الطيب صالح يكتب: بين الأكبريين في أوكسفورد!
الطيب صالح
(1)
عجبت كيف أن شيئا يقود إلى شىء وطريق يؤدى إلى طريق. لقيت في باريس صديقي الرسام السوداني المعروف الدكتور راشد دياب وهو شاب واضح الموهبة تخرج من كلية الفنون في الخرطوم وحصل على شهادة الدكتوراه في الفن من جامعة مدريد حيث صارا أستاذا وهو الأجنبي الوحيد الأستاذ في جامعة مدريد. عرفني بشاب إسباني اسمه (بابلو بنيتو) وهو ايضا أستاذ في جامعة مدريد.
جلست معه ذات صباح في مقهى على ساحة (بلاس شارل ميشيل) في الحي الخامس عشر وغير بعيد من نهر الـ (سين) اكتشفت انه مسلم ويتحدث اللغة العربية بفصاحة غير عادية. كان وجهه مضيئا بحبور وعيناه الفاحمتا السواد، يبتسم كثيرا ويضحك. من اين ايستمد كل تلك السعادة؟ أهدى إلى ترجمته إلى اللغة الاسبانية لكتابين للشيخ محى الدين ابن عربى هما كتاب ( مشاهد الاسرار القدسية ومطالع الانوار الإلهية) وكتاب كشف المعنى عن سر اسماء الله الحسنى) مضينا نتحدث بالغة العربية فعلمت منه انه أصلا من مدينة (مرسيا) حيث ولد الشيخ محي الدين عام 1165م فعهد الخليفة المستنجد بالله وكانت المدينة في ذلك العام محاصرة من قبل الموحدين الذين فتحوها فيما بعد واخضعوها لحكمهم. سألت (بابلو بنيتو) كيف اعتنق الإسلام فأخبرني ان تعمقه في دراسة اللغة العربية والفكر الإسلامي وخاصة فكر الشيخ محيي الدين بن عربي هو الذي هداه إلى الإسلام وقال: (كثيرون في العالم شرقا وغربا.. في اسبانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا وبلاد إسكندنافيا وأمريكا واليابان وغيرها اهتدوا إلى الإسلام بواسطة الشيخ محيي الدين) أخبرني انه ينتمي إلى جمعية من العلماء والباحثين تسمى (جمعية ابن عربي) مقرها
جامعة أكسفورد وأنها تعقد اجتماعها السنوي في الاسبوع التالي للقائنا في كلية (سانت هيوز) وقال: إذا جئت إلى أكسفورد فسوف تجد عددا من الأكبريين). قلت له ( ما الأكبريون) فأجاب: ( تلاميذ الشيخ الأكبر ابن عربي ومريدوه) .
(2)
شدت الرحال إلى (أكسفورد) وذلك هو التعبير المجازي الذي يقتضيه واقع الحال إذ إننى أعود القهقري إلى ديار الأندلس في القرون الوسطى. ولم يغيب عنى وجه الطرافة، بل الغرابة في تلك الرحلة، كون ذلك المفكر المسلم المحير، الذي لم يزل وضعه قلقا في بلاد الإسلام وقد أقتحم هذا الحصن العلمي العتيد الذي نهض في القرون الوسطى أصلا ليكون قلعة من قلاع اللاهوت المسيحي. حتى المكان كلية (سانت هيوز) يحمل اسم قديس نصراني. إنما لعل ذلك شأن الشيخ الحاتمي الطائي ـ كما يصف نفسه ـ منذ أن قال قولته الشهيرة، التي أزعجت كثيرين، وأسعدت كثيرين: لقد صار قلبيا بلا كل (صورة) سوف أشد رواحل الخيال مرارا خلال اليومين الذين أقضيهما مع (مريديه) أنزل وأرحل مع الشيخ محيالدين بن عربيفي اسفاره الطويلة العجيبة في أقطار الدنيا، وهو إنما يسافر في أقطار نفسه. من مرسية إلى (إشبيلية) ومن محي أشبيلية إلى قرطبة حيث لقى فلته زمانه أبا لوليد ابن رشد. تم اللقاء بطلب من ابن رشد بما سمع عن ابن عربي وكان صديقا لوالده كان ذلك في نحو عام1180 وكان الشيخ محي الدين حينئذ لم يتجاوز خمسة عشر. دخل الصبي على الشيخ الجليل، قاضى قرطبة ومستشار السلطان أبى يعقوب يوسف وطبيبه ـ الرجل الذي وصف بأن أرض الأندلس لم تعرف أحدا مثله في ذكائه وعلمه وحسن خلقه وانه كان الفلسفة والطب، ومثله في الفقه وعلوم اللغة والأدب بحرا عميقا واسعا.
(3)
وجدت قوما تحيتهم (سلام)مسلمون كلهم أوجلهم إنجليز وأمريكان وإسبان وفرنسيون وألمان وسويسريون إسكندنافيون وما شئت من أجناس. أبدا لم التقى من قبل مسلمين اربيين بهذه الكثرة في صعيد واحد. استقبلوني بترحاب عظيم ملئ بالدفء وخال من التكلف وقد لفت انتباهي من أول وهلة، بساطتهم وسماحتهم، رجالا ونساء. وكان (بابلو) الذي كأنما عرفته من زمن يعرفني بهم. ألحوا أن أنزل ضيفا عليهم في كلية (سانت هيوز) لكنني أبيت، اذ إنني لم أكن عضوا في معيتهم. ولعل أيضا، بحذري السني المالكي، لم أشان ألقى بنفسي ضربة لازب في غمارة جاذبية شيخهم العتيد كأنني أردت أن أجعل مسافة بيني وبينهم. سرعان ما أدركت أن ذلك الحذر لم يك له ما يبرره. أدركت أن (التبشير) وإغراء الآخرين إلى وجهة نظرهم ليس من همتهم وليس في طبعهم. ليس فيهم أي شيء من ( روح القطيع) كلهم علماء، كل واحد منهم وصل إلى حمى (الشيخ) بمحض إرادته. وقد عجبت أيضا، انهم خالون بالمرة من احساس التوتر الذي تجده لدى المتحولين حديثا
إلى دين ومذهب، بل حتى بعض الذين ولدوا في ذلك الدين كأنهم يخافون ان يرتدوا على أعقابهم في اية لحظة. هؤلاء بدوا لى ساكنين مطمئنين، كان الإسلام هو دينهم الطبيعي منذ البدء، وكأن طريق (الشيخ) هو طريقهم الطبيعي. ولا أنكر أنى آنست إليهم ـ رغم التي اخذتها عن أشياخى المالكيين ـ فقد ذكروني ببعض عباد الله الذين عبرت بهم من (الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) يبدؤون محاضراتهم بالحمد ويختموها بالصلاة علي الكريم. وكان موضوع اجتماعهم كله ( مفهوم الحمد عند ابن عربي) كنت احضر معهم عشاءهم بعد المحاضرات في المساء فقد ابو أن يعفوني من ذلك كان طعامهم بسيطا، وحديثهم خليطا من العلم والدعابة. جلست في اليوم الأول بجانب (برفسور أرل كلر) وهو سويسري كان إلى عهد قريب أستاذا لتاريخ الأديان في جامعة (لوزان) وقد أمضى ردحا من عمره في دراسة أعمال ابن عربي. كان من القلائل غير المسلمين في ذلك الجمع ورغم ذلك في سمته ما يدل على انه لم يخل من نفحات (الشيخ) .
(4)
عجبت لقول الدكتور (جرالد إلمور Gerald Elmore) انه لا يقرأ بتاتاً لأي أحد غير الشيخ محيي الدين بن عربي. وله رأي مكتوب، يقول فيه: ((في كل التراث الفكري للإنسانية.. قليلون جداً، ربما خمسة على الاكثر، من حيث عمق الفكر وجمال اللغة، يكمن أن يوضعوا في مرتبة واحدة مع ابن عربي …. منهم أفلاطون وشيكسبير)). لعل من بعض ما يجذب هؤلاء العلماء الى (الشيخ)، انه كان غزير الانتاج غزارة تدعو الى الدهشة. وهو انتاج ربما ليس له نظير من حيث الكم في تاريخ التراث الانساني. ويقدر بعضهم انه ألف زهاء خمسمائة كتاب. وقد أخذ منه كتاب (الفتوحات المكية) وحده قرابة أربعين عاماً قبل أن يفرغ منه نهائياً. انه عبارة عن غابة من الرؤى والافكار، واسعة كثيفة متشابكة، يدخل الواحد منهم، فلا يخرج منها. وكل صاحب علم منهم، يجد عند ابن عربي ما يوافق علمه وذوقه وهواه. الفلاسفة وعلماء النفس والانثروبولوجيا وعلوم الاجتماع والتاريخ والاديان. هذا بالإضافة الى أن كل واحد من هؤلاء العلماء، له ( ^رحلة روحانية وجودية)، خاصة به. يجد كأن ابن عربي يصفها له، ويحثه عليها. يطوح به من درب الى درب، ويطرح عليه الاسئلة، ويعطيه الاجوبة، ثم يعمي عليه الطرق، وينصب له حبائل من الرموز والالغاز، فهو معه في (سفر) متواصل، و(بحث) لا ينتهي. هذا عينه هو الذي أزعج اهل السنة من ابن عربي، وهو عينه الذي يجذب اليه هؤلاء العلماء الأوروبيين، هذا العالم الامريكي (جرالد إلمور) محاضر في جامعة ((ييل – Yale)) حيث حصل على شهادة الدكتوراه عن بحثه حول كتاب الشيخ محيي الدين بن عربي (عنقاء مغرب). وقد قضى ثماني سنوات في القاهرة من عام 1979 حتى عام 1987. وهنالك بدأت صلته بابن عربي. كان موضوع محاضرته في ذلك الاجتماع (( التناقض الظاهري لمعنى الحمد عند ابن عربي مع مذهبه في التوحيد)). وهو بحث فلسفي عويص – كما بدا لي – لا يقل صعوبة عن كتابات (الشيخ) نفسه. ولعل الفقرة التالية أقل غموضاً، وهي تلخص رأي الدكتور (إلمور): ((…… الجانب الذي أسميه جانب النفي في المذهب الاكبري، هو أن المخلوقات أن «تحمد» الله سبحانه وتعالى … الانسان، ليس فقط انه ليس أهلاً للحمد، ولكنه ايضاً ليس مؤهلاً لان يحمد الله سبحانه وتعالى …… ولا يستطيع (المحدث – المقيد) أن يحمد أو يعرف أو يحب (القديم – المطلق) بأي حال من الاحوال.
ومن ناحية أخرى – وهو الجانب الاثباتي – فإن ابن عربي يقر إقراراً كاملاً، أن الكون كله، بالفعل، يسبح بحمد الله سبحانه وتعالى مستحق الحمد، ولكنه أيضاً (حامد) بألسنة الحامدين جميعاً، سواء كان الحمد لله سبحانه وتعالى، أو للناس بعضهم لبعض، انه هو (المحمود)، حتى إذا توجه أي انسان بالحمد لأنه انسان، فهو في كل الاحوال، الحامد والمحمود والحميد، واليه سبحانه وتعالى يرجع الحمد كله ……)). حين عدت الى نص المحاضرة مطبوعة ….. محاولاً *استيضاح تلك المعميات، وجدت أن المحاضر يشير الى قرابة ستين مرجعاً. فبالإضافة الى آيات القرآن الكريم والأحاديث القدسية والأحاديث النبوية، توجد اشارات الى ابن ماجه (السنن) والسيوطي والجرجاني والقنوي (إعجاز البيان في تأويل القرآن) وصحيح مسلم والبخاري والترمذي وأبو داود وابن حنبل (المسند) وابن العارف (مجلس المجالس)، هذا بالإضافة الى كتب ابن عربي ومراجع بلغات شتى. الا توجد ثمة مفارقة؟ هذا العلم كله وهذه (العقلانية) لفهم مفكر قام مذهبه برمته نقيضاً للعقلانية؟ تجربته (الروحانية الوجودية) – كما يصفونها – ريمكن قبولها بــ (العقل)، ولكن على طريقة (الشيخ) بــ (الذوق) و (الكشف)، فكيف يتأتى ذلك؟ وقد سألتهم: بما أن تجربة ابن عربي الروحانية من الخصوصية بحيث لا يمكن وصفها بالكلمات، فلماذا لم يلزم الصمت كما فعل بعض (العارفين)؟ أجابني أحدهم – وهو أستاذ في جامعة أكسفورد – بجدية كاملة:
((لان الشيخ الاكبر (أمر) أن يتكلم ويكتب)). هؤلاء العلماء يقبلون بسهولة هذه ( التجليات)، التي نجد نحن صعوبة في تقبلها. وقد زادني الدكتور (جرالد إلمور) حيرة حين قال في محاضرته: (( رغم أن الشيخ الاكبر كان أستاذاً في البيان العربي، ولكنه أحياناً يلجأ الى أسلوب معقد ينفر القارئ غير المتعاطف معه ويثير سخطه . وأنا أظن أن القارئ من كلا المعسكرين – المؤيدين والخصوم – قد يخطئ قصد ابن عربي، ويظن أن المطلوب هو الاقناع بالحجة والمنطق … القصد هو خلخلة الترابط المتعثر، وزعزعة ثوابت الفكر بحيث يطغى عامل الطمس والكشف، ويبتعد العقل عن أنماطه التي اعتاد عليها، ويقبل على القراءة (بين السطور).
(5)
من بين الفوائد الكثيرة التي خرجت بها من ذلك الاجتماع، كتاب أعانني إعانة عظيمة على الاقتراب مجرد الاقتراب ـ من العالم المحير للشيخ محيي الدين ابن عربي الذي وصفه برفسور (رالف أوستن) من جامعة (درم) في إنجلترا أنه (يقف في مجال الفكر الصوفي شامخا مثل الجبل الأعصم) وقال عنه برفسور (هنري كوربان) من جامعة باريس ( انه من أعظم مفكري التصوف، ليس فقط في التاريخ الإسلامي إنما أيضا في تاريخ العالم إطلاقا) هو إذا ـ مهما كان موقفنا من محاذيرنا تجاه ـ ظاهرة عالمية تتضخم أكثر فأكثر يوما بعد يوم، ولن يجدينا نحن ـ أهله ومنطلقه ـ أن نكتفي بتجاهله واعتباره أمر طارئا لا يؤبه له. كانت حياته مزجا من النصر والهزيمة. النصر على المستوى الفردي. عمر طويلا وانجز مشروع حياته ـ مهما كان رأينا فيه: طوف بالعالم الإسلامي شرقه وغربه، واتصل بملوك زمانه ومفكريه وفقهاه ومتصوفته. أنتج إنتاجا ربما لم يتيسر مثله لأحد غيره في غزارته وتنوعه. حدق بجرأة عجيبة في أقاليم نفسه وفي أرجاء الملكوت من حوله. حلم أحلاما لا مثيل لغرابتها، فقد رأى انه عانق الكواكب وامتزج بحرف الهجاء، وكانت الأحلام لديه هي الحقائق، والحقائق محض خيال.
تزوج وأنجب وعشق، وأقام (مدرسة) فكرية لم تزل تؤجج الجدل منذ زمانه إلى اليوم، بعد نحو ثمانية قرون، يتفجر مثل نهر جوفي، في أماكن لم تخطر له على بال. أما على الصعيد العام، فقد كان زمانه محاصرا بالهزائم. بعد خروجه من الأندلس (عام1200م) لم يمض وقت طويل حتى هزم الفرنجة الإسبان جيوش المسلمين هزيمة ماحقة عام 1213، في معركة (لاس نافاس دي تولوسا) وفي عام 1236 سقطت قرطبة. ولم يكن حال المسلمين أفضل في المشرق. انفرط عقد الخلافة العباسية، وانقلبت الدولة الأيوبية إلى دويلات هزيلة، واشتد ضغط الصليبيين على بلاد الشام. وفي عام1250ـ أي بع عشر سنوات فقط من وفاة ابن ـ سلم الملك الأيوبي الكامل، بيت المقدس للملك الصليبي (فردريك الثاني) فدخلها دون قتال. وهكذا نجد أن حياة ابن عربي كانت مليئة بعناصر الدراما والإثارة. هذا ما يقصه كتاب الباحثة الفرنسية (كلود أداس) وعنوانه ( *البحث عن الكبريت الأحمر) تقول في المقدمة: (كان إنتاج ابن عربي كله من بعض وجوهه، سجلا لتجربته الذاتية ـ مجموعة هواتف ورؤى وحوارات مع الموتى ومعارج ولقاءات غامضة فيما أسماه (عالم الخيال) ورحلات بين الكواكب في اقطار السماوات. وسواء كان ذلك هلوسات إنسان مصاب بالفصام العقلي، كما يرى (أسين بلاسيوس) أو تجارب روحية صادقة كما يرى (هنري كوربان) فانه.. يجب علينا أن نذكر أن تلك التجارب كانت لدى ابن عربى حقيقة واقعية مثل الأرض التي يمشى عليها). هذا والد كتورة (كلود أداس) من عائلة كل أفرادها من (مريدي) ابن عربي هي وأخوتها وزوجها وابناؤهما وابوها برفسور (ميشيل شد كيتفتش) من أكابر الأكابريين، وقد حضر معنا الاجتماع في أكسفورد. كان لسنوات طويلة أستاذا في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس. وله دراسات عديدة عن ابن عربي، تعد كلها مساهمات مرجعية عن فكر الشيخ محيي الدين. تقول الدكتورة (كلود أداس) (حاولت قدر طاقتي، أن أسير وراء ابن عربي في دروب ومجاهل لا يجدي فيها الاستعانة بالبوصلة. كثيرا ما يحس الإنسان خلال الرحلة أنه أضاع الطريق، وأحيانا يحس كأنه أسير في متاهة لا سبيل له إلى الخروج منها إنما بعزيه أن الشيخ الأكبر يقول ( *كل الطرق دائرية) وهو قول من بعض معانيه أن الرحلة تعود بالإنسان في نهاية الأمر إلى ذات نفسه).
(6)
الامام أبو حامد الغزالي رحمه الله، قال في متنه الجامع « إحياء علوم الدين « ما معناه ان الحلاج لم يكفر ولكنه أساء الادب. والشيخ محيي الدين بن عربي أيضاً، لام الحلاج لأنه (عربد) وأساء الأدب. كانوا يقولون « لا تصفع الوجه» – وهو قول مأخوذ من نصيحة الرسول (ص) في معاملة المرأة. يقصدون بذلك وجه الشريعة، أي أن (العارف) مهما ظن أنه بلغ مقامات القربى، فعليه الا ((يذيع الاسرار))، أو يقول أو يغفل شيئاً قد يظن انه يتعارض مع ظاهر الشريعة. الشيخ محيي الدين بن عربي أذاع بعض ((الاسرار)). لكنها أسرار خرجت رغماً عنه. ولم يكن مثل الحلاج، الذي كان يقف في الساحات العامة ويصيح ((ما في الجبة الا الله))، وابي يزيد البسطامي الذي قال أفظع من ذلك. انها من قبيل ((العربدة)) و((إساءة الادب)). ورغم أن بعض المحققين فسروها تفسيراً يبعدها عن الكفر، فلا ينكر انها تصدم آذان أهل الشريعة الذين لم يجدوا بداً من رفضها، وبعضهم غالي في رفضه. وكان الحلاج نفسه يفهم ذلك، فقد كان، كما رووا يقف على أبواب المساجد وينادي ((^يا معشر المسلمين! أقتلوني تثابوا)). وقد كان له ما أراد، كما نعلم. ابن عربي حرص على لزوم ظاهر الشرع. وتجلياته التي لا يقل بعضها استفزازاً لأهل السنة عن شطحات الحلاج، لم يذعها على الملأ، انما قيدها في أسفاره في عقر داره، أو باح بها لتلاميذه ومريديه. كانت (مدرسته) مدرسة لقلة من (النخبة). وكأن تلك الافكار خرجت عن محاسبها وذاعت بين الناس وانتشرت، وأحدثت البلبلة والسخط والرضى، وأحياناً أضيف إليها وحرفت، فلعل ذلك كان حتماً أن يحدث، ولم يكن لــ (الشيخ) فيه حيلة. يقول برفسور (هنري كوربان) في كتابه المرجع عن فكر ابن عربي: ((^الحرص على ظاهر الشريعة في الاسلام لدى ابن عربي، لم يكن فقط لأنه كان يؤمن بأن الشريعة هي البناء المتين الاساس، الذي تنطلق منه الرموز وتتعلق وتستمسك به التأويلات والاجتهادات، وانما ايضاً لان الشريعة هي الحصن الذي يحول دون طغيان الجهلاء)). كان الشيخ محيي الدين بن عربي لا يفتأ أن أقواله كلها لم تخرج عن نطاق القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ولكنه اختلف مع من أسماهم (علماء الرسوم)، في أسلوب التأويل، ودرجة الادراك، الذي يقول انه تأتي له بواسطة الفيوض الإلهية والذوق والكشف. أقام مذهبه على (الحب والرحمة). وفي هذا الصدد، لعل أبياته الشهيرة التي أسخطت الفقهاء أشد السخط، لم تخرج أيضاً من حيث هي شعر، عن مناخ التراث الشعري العربي. فقوله (لقد صار قلبي قابلاً كل صورة) الى أن يقول:
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
هذه لأبيات لا تبعد في ظني عن قول ابن المعتز وكأنها مأخوذة منه:
قلبي ميـال لذا وذا ليس يرى شيئاً فيأبه
ويهيم بالحسن كما ينبغي ويرحم القبح فيهواه
وعند ابن عربي ( دين الحب)، هو الاسلام، وليس الحب بمعناه الجسدي المادي. وفي مذهبه أن الاسم القدسي الذي يغلب على أسماء الله سبحانه جميعها، هو (الرحمن). لذلك قال قولته الشهيرة (( *الكون مآله الى الرحمة)) وهو في هذا يسند الى الآيات الكريمة العديدة عن (الرحمة) مثل قوله جل جلاله {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة}. هذه السماحة، هي أيضاً من بعض اسباب جاذبية (الشيخ) لأمثال هؤلاء العلماء (الباحثين) المجتمعين في أكسفورد. لقد هون عليهم الامر، ووسع عليهم الدين، اذ يضيقه بعض الفقهاء، ولم يترك باباً الا فتحه لهم للدخول في حمى الملة الحنيفة. الاسلام عنده يتسع للبسطامي والجنيد، كما اتسع للإمام مالك والامام ابن حنبل. هذا، وقد عدت أدراجي الى لندن، وقد حرك ذلك الاجتماع رغبتي في الرجوع مجدداً الى تاريخ الاندلس، خاصة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، اذ ان فكر ابن عربي لا يمكن أن يفهم الا في سياق تاريخ عصور الانحدار للدولة الاسلامية في الاندلس. ورغم انني لم أقبل كثيراً من آراء أولئك (القوم) في ذلك الاجتماع – او لعلني لم أفهم تلك الآراء بسبب قصور فهمي وقلة علمي – فإنني سوف أذكر مودتهم ولطفهم وتواضعهم على غزارة علمهم. سوف اذكر شاباً داوم معنا على حضور الاجتماعات كلها. أشعت، مشوش الشعر، مرقع الثياب وفي اذنه حلق، لم يكد يبلغ العشرين. تحسبه صعلوكاً أو من هؤلاء الفتية الجانحين الذين تراهم في شوارع لندن. كان يسأل أسئلة ذكية ويعرب عن آراء طريفة. ولما تحدثت معه، وجدت أنه يدرس الفلسفة والرياضيات في كلية من كليات جامعة أكسفورد. قال انه اكتشف ابن عربي صدفة فاستهواه وسحره وسار وراءه.
وتلك العالمة السويدية من جامعة (أبسالا) قالت انها جربت الاديان كلها، لم تترك ديانة الا دخلتها. ثم اكتشفت ابن عربي فجذبها الى الاسلام. وكانت تلك خاتمة بحثها عن الحقيقة. في صباح الاحد – اليوم الثاني للاجتماع – قرأ الدكتور (ستيفن هيرتنستاين) من جامعة أكسفورد ترجمته الانجليزية لدعاء ابن عربي ليوم الاحد – اذ ان لابن عربي دعاء لكل يوم من أيام الاسبوع. استمتعنا اليه بصمت عميق، تخللته نهنهات بعضهم – خاصة من النساء – ببكاء مكتوم. ولما فرغ الدكتور (ستيفن) كان هو نفسه يوشك أن يجهش بالبكاء. وكانت تجلس بجواره على المنصة، الدكتورة (أليسون يانقاو) – أيضاً من جامعة أكسفورد – فكان التأثر واضحاً على وجهها. ولما خرجنا من القاعة رأيت سيدة تبكي بحرقة، ورأيت الدكتورة (أليسون) تسرع اليها وتحتضنها وتربت عليها وتسري عنها.
رحم الله الشيخ محيي الدين بن عربي، وقد كان عظيم الثقة في رحمة الله. مهما كان رأيك فيه، فإنك لا تستطيع أن تنكر، أن قليلين جداً من المفكرين في تاريخ الانسانية، يمكن أن يحدثوا مثل هذا التأثير – خاصة في مناخات غريبة ولغات مختلفة – وخاصة بعد نحو ثمانية قرون من رحيله عن الدنيا. شكرا لك يا دكتور علي هذه الكنوز الثمينة التي دائما ما تتحفنا بها، انت حالك حال (الأكبرين) تجذبك الثقافة والادب وكل ما هو بديع. يبدو ان الاستشراق دور كبير في تسليط الضوء على معظم الكتابات والرؤى الفكرية التي كبتت ابان انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، من منا كان يدرك ان لابن عربي جمعية باسمه تضم نخبة علماء و من شتي الاقطار ما جمعهم حبه و ما وجدوه من خلال ما كتب شي فريد اسر قلوبهم قبل عقولهم، يلاحظ ان اعضاء الجمعية كلهم قامات علمية باسقة توصلوا من خلال البحث العلمي لأهمية منتوج ذلك الرجل الذي لا قيمة له عند اهل الشرق، وقد يصنف عند بعضهم من الزنادقة.