المغالطات المنطقية وأثرها في الشعر العربي (2/8)

أ. د. يوسف حطّيني | جامعة الإمارات

الفصل الأوّل: سحر التّزييف
قتـلَ الورْد نفسهُ حسَداً مِنْـ ـكِ وألقى دماهُ فـي وجـنـتـيـكِ
الأخطل الصغير

 (1)

لا شك أنّ القارئ الكريم سمع عن حجر الفلاسفة؛ ذلك الحجر الأسطوري الذي يحوّل المعادن الرخيصة إلى ذهب، وربما تمنّى في نفسه ذات يوم ألا يكون ذلك الحجر أسطورياً، وأن يحصل عليه، ليتمكن من تزييف جوهر الأشياء لفائدته الشخصية، غير أن الشعر كفاه مشقة هذه الأمنيات؛ إذ استطاع أن يمتّع النفس البشرية بدهشة الخديعة، ويجعل النتيجة الخادعة، لا سحراً حراماً يعيبه التزييف، بل سحراً حلالاً يمنحه التزييف قدرة إضافية على التقبّل.

ثمة مغالطتان منطقيتان غير مقبولتين، عمادهما التزييف، يرتكبهما منتجو الإصدارات الكتابية والشفاهية، في نصوصهم وحواراتهم، تسمّى إحداهما مغالطة السبب الزائف (False Cause)، بينما تسمّى الأخرى مغالطة “القسمة الزائفة” (Black And White Fallacy).

(2)

تقوم مغالطة السبب الزائف[1] (False Cause)، عند الربط بين حدثين، على “الخلط بين العلّة والمعيّة، حين يتم إغفال سبب مشترك للحدثين كليهما، أو حين يكون الحدثان ناتجين عن حدث ثالث، أو معلولين لعلة مشتركة[2]؛ فهي تقوم على “القطع بوجود علاقة تناتُج (سبب/ نتيجة) انطلاقاً من مجرد ملاحظة التعاقب بين حدثين معينين[3]“،ويمكن للنص التالي أن يوضّح بنية هذه المغالطة:

“تروي الأساطير أن الدّيك ادّعى أنه السبب في شروق الشمس، ولما سُئل عن دليله قال: إنني دائمًا أصيح في الصباح، وبعد صياحي تشرق الشمس دائمًا؛ فأنا إذن سبب شروق الشمس[4]“.

غير أنّ تأثير هذه المغالطة التي كنت أدرّسها ضمن مبحث المغالطات المنطقية الذي كُلّفت بتدريسه لدورة خاصة، كان عليّ مختلفاً؛ إذ كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الرغبة في التأليف؛ إذ كنت بصدد تحليل مغالطة الديك الآنفة الذكر على النحو التالي:

  • ق1= الديك يصيح كلّ صباح.
  • ق2 = الشمس تشرق كلّ صباح.
  • ن = صياح الديك هو سبب إشراق الشمس.

كنت أشرح للطلاب هذه الخدعة المضللة التي تفترض السببية اعتماداً على المعية، وتتم ممارستها من قبل “الديك” الذي يزعم شيئاً يعطيه ميزة ما، مستفيداً من مغالطة السبب الزائف، وفجأة قفزت إلى ذهني قصيدة قصيرة جداً، كنت قد كتبتها، ونشرتها في مجموعتي الشعرية “بنفسجة في سحابة”:

يؤرِّقُني شارعٌ مغلقٌ

ضرعُ أمٍّ يجفُّ

نوافذُ مثقلةٌ بالهمومِ

ونجمةُ صبحٍ تودّعُ مطفأةً

وجهَ فجرٍ حزينْ

تؤرِّقني ظُلْمةٌ في المجرّةِ

تعجزُ عن طردِها

بسمةُ العَاشقينْ

أما كانَ أجملَ

أنْ تدَعي كُوّةَ الكونِ مفتوحةً

عندما تذهبينْ؟[5]

وخطر لي أنّ في نصّي (خديعة ما)؛ إذ  ليس من المنطق في شيء أن يزعم شاعر أنَّ اختفاء الأنثى الحبيبة من حياته سيتسبب في كوارث من مثل انطفاء النجوم وجفاف الزرع والضرع والظلمة التي تلف الكون. وتأسيساً على بناء المغالطة السابقة تمكّنت من تخيّل الشكل التالي:

  • ق1 = انطفاء النجوم وجفاف الزرع والضرع والظلمة.
  • ق2= الحبيبة غائبة.
  • ن = غياب الحبيبة هو سبب انطفاء النجوم وجفاف الزرع والضرع والظلمة.

وإذا كانت القاعدة الأولى في مثال الديك حقيقة واقعية والقاعدة الأولى في القصيدة حقيقة شعرية؛ فإن التشابه بينهما حاصل، غير أن فضل القصيدة، بوصفها نصّاً لا يسعى إلى إحقاق الحقّ، يكمن في استثمار المغالطة لبناء صرح جمالي، عبر إبداع سبب غير منطقي لأمر واقع؛ فمفتاح بوابة الكون، وما يستتبعه من مظاهر الحياة، موجود في يد المحبوبة القادرة القاهرة.

وإذ رحت أذاكر في ذهني بعض أبيات الشعر العربي وجدت وفرة وافرة من التراكيب التي تبتدع سبباً غير واقعي لنتيجة ما، وقد صنّف البلاغيون العرب بعض أشكال هذا الخلل المنطقي الذي يقوم على “كذبة بيضاء” تحت عنوان “حسن التعليل”، وهذا ما سنعود إلى الحديث عنه، بعد أن نعرض بعض الأمثلة من واقعنا الأدبي الحديث والمعاصر؛ فقد كان نزار قباني مولعاً باختراق منطق الأشياء، ويبدو لي الأمر مرتبطاً بولعه الشخصي في اختراق التابوات الاجتماعية واللغوية؛ فكلما أمعن الشاعر الحقيقي في اختراق هذه التابوات فتح البيان له لغة المجاز على مصاريعها، ومن البدهي أن اللغة الأكثر “كذباً” وجمالاً هي الأكثر اعتماداً على التصوير. لقد أفاد نزار أيما إفادة من المغالطة المنطقية المشار إليها، فمنح بلغته وجودَ الأشياء سبباً سحرياً زائفاً يتمحور غالباً حول أثر وجود المعشوقة؛ إذ “نمشي فيندى العشب من تحتنا[6]“، وما أزرار الورد التي تملأ الرّصيف إلا نتيجة لمرورها فوقه. يقول في قصيدة “مذعورة الفستان”:

“دوسي، فمن خطوك قد زرّرَ الـ/ رّصيف.. يا للموسم الطيّبِ[7]

وفي قصيدة “غرفتها” نقرأ:

في الغرفة الزرقاء أحيا أنا

بعدُ يا أخت أصلّي الرياشْ

|||

ليلاتِ ذررْنا تشاويقنا

فساح بالأطياب منّا الفراشْ[8]

وإذا كان القارئ قد أدرك أن التشاويق في لغة نزار تعطّر فراش الأختين؛ فإنه يستطيع أن يضيف هذه المغالطة إلى سابقتيها؛ حيث يتجلى في النماذج الثلاثة وجودٌ يفسَّر تفسيراً شعرياً، بمعنى أن الوجود، لا عدمه، هو ما يسعى الشاعر إلى ابتداع سببه، وهذا ما سنرى عكسه في أمثلة أخرى.

يجسد المثال الأول قاعدتين: وجود الندى ووجود المشي؛ ليؤكد أن خطوات العاشقين سبب للندى، بينما يسعى في المثال الثاني إلى إقناعنا أن وجود أزرار الورد مرتهن بمرور الحبيبة على الرصيف، وفي الثالث يفترض ارتباطاً شعرياً بين وجود العطر ووجود الأشواق.

وعلى العكس تماماً، فإنّ الشاعر ينحو منحى تعليلياً زائفاً، يركن فيه إلى انعدام وجود الآخر، ليؤكد سطوة وجوده وحضوره، بوصفه مالكاً القدرة الكليّة للكلمة، وها هو ذا العاشق الشاعر ينتقم لرسائله التي أحرقتها محبوبته، مؤكداً أن قصائده هي سبب جمالها، وأن حروفه هي التي صاغت ثغرها الجميل، وأن زوابعه هي التي أنشأت صدرها المتمرّد، فلولاه لم يكن لتلك المعشوقة وجودٌ يذكر:

أمطعمةَ النيران أحلى رسائلي

جمالُك ماذا كان لولا روائعي؟

|||

فثغرك بعض من أناقة أحرفي

وصدرك بعض من عويل زوابعي[9]

وثمة تعليل زائف آخر، يسحر به بشارة الخوري قلوب قارئيه، حين يمتنع وجود الجمال، لامتناع الشعر ذاته؛ فهو يصوّر إضراب العنادل عن التغريد، وإضراب الجداول عن التصفيق، وما ذلك إلا لأن الشاعر قد صمت، وتاب عن الغرام:

كفاني يا قلبُ ما أحملُ

أفي كلّ يومٍ هوى أوّلُ؟

|||

أفي كلّ يومٍ لنا مرتعٌ؟

وفي كلّ ثغرٍ لنا منهلُ؟

|||

صمتنا، فما غرّد العندليبُ

وتُبْنا فما صفّق الجدولُ[10]

ولسنا مضطرين في كلّ نموذج أن نحدد القاعدة الأولى والثانية والنتيجة لاكتشاف زيف الترابط؛ فالقارئ يستطيع أن يفعل ذلك بعد أن شرحناه في البداية، ويدرك بالطبع أنّ الأساليب اللغوية لتقديم السبب الزائف غير محدودة، ويبدو أسلوب الشرط شكلاً من أشكالها، (وإن كان الأسلوب ذاته شكلاً من أشكال تقديم شعر الحكمة التي يسوّرها المنطق في كثير من الأحيان)، ولعلّنا ها هنا نستعين بالشاعر أحمد شوقي الذي يجعل بُعدَ الأحبة سبباً سحرياً لذوبان القلب، يقول شوقي:

وأحبابٍ سُقيت بهم سُلافاً

وكان الوصلُ من قِصَرٍ حَبابا

|||

كَأَنَّ القَلبَ بَعدَهُمُ غَريبٌ

إِذا عادَتهُ ذِكرى الأَهلِ ذابا[11]

كما أفاد الشاعر معروف الرصافي من أسلوب الشرط في إيجاد سبب زائف، لا على سبيل حضور الأشياء، ولا على سبيل غيابها، بل على سبيل توقعها استناداً إلى معطيات مجازية، فالشاعر معروف الرصافي الذي زار القدس في ثلاثينيات القرن الماضي توقّع حرباً تأتي على الأخضر واليابس، بعد أن رأى شكل الهلال الذي يشبه الخنجر، فخنجرية الهلال في عُرف المجاز إشارة إلى حرب قادمة. قال الرّصافي:

أرى الأيام ظامئة وليست

بغير دم الأنام تريد ريّا

|||

ولو لم تنوِ حرباً ما تبدّى

بها شكل الأهلّة خنجريّا[12]

وأفادت فدوى طوقان من هذا الأسلوب في ترسيخ سبب جمالي في وعي القارئ، يعلل دخولها إلى محراب الفردوس، فلم تجد إلا صوت المحبوب الذي يفتح الجمال على مصراعيه:

كلما صوتك نادى من بعيد

دافئ الغنة منغوم الصدى

|||

فتح الفردوس لي محرابه

والأماني فرشت لي مرقدا[13]

ونستطيع أن نجد في شعرنا العربي الحديث والمعاصر على امتداد ساحته الجغرافية والزمنية عدداً كبيراً جداً من الأمثلة، التي تبتدع الأسباب الخاصة، لتعليل ظاهرة ما تعليلاً غير منطقي، ولعلنا نكتفي هنا بشاهدين، أولهما للشاعر الموريتاني حرمة بن عبد الجليل العلوي[14]، يقول فيه:

إن هَيفَ الخصور غُرَّ الثنايا

هنّ أردينَ عروةً وجميلا[15]

وثانيهما للشاعر الليبي محمد الديب، يقول فيه:

ألبنان يا معبداً للجمال

أتيتك أغسل أدرانيَهْ

|||

فأنت السبيل لبعث الحياة

وقد ذبلت بعدُ أغصانيَهْ[16]

وإذا كانت البلاغة العربية لم تستوفِ أشكال التلاعب اللفظي بابتداع الأسباب المزيفة، (ولسنا مضطرين في كل مرة إلى التأكيد أن هذا الزيف يمنحها سحرها ودهشتها)، فقد قدّمت لها تعريفاً جامعاً تحت اسم “حسن التعليل”، فجعلت الإظهار والإضمار شكلين محتملين لتقديم ذلك السبب. يعرّف السيد أحمد الهاشمي حسن التعليل[17] بقوله:

“هو أن ينكر الأديب صراحة أو ضمناً علّة الشيء المعروفة، ويأتي بعلّة أخرى أدبية طريفة، لها اعتبار لطيف، ومشتملة على دقة النظر، بحيث تناسب الغرض الذي يرمي إليه[18]“.

يجسّد تعريف السيد أحمد الهاشمي نموذجاً لاستمرار الفكر اللغوي العربي في السعي نحو الاكتمال، في أثناء وضع الحدّ التعريفي، حتى بدايات عصر النهضة، ويتجلى ذلك هنا من خلال احترازِ (صراحةً أو ضمناً) الوارد في التعريف، ففيه إدراك للنقص البشري عن الاكتمال، ودعوة لتقصي نواتج الإبداع، وفيه دعوة للمبدعين من أجل التفنن في ابتكار الصور والمعاني، وفي أداء الإقناع البلاغي الذي يثير خيال القارئ ومشاعره، عن طريق استثمار العلة الطريفة التي تجعل الغريب مقبولاً. وثمة في كتب البلاغة كثير جداً من الأمثلة عن حسن التعليل، كقول البهاء السبكي[19] (ت: 773هـ) في سقوط إحدى منائر مدرسة السلطان حسن في القاهرة:

إنّ المنارة لم تسقط لمنقصةٍ

لكن لسرٍّ خفيٍّ قد تبينَ لي

|||

من تحتها قُرِئَ القرآنُ فاستمعتْ

فالوجدُ في الحال أدّاها إلى المَيَلِ

|||

تلك الحجارةُ لم تنقضَّ بل هبطتْ

من خشيةِ اللهِ لا للضّعفِ والخَلَلِ

ومن ذلك أيضاً ما قاله الشاعر ابن عبد الله المنّان الخزرجي الأندلسي الذي دخل ثملاً على السلطان أحمد المريني عند المساء؛ إذ أنكر عليه السلطان ثمله، ولكنه أجابه ارتجالاً وبديهةً:

صبّحتُهُ عند المساء فقال لي:

ما ذا الكلامُ؟ وظنّ ذاك مزاحا

|||

فأجبته إشراقُ وجهِكَ غرّني

حتى توهّمتُ المساءَ صباحا[20]

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ العلّة الزائفة التي تمارس دورها في التجميل، قد تمارس دورها في التقبيح، ويبدو ذلك أجلى ما يكون في شعر المديح الذي يغلب عليه النفاق، وفيه ترى وجه الخليفة الذي يستمطر الغيث، والغيث الذي يخجل من نزول المطر، وقد يبلغ حدّاً من القبح يجعل الشاعر ينسى آثار زلزال مدمّر ليحصل على دريهمات الممدوح. يقول محمد بن القاسم بن عاصم[21] يمدح الحاكم بعد حدوثِ زلزال في مصر:

بالحاكم العدل أضحى الدين معتلياً

نجلُ العلا وسليلُ السّادةِ الصُّلَحا

|||

ما زُلزلت مِصرُ من كَيدٍ ألمَّ بها

لكنّها رقصت من عَدلِكم طَرَبا[22]

ولا تقلّ المغالطة المنطقية الأخيرة التي ارتكبها الشاعر سماجة عن تلك المغالطات التي تملأ محاوراتنا السياسية والمذهبية، وتسهم في تقبيح وجه العالم الذي يحتاج إلى كل قطرة من الجمال.

(3)

سأل الداعيةُ الإسلاميُّ الشهير “ذاكر نايك” أحدَ المتداخلين الذين كان يناقشهم في أثناء لقاء جماهيري: “أتريد أن تكون في الجنة أم في الجحيم في الحياة الآخرة؟[23]“.

هذا السؤال ينطوي على خبرة إعلامية كبيرة، وهو يمارس نوعاً من المصادرة على السائل، عبر خديعةٍ منطقية، ربما يراها نايك مسوّغة؛ فهو يضع السائل بين خيارين، مع وجود خيار ثالث، قاصداً من ذلك حرق المراحل لصالح دعوته، فلا يسأله: هل تؤمن بوجود حياة آخرة؟ بل يحسم السؤال لصالحه، منتقلاً إلى سؤال آخر، تاركاً الإجابة التي يفرضها المنطق؛ إذ لن يختار أحد الجحيم من بين الخيارين المفروضين، ولن ينتبه إلى مصيدة السؤال النبيل سوى قلة قليلة.

غير أنّ الرجل، واسمه ماهيش، يجيبه، متنبهاً لتلك الحيلة المنطقية:

ـ لا يا سيدي، لا أعتقد أن هناك حياة أخرى.

لقد استخدم الداعية هنا المغالطة المنطقية الثانية التي تقوم على التزييف، وتعرف باسم القسمة الزائفة (Black And White Fallacy)، ويمكن تمثيلها منطقياً على الشكل التالي:

  • إما ق وإما ك.
  • ق يتم استبعادها.
  • إذن تبقى ك صحيحة.

تنطلق هذه المغالطة من ادعاء التخيير، بعد أن تحصر الآخر ضمن خيارات محددة. ويمكن لنا، حتى نبسّطها، أن نتخيل أحدهم يدعونا إلى شراء قمصان على حسابه، بعد أن يعطينا حرية اختيار اللون قائلاً: “اشتروا ما شئتم من القمصان البيض أو السود”، وعندها ستفلت من قبضتنا حرية اختيار ألوان كثيرة، وهذا ما يمارسه السياسيون والاقتصاديون وأصحاب الشركات، وحتى الآباء في منازلهم.

غير أن من يهمنا هنا هم الشعراء..

فهل يحقّ للشاعر ما لا يحق لغيره؟؟

(4)

حين كان هاملت يناجي نفسه في مشهد الراهبات قائلاً: “أأكون أم لا أكون، ذلك هو السؤال[24]” كان يعبّر عن قسمة زائفة، وغير حتمية؛ حيث يضع نفسه أمام خيارين مصيريين، ملغياً كل الخيارات الأخرى، لصالح وجود له معنى، أو عدمٍ يغنيه عن وجود بلا معنى. وكان لهذه العبارة الشكسبيرية حظّ كبير من الشهرة؛ إذ انتقلت إلى كل مكان من هذا العالم، بينما بقيت حبيسةَ أوطانها عباراتٌ أخرى تقوم على مبدأ القسمة ذاته، مترجّحة بين الموت والحياة، على نحو ما نجد في كثير من شواهد شعرنا العربي من عنترة إلى المتنبي وصولاً إلى الجواهري وعبد الرحيم محمود[25]…..

فعنترة العبسي يضع كأسي الحياة والموت على طرفي ثنائية، ويعطي لحدّي هذه الثنائية صفات إضافية، فيقيّدها من خلال الوصف، ويمسح كل خيار آخر حين يقول:

لا تسقني ماء الحياة بذلّة     بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل[26]

وبذلك يعكس ترتيب مقولة شكبير (أو بالأدق فإن شكسبير هو من عكس ترتيب المقولة)؛ إذ يرفض الفارس الجاهلي أن يكون ذليلاً في الشطر الأول، ويقبل أن يكون عزيزاً في الشطر الثاني، وهذا ما كرره المتنبي حين وضع المرء أمام الخيارين السابقين، بالترتيب الشكسبيري، في قوله:

عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ 

بين طعن القنا وخفق البنود[27]

الحياة والموت هنا يجتمعان في نسق واحد، وهما يبدوان، مع التقييد بالوصف،  خيارين لا ثالث لهما، غير أننا حين نتجاوز المنظومة الأخلاقية الوعظية يمكن أن نكتشف خيارات أخرى، كأن يعيش المرء ذليلاً، أو ينتظر ميتةً لا تحقّق له معنى الحياة.

ولأن الشاعر حامل قضية، اجتماعية أو وطنية أو إنسانية، فإنّ واجبه من الناحية النظرية على الأقل أن يرفض خيار العيش الذليل. وربما يكون من المناسب أن نذكّر بقصيدة الجواهري التي مطلعها: “أتعلم أم أنتَ لا تعلمُ” إذ يحرّض الشعب العراقي على الثورة ضد الإنكليز:

تقحّم، لعنتَ، أزيزَ الرَّصاصِ

وجرّب من الحظّ ما يُقسمُ

|||

فإمّا إلى حيث تبدو الحياةُ

لعينيكَ مكرمةً تُغنَمُ

|||

وإمّا إلى جدثٍ لم يكن

لِيَفْضُلَهُ بيتُك المعتمُ[28]

ولعلنا نشير إلى الأدب الفلسطيني الذي كانت فيه هذه القسمة أمثولة يحاذيها قائلها، على الرغم من توفر خيار ثالث لم يرتضه الأدباء، فسقطوا دفاعاً عن تنظيراتهم، ومنهم الكاتب الشهيد غسان كنفاني الذي قال على لسان إحدى شخصياته: “طالما أنّ الإنسان دُفع ليعيش دون أن يؤخذ رأيه بذلك، فلماذا لا يختار هو وحده نهايته؟[29]“، والشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي قال:

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الرّدى

|||

فإما حياة تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدى[30]

غير أن ثمة موضوعات أخرى غير الحياة والموت يمكن أن تشكّل طرفي القسمة الزائفة، إذ يتم استثمارها شعراً، وبكفاءة عالية، من قبل الشعراء في الحزن والحبّ والأخوة والصداقة وغيرها، فالشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي يضع نفسه تحت تأثير مغالطة منطقية دائمة تعتمد على قسمة زائفة، فهو أسير الحزن، والحزن خيار، يحاصره في خيارين، أحلاهما مرّ، فيقول في تركيب تجسيديّ بديع:

أَنَا عَالِمٌ بالحُزْنِ مُنْذُ طُفُولَتي

رفيقي فما أُخْطِيهِ حينَ أُقَابِلُهْ

|||

وإنَّ لَهُ كَفَّاً إذا ما أَرَاحَها

عَلَى جَبَلٍ ما قَامَ بالكَفِّ كَاهِلُهْ

|||

يُقَلِّبُني رأساً على عَقِبٍ بها

كما أَمْسَكَتْ سَاقَ الوَلِيدِ قَوَابِلُهْ

|||

وَيَحْمِلُني كالصَّقْرِ يَحْمِلُ صَيْدَهُ

وَيَعْلُو به فَوْقَ السَّحابِ يُطَاوِلُهْ

|||

فإنْ فَرَّ مِنْ مِخْلابِهِ طاحَ هَالِكاً

وإن ظَلَّ في مِخْلابِهِ فَهْوَ آكِلُهْ[31]

وبالتأكيد فإن زيف هذه القسمة بين موت الشاعر سقوطاً أو التهاماً في البيت الأخير يتجلّى من خلال إلغائه خيارات أخرى تنسيه حزنه الفلسطيني الذي لا يريد منه فكاكاً؛ إذ لا يستطيع أصحاب الوطن السجين أن يكونوا أحراراً في فرح مصطنع، وإن كانوا في الوقت نفسه مصرّين على الأحلام التي لا يريدون أن تنتهي، ولو سقطوا في الطريق إليها، يقول البرغوثي في القصيدة ذاتها، عبر قسمة زائفة أخرى، تلغي خيار تجنّب الأحلام:

فكن قاتلَ الآمال أو كن قتيلَها/ تساوى الرَّدى يا صاحبي وبدائلُهْ[32]

وفي موضوع الحب يضيّق الشاعر السوري نزار قباني خيارات معشوقته، ويضعها أمام خيارين، مخاطباً إياها في إحدى قصائده الشهيرة:

إني خيرتك فاختاري

ما بين الموت على صدري

أو فوق دفاتر أشعاري[33]

وهو إذ يحجب عنها كل خيار آخر، كأن تعيش بلا حب، أو تختار رجلاً آخر، إنما يفرض رؤيته، لا ليخالف منطق العقل، بل ليعطي منطق الشعور إحساساً فائضاً بنرجسية الشاعر التي تتجلى في أحب صورة إلى القلب.

وإذ يتخذ الحب صيغة صوفية عند الشاعر الحموي ابن الفارض ترتقي الخيارات؛ إذ لن تُنال الحياة السعيدة إلا بالموت في حضرة المعشوق، وليس أمامك ثمة خيار آخر إلا الانسحاب من عشق إلهي لستَ أهلاً له:

فإن شئتَ أن تحيا سعيداً فمُتْ بِهِ

شهيداً وإلاّ فالغرامُ لهُ أهْل[34]

فإذا انتقلنا إلى موضوع الصداقة، وعدنا بالزمن نحو العصر الجاهلي أمكننا أن نجد مثالاً طريفاً للمثقب العبدي (ت: 36 ق.هـ)، يذكّر فيه بمقولة الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي وضع العالم عام 2001 أمام خيارين، ملغياً أيّ خيار ثالث: “من لم يكن معنا فهو ضدّنا[35]“. يقول المثقّب:

فَإِمّا أَن تَكونَ أَخي بِحَقٍّ

فَأَعرِفَ مِنكَ غَثّي مِن سَميني

|||

وَإِلّا فَاطَّرِحني وَاتَّخِذني

عَدُوّاً أَتَّقيكَ وَتَتَّقيني[36]

وقد أفاد الشعراء العرب في أغراض شعرهم من هذه المغالطة، فأنزلوا أقدار مهجوّيهم إلى الحضيض، ورفعوا أقدار ممدوحيهم إلى السماك، فقد استثمر الشاعر الأموي الأخطل (ت: 92هـ) هذه القسمة الزائفة في إحدى مدحياته القصيرة قائلاً:

ظَعائِنُ إِمّا مِن هِلالٍ ذُؤابَةٌ

هِجانٌ وَإِمّا مِن سَراةِ الأَراقِمِ

|||

إِذا بُحِثَت أَنسابُهُنَّ لِسائِلٍ

دَعَونَ عِكَبّاً أَو بُجَيرَ ابنَ سالِمِ[37]

فالذوائب هم الفروع، والسراة والأراقم هم الأسياد، وعكبّ وبجير من سادات بني هلال، وبهذا أغلق باب تسرب العيب إلى ممدوحيه عن أي طريق.

(5)

تجدر الإشارة أخيراً إلى أنّ القسمة بين خيارين قد لا تكون زائفة، وقد تكون صحيحة تماماً في حال عدم وجود خيار ثالث، وأمثلة القسمة غير الزائفة كثيرة، غير أننا نكتفي بمثالين، لأن هذه القسمة تجنح نحو التقريرية، وهذا ما يحرم المتلقي من إطلاق العنان لخياله في البحث عن خيارات أخرى، وعن دلالات تلك الخيارات، وعن تعليلٍ تقصّد الشاعر إخفاءه، ومن ذلك قول أبي الفتح البستي (ت: 400هـ) :

عدوُّكَ إمّا معلِنٌ أو مكاتِمٌ

وكُلٌّ بأنْ يُخشى وأنْ يُتَّقى قَمِنْ

|||

فكُنْ حذِراً مِمَّنْ يكاتِمُ سِرَّهُ

فليسَ الّذي يَرميكَ جَهْراً كَمَنْ كَمِنْ[38]

ومن الواضح أنّ هذه القسمة تميل إلى الحكمة والعقلانية والوعظ، وغير ذلك مما يحتاج إلى تعزيز المنطق، ومن ذلك ما قاله حافظ إبراهيم عن اللغة العربية التي تعاني فعلاً من احتضارها على يد المتحدثين بها. يقول حافظ:

 فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيتَ في البِلى

وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُّموسِ رُفاتي

|||

وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ

مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ[39]

ولعلّ القسمة الأخيرة التي يطرحها حافظ إبراهيم بين حياة اللغة وموتها من الحقائق غير الشعرية التي نميل إلى المصادقة عليها، فنبل هدف الشاعر يضعنا أمام حقيقة تقريرية مؤسفة، تعاني منها ثقافة عربية تفقد يوماً بعد يوم بيان لغتها الذي يعدّ الحامل الرئيسي لكل فكر متحضّر.

المراجع والإحالات والمصادر:

[1]“وتسمّى ايضاً: مغالطة السبب المشكوك فيه، أو تجاهل السبب المشترك، أو أو خلط التزامن والسببية، أو منطق الفراشة، أو مغالطة السبب الثالث، أو خلط السبب والنتيجة”. تمكن مراجعة:

ـ يوسف صامت بو حايك: رجل القش (الحشو المنطقي ـ الدليل المختصر للمغالطات المنطقية والانحيازات الإدراكية)، مكتبة (Telegram Network)، 2020، ص68.

[2]عادل مصطفى: المغالطات المنطقية، مرجع سابق، ص137.

[3]يقترح رشيد الراضي ترجمة المغالطات بـ “السفسطات”، وتمكن مراجعة: سفسطة “السببية الزائفة، أو بَعدَه إذن بسببه”، في:

رشيد الراضي: الحِجاج والمغالطة (من الحوار في العقل إلى العقل في الحوار)، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2010، ص43.

[4]د. إبراهيم محمد علي  عبد اللطيف (وآخرون): مهارات اللغة العربية للكليات العسكرية في دولة الإمارات العربية المتحدة، المستوى الثالث، مطبوعات إدارة الخدمات العامة في جامعة الإمارات، ط1، أوكتوبر (تشرين الأول) ـ 2021، ص30.

[5]يوسف حطّيني: بنفسجة في سحابة (قصائد قصيرة جداً)، دار نينوى، دمشق، ط1، 2018، ص19.

[6]نمشي فيندى العشب من تحتنا.. وفوقنا للياسمين اعتراشْ

نزار قباني: الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات نزار قباني، بيروت، ج1/ ص41.

[7]نفسه، ج1/ ص21

[8]المصدر نفسه، ص40

[9]المصدر نفسه، ص418.

[10] بشارة الخوري (الأخطل الصغير): الهوى والشباب، دار المعارف، 1953، ص144.

[11]أحمد شوقي: الشوقيات، مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1953، ج1/ ص70.

[12]معروف الرصافي: ديوان معروف الرصافي، مراجعة: مصطفى الغلاييني، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2012، ص201.

[13]فدوى طوقان: الأعمال الشعرية الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1993، ص161.

[14]شاعر ولغوي وفقيه (ت: 1322هـ/ 1904م)

[15]د. محمد المختار ولد اباه: الشعر والشعراء في موريتانيا، دار الأمان، الرباط، ط2، 2003، ص90.

[16]محمد الصادق عفيفي: الشعر والشعراء في ليبيا، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1957،ص83:

[17]يفصّل الهاشمي في العلة التي يدعيها الشاعر في هذا المحسن البديعي، ويمثّل لها من الشعر العربي، فهي تكون لوصف ثابت غير ظاهر العلة، أو لوصف ثابت ظاهر العلة، أو لوصف غير ثابت ممكن، أو لوصف غير ثابت غير ممكن. تمكن مراجعة:

السيّد أحمد الهاشمي: جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، تحقيق وشرح د. محمد ألتونجي، مؤسسة المعارف، بيروت، ط1، 1999، ص ص397ـ399.

[18]المرجع نفسه، ص396.

[19]البيت من كتاب:

ـ د. عيد محمد شبايك: من جماليات المعنى (حسن التعليل)، دار حراء، القاهرة، ص194.

[20]تم أخذ الحكاية والبيتين من كتاب “زهر الأكم في الأمثال والحكم” للحسن بن مسعود اليوسي (ت: 1102 ه)، وتمكن مراجعة:

الحسن اليوسي: زهر الأكم في الأمثال والحكم، تحقيق: د. محمد حجّي، ود. محمد الأخضر، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1981، ص170.

[21]يُنسب هذا البيت خطأً للمتنبي.

[22] البيتان موجودان في:

ـ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي: الوافي بالوفيات، بعنابة: س. ديدرينغ، فرانز شتاينر، فيسبادن، 1974م، ج4/ ص351.

[23]ذاكر نايك: داعية إسلامي هندي، يلقّبه أنصاره بـ “أسد الدعوة”، وتمنع بعض الدول استقباله محاضراً، بدعوى تشجيعه للتيارات السلفية الإسلامية، واللقاء المشار إليه كان يوم 14/ 4/ 2012.

[24]وليم شكسبير: مأساة هاملت أمير الدانمارك، ترجمة وتقديم: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط5، 1979، ص106.

[25]نذكر هنا أن نزار قباني كتب قصيدة بعنوان “هاملت شاعراً”، تقوم على مبدأ القسمة الزائفة التي اقترحها شكسبير في مقولته. تمكن مراجعة:

نزار قباني: الأعمال الشعرية الكاملة، مصدر سابق، ج1/ ص677.

[26]https://www.aldiwan.net/poem192.html

[27]المتنبي: ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1983م، ص21.

[28]https://www.youandinfo.com/2021/09/blog-post.html

[29]قائل هذه العبارة هو عبد الجبار بطل قصة “قرار موجز”، وتمكن العودة إلى:

ـ غسان كنفاني: القميص المسروق، دار الرمال، قبرص، ط3، 2015م، ص53.

[30]عبد الرحيم محمود: الأعمال الكاملة للشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، تحقيق وتقديم الأستاذ: عز الدين المناصرة، دار الجليل، دمشق،ط1، 1988، ص31.

[31]https://www.aldiwan.net/poem69426.html

[32]المصدر نفسه.

[33]نزار قباني: الأعمال الشعرية الكاملة، مصدر سابق، ج1/ ص645.

[34] ابن الفارض:ديوان ابن الفارض، دار صادر، بيروت، ص134.

[35]أشار الأستاذ أحمد دعدوش إلى هذه المغالطة بالذات، وسمّاها مغالطة “الأبيض والأسود”، وتمكن مراجعة:

ـ أحمد دعدوش: المغالطات المنطقية في وسائل الإعلام، منشورات السبيل، نشر إلكتروني، ط1، 2014، ص39.

[36]المثقب العبدي: ديوان المثقّب العبدي، تحقيق وشرح وتعليق: حسن كامل الصيرفي، جامعة الدول العربية (معهد المخطوطات العربية)، 1971، ص ص211ـ 212.

[37]الأخطل: ديوان الأخطل، شرحه وصنّف قوافيه وقدم له: مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1971، ص323.

[38]أبو الفتح البستي: ديوان أبي الفتح البستي، تحقيق: دريّة الخطيب ولطفي الصقّال، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، 1989م، ص307.

[39]حافظ إبراهيم: ديوان حافظ إبراهيم، ضبطه وشرحه ورتّبه: أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987 ، ص255.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى