والبشر يربحون إذا تركوا للآخر أن يعيش وفقًا لما يراه خيرًا له أكثر مما يربحون بإكراهه على أن يعيش وفقًا لما يراه الآخرون خيرًا.
الفكر حر بطبيعته وماهيته الحرية ليست شيئًا يَعرِض للفكر بل هي شيءٌ يكونه الفكر حر والفكر غير الحر ليس فكرًا بل هو ﮐالمربع المستدير تناقضٌ ذاتيٌّ بصفة عامة ليس لنا أن نخشى في البلاد الدستورية من أن تقوم الحكومة سواء كانت مسئولةً مسئوليةً كاملةً أمام الشعب أم لا بمحاولة السيطرة على التعبير عن الآراء إلا إذا كانت الحكومة في هذا الفعل تجعل نفسها الأداةَ المنفذة لتعصب الجمهور ولنفترض إذن أن الحكومة في هوية تامة مع الشعب وأنها لا تفكر على الإطلاق في ممارسة أي سلطة قاهرة ما لم يكن ذلك متفقًا مع ما ترى أنه صوت الشعب فهل من حق الشعب أن يمارس مثل هذا القهر سواء بنفسه أو بواسطة حكومته كلا فالسلطة القاهرة نفسها غير مشروعة ولا تجوز لأفضل الحكومات أكثر مما تجوز لأسوئها إنها ذميمة وربما هي أشدُّ ذمًّا لو مُورِسَت وفقًا لإرادة الرأي العام مما لو مورِسَت ضد إرادته فإذا انعقد إجماع البشر على رأي وخالفه في هذا الرأي فردٌ واحدٌ لما كان حق البشرية في إخراس هذا الفرد بأكبر من حقه هو في إخراس البشرية إذا توافرت له السلطةُ التي تُمَكِّنه من ذلك فلو أن الرأي مُلْكٌ شخصيٌّ لا قيمةَ له إلا عند صاحبه وأن منعه من التمتع بهذا المُلْك هو مجرد ضررٍ شخصيٍّ لكان للعدد هنا ثقلٌ ما وكان هناك بعضُ الفَرْق فيما إذا كان الضررُ قد حاقَ بعددٍ ضئيلٍ من الأشخاص أم عددٍ كبيرٍ ولكن الشر المميز الذي يكمن في إخراس التعبير عن الرأي هو أنه يعني أننا نسرق الجنس البشري كله نسرق الأجيال القادمة والجيل الحاضر معًا نسرق الذين يخالفون الرأي أكثر من الذين يوافقونه ذلك لأنَّ هذا الرأي إذا كان صوابًا فقد حَرمنا هذه الأجيال من فرصة استبدال الحق بالباطل وإذا كان خطأً فقد حرمناهم أيضًا من نفع عظيم وهو الإدراك الأكثر وضوحًا والانطباع الأكثر حيويةً للحق والذي ينجم عن اصطدامه بالخطأ.
من الضروري أن نبحث هذين الفرضين كُلًّا على حِدَة فلكل منهما فرعٌ متميز يقابله من البرهان إن من المحال علينا أن نتيقن أن الرأي الذي نحاول خنقه هو رأي الحق وحتى لو افترضنا أننا على يقين من بطلانه فإن خنقه سيظل ضربًا من الشر.
إن الرأي الذي تحاولُ السلطةُ قمعَه قد الرأى الصوابً وإن أولئك الذين يرغبون في قمعه لَينكِرون صوابَه بطبيعة الحال إلا أنهم غير معصومين وليس لديهم سلطةُ حسم المسألة نيابةً عن الجنس البشري وإقصاء أي شخص آخر عن سبيل الحكم إن كل محاولة لإسكات المناقشة تتضمن زعمًا بالعصمة من الخطأ وبوسعنا أن ندين هذه المحاولة بناءً على هذه الحجة العامة وبالأكثر لأنها عامة.
ولسوء الحظ وخيبة الأمل في الحس السليم لبني البشر فإن حقيقة قابليتهم للوقوع في الخطأ لا يقيمون لها وزنًا في أحكامهم العملية قريبًا مما يقيمونه لها في أحكامهم النظرية فرغم أن كل إنسان يعرف جَيِّدًا أنه عُرْضَةٌ للخطأفإن قليلًا من الناس من يرون ضرورة أخذ أي احتياطات ضد إمكان وقوعهم في الخطأ أو يفترضون أن أي رأي يشعرون أنهم على يقين شديد به ربما يكون واحدًا من الأمثلة على خطأ اعترافهم بأنهم عُرْضَةٌ للخطأ إن الأمراء أصحاب الحكم المطلق أو غيرهم ممن اعتادوا أن يذعن لهم الآخرون إذعانًا لا حد له يشعرون عادة بهذه الثقة التامة في آرائهم في جميع الأمور تقريبًا أمَّا من أسعده الحظ وكان وضعُه يتيح له أن يسمع آراءه تُناقَشُ أحيانًا ولا يجعله دائمًا فوق التقويم إن هو أخطأ فإنه لا يضع هذه الثقة المطلقة إلا في آرائه التي يشاركه فيها جميعُ من حوله أو يشاركه فيها أولئك الذين اعتاد احترامَهم ذلك أن الإنسان بقدر افتقاره إلى الثقة في حكمه المفرد فإنه يستند عادةً إلى معصومية «العالم» بصفةٍ عامةٍ و«العالم» بالنسبة لكل فرد يعني ذلك الجزء من العالم الذي يتصل به اتصالًا مباشرًا: حزبه، طائفته، مسجده ،كنيسته، طبقته الاجتماعية … إلخ، قد يوصف الإنسان على سبيل المقارنةبأنه على درجة من التحرر وسعة الأفق إذا اتسع معنى الوسط الذي يعيش فيه فشَمِلَ أي نطاق عريض مثل بلده أو عصره غير أن إيمانه بهذه السلطة الجامعة لا يهزه على الإطلاق علمُه بأن عصورًا أخرى وطوائفَ أخرى وطبقاتٍ وأحزابًا أخرى اعتنقت ولا تزال أفكارًا عكسَ أفكاره بالضبط فهو يحيل إلى عالمه الخاص مسئولية كونه في العالم الحق بإزاء العوالم المخالفة التي يعيش فيه بقيةُ الناس ولا يُقلِق خاطرَه قط أن الصدفة وحدها هي التي حددت أي هذه العوالم العديدة هو العالم الذي يستند إليه وأن نفس الأسباب التي جعلته قسيسًا في لندن كان من الممكن أن تجعله عالما بالأزهر الشريف في مصر ونفس الظروف تجعله بوذيًّا أو كونفوشيوسيًّا في بكين غير أن من الواضح بذاته وضوحًا يُغنيه عن أي بَيِّنَة أن العصور والأجيال ليست أكثر معصومية من الأفراد فما من جيل إلا اعتنق الكثير من الآراء التي بَدَت في نظر الأجيال التالية لا خطأً فحسب بل خُلْفًا لا معقولًا ومن المؤكد أن كثيرًا من الآراء الشائعة اليوم سوف ترفضها الأجيالُ المقبلةمثلما أن الكثير من الآراء التي كانت سائدة ذات يوم هي الآن مرفوضة لدى الجيل الحاضر.
قد يعترض معترِضٌ بأن إدراكنا لقابليتنا للوقوع في الخطأ لا يسوِّغ لنا ألا نستخدم عقولنا جهد استطاعتنا وألا نسلك وفقًا لأفضل قدراتنا ليس ثمة يقينٌ مُطلَق وإنما هناك ثقة كافية لتحقيق أغراض الحياة البشريةوربما افترضنا بل لا بد لنا أن نفترض أن رأينا صواب وأننا نهتدي به في سلوكنا ونحن لا نزعم أكثر من ذلك عندما نمنع الأشرار من إفساد المجتمع بنشرهم لآراء نعتقد أنها كاذبة وخطرة.
هناك فرقًا كبيرًا بين أن تزعم صحةَ رأيٍ ما لأنه صَمَدَ لكل محاولةٍ سَنَحَتْ لمناقشته وتفنيده وبين أن تزعم صدقه لكي لا تسمح بتفنيده أو دحضه. إن إطلاق الحرية التامة في معارضة رأينا وتفنيده هو الشرط عينُه الذي يسوِّغ لنا الزعمَ بصدقه حتى نسير عليه في أفعالنا وليست هناك أي شروط أخرى يمكن بموجبها لموجودٍ له قدراتنا البشرية أن يكون لديه أي ضمان عقلي بأنه على صواب يعزو مل تقدم الجنس البشري عقليًّا وسلوكيًّا رغم «لا معصوميته»، إلى خاصية جليلة ينفرد بها الذهن البشري وهي قدرته على تصحيح أخطائه عن طريق المناقشة والتجربة ليس بالتجربة وحدها فلا بد من المناقشة لتُبيِّن لنا كيف ينبغي تأويلُ التجربةوشيئًا فشيئًا تنكشف الآراء والممارسات الخاطئة وتستسلم للوقائع والبراهين غير أن الوقائع والبراهين قلما تمتلك القدرة على أن تُفْصِح عن نفسهاوإنما هي بحاجة دائمًا إلى مناقشات تكشف معناها تكمن قوة الحكم البشري وقيمته إذن في خصلة واحدة وهي إمكان رده إلى الصواب متى أخطأ ولا يمكن أن نضع ثقتنا فيه ما لم تكن وسائل رده إلى الصواب في متناول اليد بصفة دائمة الشخص الذي يتمتع بمَلَكة حكمٍ جديرةٍ حقًّا بالثقة فكيف واتته هذه الملكة؟ واتته لأنه اعتاد أن يُفسح صدرَه لنقد آرائه وسلوكه ومَرَن على الإصغاء لكل ما يمكن أن يُقال ضده وأن ينتفع بكل ما يكون في هذه الانتقادات من صواب وأن يَعرِض لنفسه وللآخرين إذا اقتضى الأمر خطأ ما تَبَبَّنَ خطؤه ذلك أنه وَجَدَ أن الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الكائن البشري أن يتخذ سبيلًا إلى معرفة كل شيء عن موضوعٍ ما هي أن يُصغي إلى ما يمكن أن يقوله عنه أشخاصٌ متنوعون في آرائهم وأن يدرُس جميع الزوايا التي يمكن لعقولٍ مختلفة أن تنظر إليه منها لم يَتَسنَّ لحكيمٍ قط أن اكتسبَ حكمته إلا بهذه الطريقةولا هو في طبيعة الفكر البشري أن يصير حكيمًا بأي طريقة أخرى.
والتاريخ مَليءٌ بالأمثلة الصارخة على استخدام سلاح القانون بإخلاص وحسنِ نية لاجتثاثِ أفضل الناس وأنبل المذاهب
ما كان للجنس البشري أن ينسى أنه كان في قديم الزمان رجلٌ يُدْعَى سقراط قام بينه وبين السلطات القانونية والرأي العام في زمنه صدامٌ مشهور. وُلِدَ سقراط في عصر وبلدٍ حاشدَيْن بالأفذاذ من الرجال وقد وصلت أنباءُ هذا الرجل عن طريق أناسٍ كانوا أعلمَ الخَلْقِ به وبعصره وقالوا إنه كان أحسن أهل زمانه خُلُقًا وفضيلةًهذا الرجل الذي كان المعلم الأكبر لعظام المفكرين على مدار التاريخ حَكَمَ عليه مواطنوه بالإعدام بعد أن أدانوه قضائيًّا لمروقه وفساد خُلُقِه إذ كان ينكر آلهة المدينة وكان في زعمهم يُفسِد الشباب بأفكاره وتعاليمه لقد وجدته المحكمة مُذنِبًا ولديهم ما يدعونه إلى الاعتقاد بأنها وجدته مُذنِبًا حقًّا وأدانت الرجل الذي ربما كان أجدر أهل عصره بالإجلال وحكمت عليه بالموت بوصفه مجرمًا.
المسيح والمثال الثاني الذي يورده مِل هو محاكمة المسيح لقد اتُّهِمَ المسيح بالمُروق وهي نفس التهمة التي تُلقَى على الناس من أجله فيما بعد يقول مِل إن جميع القرائن تدل على أن الذين حاكموا المسيح وأدانوه لم يكونوا من شرار البشر بل كانوا على العكس خيارًا يبلغون حد الكمال وربما أكثر من الكمال من العواطف الدينية والخُلُقية والوطنية لعصرهم وشعبهم إن رئيس الكهنة الذي شَقَّ ثيابه عندما سمع كلمات المسيح كان على الأرجح مُخلِصًا في رعبه وسخطه إخلاصَ عامة المتدينين الأجِلَّاء الآن فيما يُبدونه من مشاعرَ أخلاقية ودينية وإن معظم الذين يأنفون اليوم من هذا السلوك لو أنهم عاشوا في زمنه ووُلِدوا يهودًا لفعلوا بالضبط مثلما فعل وعلى المسيحيين الأرثوذوكسيين الذين ينجرفون إلى الظن بأن الذين رجموا الشهداء الأوائل كانوا بالتأكيد أسوأ منهم أن يتذكروا أن القديس بولس كان واحدًا من أولئك الذين اضطهدوا المسيحيين الأوائل.
ماركوس أوريليوس: ويُضيف مِل مثالًا ثالثًا لعله أبلغ الأمثلة جميعًا إذا كان هَوْلُ الجُرمِ يُقاسُ بحكمة مرتكبِه ذلك هو الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس الذي كان الحاكمَ المطلَق على العالم المتحضر كله آنذاك لقد بلغ هذا الرجل من الحكمة والأستاذية ما لم يبلغه أي واحد من معاصريه وكان مثالًا لرقة القلب وللعدالة التي لا يشوبها شيءٌ اللهم إلا السماحة الزائدة وكانت كتاباته هي أرفعَ ما أنتجه العقل القديم في الفكر الأخلاقي ولم تكن تختلف اختلافًا يُذكَر عن أخص تعاليم المسيح هذا الرجل المسيحي في كل شيء إلا العقيدة اضطهَدَ المسيحية لقد كان يعلم أن المجتمع القائم في زمنه كان في حالة يُرثَى لها غير أنه رأى أن ما يُمسِك هذا المجتمع ويحفظُه من أن يصير إلى الأسوأ هو الإيمان بالآلهة القائمة وتوقيرُها ورأى أن مهمته كحاكم للبشرية ألا يَدَعَ مجتمعَه يتفتتُ ويتفسخ ولم يتصور إمكانَ إقامةِ روابطَ جديدةٍ تمسك المجتمع إذا ما أُزِيلَت الروابطُ القائمة. ولما كانت المسيحية تستهدف صراحةً حَلَّ هذه الروابط وكان عقله في الوقت نفسه يستغربُ حكايةَ الإله المصلوب ولا يُسيغُهافقد خَلَصَ أرقُّ الفلاسفة والحكام جميعًا مدفوعًا بالواجب المقدس إلى إصدار قرارٍ باضطهاد المسيحية أيظن من يناوئ حريةَ الفكر اليوم أنه أكثرُ حكمةً وفضيلة من ماركوس أوريليوس أو أكثر منه دأبًا في البحث عن الحقيقة والتزامًا بها إذا وجدها فما لم يَدَّعِ ذلك فليَكُفَّ عن ادِّعاءِ العصمة لنفسه ولجموعه وتَكرارِ ما وقع فيه ماركوس أوريليوس العظيم وأدى إلى أوخم العواقب يخطئ من يظن أن إخراسَ الهراطقة أمرٌ لا تشوبه شائبةذلك أنه يؤدي إلى انعدام أي نقاش عادل ودقيق لآراء الهراطقةوالضرر الأكبر إذَّاك لن يقع على الهراطقة بقدر ما يقع على غير الهراطقة فيعوق نموهم الذهني ويُفقدهم شجاعةَ العقل ولنا أن نتصور كم يفقِدُ العالمُ من العقول الواعدة حين ترتبط بالجبن ولا تجرؤ على متابعة أي سلسلة جسورة وفتية من التفكير خشية أن تُفضي بها إلى شيء قد يُعَد منافيًا للأخلاق أو للعقيدة لا يمكن للمرء أن يصبح مُفكِّرًا كبيرًا ما لم يدرك أن واجبه الأوَّل كمفكر هو أن يقتفي فكرَه إلى النتائج التي يُفضي إليها كيفما كانت وإن الحقيقة لتَربحُ من أخطاء من يفكر لنفسه أكثر مما تربحه من الآراء الصحيحة لأولئك الذين لم يعتنقوها إلا ليعفوا أنفسهم من عناء التفكير.
وليست الغاية الوحيدة أو النهائية من حرية التفكير هي تكوين مفكرين عظام بل هي على العكس ضرورية بنفس الدرجة وربما بدرجة أكبر لتمكين المتوسطين من الناس من أن يبلغوا المستوى الذهني الذي يمكنهم بلوغه لقد كان هناك وربما سيظل مفكرون فرادى عظام في مناخ عام من العبودية الذهنية لكنه لم يكن قَط ولا يمكن أن يكون هناك شعبٌ ناشطٌ فكريًّا في مثل هذا المناخ وحيثما وجدنا شعبًا اقتربَ من هذه السمة فترةً من الزمن فما ذلك إلا لأنه عَلَّقَ لبعض الوقت الخوفَ من الفكر الهرطقي وحيثما كان هناك اتفاقٌ ضمنيٌّ على أن المبادئ غيرُ قابلةٍ للنقاش وأُغلِقَ بابُ النقاش في المشكلات الكبرى التي يمكن أن تشغل البشرية فليس لنا أن نأمل في أن نجد ذلك المنسوب المرتفع من النشاط الفكري الذي جعل بعض فترات التاريخ لامعة ولم يهتز عقلُ شعب من أساسه ويجد الحافز الذي يرفع حتى الأشخاص ذوي العقول العادية إلى شيءٍ من منزلة الكائنات المفكرة ما دام يتجنب الخوضَ في مناقشة الأمور الكبيرة والهامة والتي من شأنها أن توقظ العزائم وتشعل الحماسة ولدينا شاهد على ذلك وهو حالة أوروبا إبان العصر الذي تلا عصرَ الإصلاح الديني مباشرةوإن يكن مقصورًا على القاره الثالثة  ومحصورًا في الطبقة المثقفة في الحركة الفكرية في النصف الثاني من القرن الثامنَ عشَرَ وإن دام فترة أقصر حتى من هذه ذلك الاختمار الفكري الذي حدث في ألمانيا في عهد جوته وفخته اختلفت هذه الفترات فيما بينها اختلافًا واسعًا من حيث الآراء الخاصة التي أفرزتها غير أنها تشابهت في سمةٍ معينةٍ وهي أنه في ثلاثتها تم تحطيم نِيرِ السلطة لقد تم في كل منها الإطاحة بالاستبداد الذهني دون أن يحلَّ محله استبدادٌ جديد إن الزخم الذي سنح في هذه الأحقاب الثلاث هو الذي جعل أوروبا على ما هي عليه الآن وما من إصلاح حدث سواء في الذهن البشري أو في النظم والمؤسسات إلا ويمكن تعقبه إلى إحدى هذه الفترات على وجه التحديد.
ومن الناس من يظن أن بحَسْبه أن يعتقد موقنًا بما يراه حقًّا وإن افتقد أية معرفة بأسس هذا الرأي وعجَزَ عن تقديم أي دفاع معقول عنه ضد أتفه الاعتراضات ومن الطبيعي أن يرى مثل هؤلاء وإن تسنى لهم أن يتلقنوا عقيدتهم من خلال سلطةٍ ما أن فتح باب المناقشة في عقيدتهم هو أمر يضر ولا يفيد فإذا ما امتد نفوذ هؤلاء لأصبح من المستحيل رفض الآراء السائدة عن تَبَصُّرٍ وحكمةٍ وإن ظل من الممكن رفضُها عن تسرعٍ وجهل ذلك أن منع النقاش تمامًا هو أمرٌ غير ممكن وحالما أُفسِح له المجال فإن الاعتقادات القائمة على غير اقتناعٍ تكون خليقةً أن تنهار أمام أتفه الحجج ولنفترض مع ذلك أن هذا غير ممكن ولنزعم أن الرأي الحق يصمد في العقل وإن كان يصمد كتحيز وكاعتقادٍ منفصلٍ عن البرهان فليست هذه هي الطريقة التي ينبغي على الموجود العاقل أن يعتنق بها الحقيقة ليس هذا عرفانًا بالحقيقة وما الحقيقة التي يُعتقَد بها على هذا النحو سوى خرافةٍ كبيرة التصقت بالمصادفة بالألفاظ التي تشير إلى حقيقة.
وهناك سببٌ آخر يجعل من اختلاف الرأي مَيْزةً كبرى هناك احتمالين اثنين الأوَّل أن يكون الرأي السائد باطلًا وبالتالي يكون هناك رأي آخر هو الحق والاحتمال الثاني أن يكون الرأي السائد صوابًا ومِنْ ثَمَّ يكون صراعه مع الخطأ أمرًا ضروريًّا حتى نصل إلى فهم واضح لحقيقته ونشعر بها شعورًا عميقًا غير أن هناك احتمالًا ثالثًا أكثر شيوعًا من الاحتمالين السابقين وهو أن يكون الرأيان المتعارضان يشارك كل منهما في الحقيقة بنصيب بدلًا من أن يكون أحدهما صوابًا والآخر خطأً وفي هذه الحالة يكون الرأي غير السائد ضروريًّا لكي يكمل الحقيقة التي لم يجسدها الرأي السائد إلا جزئيًّاوصفوة القول أن اختلاف الآراء هو الفرصة الوحيدة في الوضع الحالي للفكر البشري لإجلاء كل جوانب الحقيقة وإذا وُجِدَ هناك أشخاص يمثلون استثناء من حالة الإجماع الظاهر للعالم حول موضوع ما حتى لو كان العالم على حق فثمة احتمالٌ دائمًا أن يكون لدى المخالفين شيءٌ ما جديرٌ بالإصغاء إليه وأن الحقيقة سوف تخسر شيئًا ما بصمتهم وحتى لو افترضنا أن الرأي الشائع الذي قبلناه لفترةٍ طويلةٍ ماضيةٍ لم يكن صوابًا فحسب وإنما يشتمل على الحقيقة كلها فإنه ما لم يتعرض لمناقشة قوية وجادة فسوف يتحول عند معظم المؤمنين به إلى اعتقادٍ راسخٍ بل ميتٍ بطريقة مبتسرة دون أن يفهم أحدٌ أسسه العقلية التي يرتكز عليها ليس ذلك فحسب بل إن هذا الرأي الشائع الذي اعتبرناه صوابًا يصبح هو نفسه في خطر الضياع أو الضعف ويحرم من التأثير الحيوي على الأخلاق والسلوك ويتحول بمُضي الزمن إلى اعتقاد شكلي لا يؤدي إلى شيءٍ طيب ولا يُرجَى من ورائه خير أو نفع بل إنه ليرتطم بالقاع فيمنع نمو أي اقتناع حقيقي مخلص يمكن أن يأتي به العقل أو التجربة الشخصية
من الحكمة أن نفسح المجال لشيءٍ من «التجريب» في الفعل والسلوك وأن نتحلى برحابة العقل والصدر تجاه كل غريب مختلف ذلك أن تعدد التجارب البشرية دليل ثراء وخصب الفكرمثلما أنه سبيل تقدم وارتقاء ومن شأن الزمن وحده أن يبين لنا أي هذه التجارب هو الأفضل والأجدى والأنجع فنأخذ به كعادة ونكتسبه اكتسابًا ليس من حق أحد أن يفرض أسلوب حياته على غيره فَرْضًا فالبشر ليسوا قطيعًا من نعاج بل إن النعاج ليست فيما بينها تامة التشابه بل بينها اختلافٌ وتفاوُت وما كان لإنسان أن يجد ثوبًا يناسبه أو زوجين من الأحذية ما لم تكن قد فُصِّلَت على مقاسه أو كان لديه مخزن كامل ينتقي منه أيمكن أن يكون اختيار طريق للحياة أسهل من اختيار ثوب أم هل يتشابه البشر جميعًا في تكوينهم البدني والروحي أكثر من تشابههم في مقاس أقدامهم
ولو أن الأمر كان محصورًا في تنوع أذواق البشر لكان في ذلك مانعًا كافيًا من صبهم جميعًا في قالب واحد فما بالك إذا كان اختلاف الأشخاص يتطلب أيضًا تنوع الظروف الملائمة لنموهم الروحي تمامًا مثلما تتطلب النباتات المختلفة لنموها أجواء مختلفة فالشيء نفسه الذي يساعد شخصًا ما على الارتقاء بطبيعته العليا وتنميتها قد يعوق نمو شخص آخر وقد يكون نمطٌ معيَّنٌ من الحياة مثيرًا صحيًّا لشخصٍ يحفظ جميع ملكات الفعل والاستمتاع عنده في أحسن حال بينما يكون لشخصٍ آخر عبئًا مشتِّتًا يوقف نمو حياته الداخلية بأكملها أو يسحقها تلك هي الاختلافات بين البشر في مصادر متعتهم وفي استهدافهم للألم وتأثرهم بشتى العوامل المادية والأخلاقية فما لم يقابلها تنوعٌ آخر في طرائقهم في الحياة فإنهم لن ينالوا نصيبهم المستحق من السعادة ولن تنمو جوانبهم الذهنية والخلقية والجمالية إلى غاية ما تسمح به قدراتُهم.
ثمة ميلٌ خبيثٌ في العصور الحديثة يجعل العامة أشد ميلًا من معظم العصور السابقة لأن يفرضوا قواعد عامة للسلوك ويرغموا كل فرد على الانصياع للمعيار السائد وهذا المعيار يفيدصراحةً أو ضمنًا ألا نرغب في شيء رغبةً قويةً ومثله الأعلى للشخصية هو أن تكون خِلْوًا من أي سمةٍ بارزةٍ وأن تطمِس بالضغط كما تفعل الأحذية الصينية أي جزء من الطبيعة الإنسانية يبدو بارزًاوألا يُسْمَحَ للفرد بأن يشذ في مجمله عن العاديين من البشر.
إن استبداد العادات هو في كل مكان العقبة التي تواجه التقدم البشري والشطر الأكبر من العالم لم يكن له تاريخ بالمعنى الصحيح لأن استبداد العادات فيه كان استبدادًا تامًّا ذلك هو الحال في «الشرق» كله فالعادات هناك في جميع الأمور هي المرجع النهائي والفيصل العدل والحق هناك يعني الانصياع للتقاليد وها نحن نرى النتيجة فهذه الأمم كانت مبدعةً يومًا ما فلم يكن من فراغ ما شيدته من مدائن وما تضلَّعَت فيه من آداب ومن كثير من فنون الحياة بل هي التي صنعت ذلك بنفسها وكانت يومئذٍ أعظم أمم العالم وأقواها فما هو حالها اليوم؟ رعايا أو تابعون لقبائل كان أسلافهم يهيمون في الغابات عندما كان أسلاف هؤلاء لديهم القصور الفخمة والمعابد الرائعةغير أن أسلاف تلك القبائل الأوروبية الأولى كانوا يمتازون بشيء واحد هو أن العادات لم تكن تمارس استبدادًا كليًّا عليهم بل تتقاسم السلطة مع الحرية والتقدم ويبدو أن شعبًا ما يمكن أن يكون بسبيل التقدم فترة معينة من الزمن ثم يتوقف فمتى يتوقف؟ عندما يفلِس من الأفذاذ المتفردين ولا يعود يمتلك الشخصية الفردية.
وما الذي حفظ أوروبا حتى الآن من هذا المصير؟ ما الذي جعل عائلة الأمم الأوروبية عائلةً متقدمةً بدلًا من أن تكون قسمًا راكدًا ثبوتيًّا من الجنس البشري السبب لا يكمن في أي امتيازٍ فائقٍ فيهم والذي إن وُجِدَ فبوصفه المعلولَ لا العلة وإنما السبب هو تَنوُّعُهُم الملحوظ في الشخصية وفي الثقافة فالأفراد والطبقات والأمم في أوروبا كانوا متباينين الواحد عن الآخر غاية التباين لقد سلكوا طرقًا متعددةً جِدًّا يؤدي كل منها إلى شيء ذي قيمة صحيح أنهم لم يَسْلَموا من التعصب ومحاولة كل منهم فرضَ طريقه على الآخر غير أن محاولة كل منهم إيقاف تطور الآخر قلما أسفرت عن نجاح دائم بل كان كل منهم يُضطَر في نهاية الأمر إلى تقبُّل الخير الذي يقدمه له الآخرون. وأوروبا في اعتقادي مدينة لهذه الكثرة من الطرق في تقدمها ونموها المتعدد الجوانب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى