حوار مع الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم في جريدة عالم الثقافة

حاورها: أبو الحسن الجمال | كاتب ومؤرخ مصري

سيرة ومسيرة وذكريات عن والدها الدكتور السيد عبد العزيز سالم

عرفت الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية في كلية الآداب جامعة الإسكندرية قبل أكثر من عشرين عاما، وذلك من خلال كتبها التي كنت أحرص شرائها من معرض القاهرة الدولي للكتاب كل عام، إضافة إلى أنني اقتنيت كتب والدها، الذي أعجبت به منذ بدأت رحلتي مع القراءة، وكذلكأعمال أعلام مؤرخي جامعة الإسكندرية في كل التخصصات، واتصلت بها منذ عشر سنوات لأخذ منها بعض التفاصيل عن حياة والدها الأستاذ الدكتور السيد عبد العزيز سالم، ذلك الرائد الكبير الذي تخطت شهرته الآفاق، وهو من الشهرة بمكان، ثم رأيتها أول مرة وجه لوجه في مؤتمر الحضارة الإسلامية الذي عقد بمكتبة الإسكندرية في منتصف نوفمبر سنة 2016، يومها رحبت بي أيما ترحيب، وأهدتني مؤلفاتها ومؤلفات والدها، وقصت لي طرفاً من حياتها وحياة الوالد، والتقيتها أيضاً عدة مرات خلال زيارتي المتعددة لمدينة الإسكندرية وآخرها في الندوة التي أقيمت على هامش مؤتمر الإسكندرية الدولي للكتاب في بداية يوليو الماضي بمناسبة صدور كتابها الجديد “تغريدات تاريخية من العصر الإسلامي”، وقررت أن أجرى معها هذا الحوار الذي تأجل لسنوات، وفيها فتحت لنا الدكتورة سحر صندوق الذكريات وانسالت في سردها كالشلال الهادر، فتحدثت عن نشأتها وعن أسرتها وعن والدها البروفسير السيد عبد العزيز سالم، وعن الدوافع التي جعلتها تلتحق بمجال التاريخ الإسلامي لتكمل رسالة الوالد، وعن ذكرياتها مع أساتذتها في مصر والعالم، ومنجزها في الدراسات التاريخية، وعن حبها الشديد لمصر الذي ملك عليها نفسها، وعن كتابها الأخير التغريدات، وختمنا هذا الحوار بالحديث عن مدرسة التاريخ في جامعة الإسكندرية..


حديثنا عن النشأة وكيف كان لها الأثر في حياتك العلمية فيما بعد؟
– ولدت في مدينة الإسكندرية 29-10-1961، وكما تعلم أننيالابنة الوحيدة للدكتور السيد عبد العزيز سالم، وأسرة الدي كانت تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، ينتمي والدي إلى الدرجة الوسطى، والده كان موظفاً حكومياً في وزارة المالية، وأصل العائلة من أبو كبير بمديرية الشرقية، وقد انتقل الجد الأعلى لوالدي إلى تلا بمديرية المنوفية، كان جدي لأبي له شغف بالطرق الصوفية، ولم يكن فرداً صوفياً عادياً، وإنما كان شيخ طريقة، وقد أخذ والدي عليه العهد وهو في الرابعة عشر من عمره وأن يستكمل المسيرة من بعده، وقد توفي جدي ووالدي كان في البعثة، ولما عاد لم يستكمل المسيرة وانشغل بالبحث العلمي، وقد كان هذا يحز في والدي، ويشعر بالذنب تجاهه، ويقول: “أنا لم أنفذ وصية الوالد، ولم أكمل المسيرة في الطرق الصوفية من بعده”. وقد أثرت النزعة الصوفية في والدي كثيراً.. وقد تأثرت به نوعاً ما.. وذلك في البعد عن الصراعات، وحب المناصب وحب المال، ولا نسعى إلى المناصب إلا إذا سعت إلينا، ونأتي في سن معين، ونميل إلى العزلة.. ونحن كأسرة نأتي في سن معينة ونميل إلى العزلة، وبعد زواج جدي انتقل إلى الإسكندرية، وقد تأثرت بجدي رغم أنني لم أره، وكان والدي نتاج هذه البيئة التي أثرت فيه كثيراً..


أما بالنسبة لأسرة والدتي، فهي كانت من الطبقة المتوسطةأيضاً ولكن العليا منها، وتنحدر من أسرة أرستقراطية هي أسرة “الملا”، وهي أسرة قدمت مع الوالي محمد علي باشا في بدايات حكمه لمصر عام 1805، وكلمة الملا محرفة من الكلمة العربية “مولاي”، وتطلق على الشيوخ وكذلك على الزهاد والصوفية، وكانوا على شيء من الثروة والجاه، وجدتي لأمي كانت متعلمة، وكذلك أخوالي تعلموا على نفقاتهم وحصلوا على أعلى الدرجات العلمية من أمريكا، وخالتي الأكبر سنا من والدتي مباشرة كانت زميلة لوالدي في تخصص الآثار الإسلامية، وحصلت على الماجستير بإشراف الدكتور محمد عبد العزيز مرزوق، أما والدتي فدرست الفلسفة وحصلت على الماجستير بإشراف الدكتورزكي نجيب محمود، ورغم مكانة أسرتي لوالدتي إلا أن نزعة الزهد والتصوف كانت سائدة لديهم.
سنوات في لبنان:
وتوصل الدكتورة سحر سرد ذكرياتها : في عام 1961 انتقل والدي للعمل في لبنان كمؤسس لقسم التاريخ في جامعة بيروت العربية، وكانت والدتي لا تزال في مدينة الإسكندرية، وكانت في شهور حملها الأخيرة، وبعد أيام جئت إلى الدنيا، وأمضينا في الإسكندرية ثلاثين يوماً، ثم التحقنا به في بيروت.
إذن كانت نشأتي في لبنان وهذه نقطة مهمة جداً.. فلبنان بلد معروف بأنه ملتقى الثقافات، ويجمع بين ثقافة الشرق والغرب، والحقيقة أن والدي لم يبخل عليّ في التعليم، وكانت هناك في بيروت مدارس مجانية كثيرة، وكان معظم الأساتذة المصريين يلحقون أولادهم بها، ولكنه رفض وألحقني بمدرسة خاصة تحمل هذا الفكر وهذه الفلسفة بالصورة التي أرادها والدي، ولما كبرت أحببتها وأردت أيضاً أن أكون عليها بملء إرادتي، هذا الاتجاه يعجبني جداً، وأنا مقتنعة به، مدرسة كانت تجمع بين الأصالة والمعاصرة.. كان فيها مدرسون أجانب.. كنت أدرس اللغات الإنجليزية والفرنسية على أيدي أساتذة من هذه الجنسيات.. وكانت تدرس لي الحساب مدرسة صارت إعلامية كبيرة فيما بعد هي الأستاذة سعاد القاروط العشي، وفي نفس الوقت كان يدرس لنا القرأن شيخاً جميلاً .. لأن والدي أراد أن أجمع بين الثقافة العصرية والثقافة الدينية، هذا مكنني أن أتكلم العربية بطلاقة من قرآتي للقرآن الكريم.. وأيامي في لبنان جميلة، وقد أثرت في شخصيتي تاثيراً كبيراً.


الدكتور السيد سالم مستشاراً ثقافيا في إسبانيا:
وبعد مرحلة لبنان تولى والدي منصب مستشار مصر الثقافي ومدير المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، ومكث هناك ثلاث سنوات، ومكثنا معه فترة وتعلمت اللغة الإسبانية والتحقت بمدرسة الألسن، وأخذت كورسات مضغوطة ومكثفة، والتقيت بكل زوجات الدبلوماسيين في هذه السن المبكرة حيث كنت أبلغ من العمر ستة عشر عاماً. وقد أثّر هذا في شخصيتي في الملبس والمظهر والمأكل وتعلمت فن (الإتيكيت)، وقد ساهم كل هذا وذاك في صقل شخصيتي.. كان الوالد يصطحبني معه إلى الحفلات وإلى بيت السفراء والوزراء المفوضين، وتعلمت كثيراً من هذا الجو الدبلوماسي، وتشربت سلوكه وطقوسه. وهناك أحضر لي أبي مدرسة خصوصية لتعليم اللغة الإسبانية، وكانت فنانة رسامة، واشترط عليها أن تأخذني معها إلى زيارة المتاحف والمعارض الفنية، وتعلمت منها الرسم.. وقد أنفق والدي أموالاً طائلة في تربيتي، وقد صاحبته في زيارة دول أوروبا كلها وإلى المغرب، وكان يقول: “ليس من الأهمية بمكان أن أترك لك أموالاً.. المهم أترك لك ثقافة). وفي مكتبة المعهد المصري كانت المكتبة رهن أمري، وتولاني بالرعاية الدكتور أسعد شريف أستاذ اللغة الإسبانية، والملحق الثقافي بالسفارة، وفي هذه السن كنت أطلع على كتب الفكر العالمي في التاريخ والفلسفة والأدب، مثل كتاب “العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو، وفي هذه الفترة ظهرت نتيجة الثانوية العامة، وأخبروني أنني حصلت على تقدير 94% وفي المركز الثاني على مستوى الجمهورية في الشعبة الأدبية.


هل عاشت سحر سالم في جلباب أبيها الدكتور سالم؟
– العبارة مطاطة جداً.. ما المقصود بجلباب الأب؟.. أن يكون الابن عالة على أبيه، ولا شخصية له.. وأن يكون مجرد ابن لهذه الشخصية العظيمة، ويسير في الركاب، ومن الممكن أن يأتى باسم الأب إلى الحضيض.. هل هذا المقصود أم المقصود بجلباب الأب ستر الأب؟. أن يعيش الابن في ستر أبيه، يخاف على اسمه العظيم، وعلى القيم والأخلاق.. طبعاً يشرف أي ابن أن يعيش في جلباب أبيه، وإذا كان من هذا المنطلق- طبعاً أن أعيش في جلباب أبي.. لأن اسم أبي يشرف بلاد وبلاد وجواز مرور لأي إنسان.. لست أنا فقط ولكن تلامذته أيضاً.
كان والدي يرفض أن أكون صورة منه، وكان يقول أن “الصورة تبقى باهتة.. أنا أريدك سحر وكفى، وأول مؤتمر دعيت إليه كان إلى العراق، ذهبت معه، وكان عمري وقتها 27 عاماً، وبعد ذلك جاءتني دعوة أيضاً من وفد تونسي كان ذاهباً إلى العراق، ولم يوجهوا دعوة لوالدي، وقلت له: لن أذهب إلا معك، وأذكر أنه تشاجر معي، وصرخ في قائلاً: “لن أعيش لك العمر كله.. أذهبي وأنا واثق فيك وفي حسن تصرفك.. ويجب أن تتعلمي أن تواجهي الناس بمفردك، وتبقى لك شخصية مستقلة”. ذهبت بمفردي هذه المرة ومرات أخرى بعد ذلك.
وقد أصيب الوالد بالمرض وأنا في سن العشرين، وظل يعالج وذهب إلى لندن. وأذكر أنه كان في خصام مع أستاذ في قسم آخر بالكلية، وذات يوم كنا عائدين -أنا ووالدي- إلى البيت، وقابلنا هذا الأستاذ وتظاهرت بعدم رؤيته تضامناً مع والدي، ولما وصلنا إلى البيت، غضب مني وأعطاني دروس، وقال لي: “أنا في خصام معه. ما لك أنت وهذا الخصام؟.. هذا الأستاذ في عمر والدك.. من الغد تذهبين إليه وتحييه .. أنت شخصية وأنا شخصية”.
طبعاً أنت تعرف أن هناك بعض الأساتذة يضعون الأقلام بعد الترقية إلى الأستاذية، وقد حصلت على الأستاذية عام 1998، وبعد حوالي ربع قرن أخرجت كماً من الأبحاث جُمعت في كتب أخرها كتاب “تغريدات تاريخية”..
حضرتك تعرف أن كل من يزور مصر من أساتذة التاريخ من الشام والعراق والسعودية ودول الخليج والمغرب والجزائر يأتون خصيصاً إلى قسم التاريخ بآداب الإسكندرية للسؤال عن دكتورة سحر سالم، ولي تلاميذ كثر من هذه البلاد.
الدوافع التي جعلتك تلجين مجال التاريخ الإسلامي وتاريخ المغرب والأندلس على وجه الخصوص؟
– كنت متفوقة طوال سنوات الدراسة في كل المراحل التعليمية، كنت أحصل على الدرجات النهائية في الرياضيات وفي العلوم، وأيضاً في التاريخ والجغرافيا، وعمري ما تصورت أن التحق بقسم التاريخ أو الشعبة الأدبية على الإطلاق، وكنت أريد التحاق بالقسم العلمي بعد السنة الأولى، ولكن كانت هناك رغبة دفينة لدى والدي أن أتخصص في نفس تخصصه، وكان يشجعني على المطالعة في مكتبته العظيمة التي نهبت بعد ثورة يناير سنة 2011، كان يريد مني أن أستفيد من علمه ومن مكتبته، واستخدم معي الترغيب والتشجيع، وأخذني معه في صيف عام 1976 في رحلة اعدتها كلية الآداب إلى إسبانيا لمدة أسبوعين، وكان معنا الدكتور مصطفى العبادي، وعميد الكلية الدكتور أحمد أبوزيد، والدكتور محمد زكي العشماوي نائب رئيس الجامعة، والدكتور سيد مصطفى غازي أستاذ الأدب الأندلسي، وكانت هناك فرصة للطواف في كل أرجاء إسبانيا، وخصوصاً الجنوب الأندلسي الذي يوجد به الآثار الإسلامية وكان والدي يقوم بالشرح لأنه متخصص، فقام بشرح كل أثر وتاريخ بنائه والعصر الذي ينتمي إليه. وكان الشرح ساحراً، وقد عمل لي غسيل مخ، مع روعة الطبيعة وروعة الآثار، مسجد قرطبة، ومئذنة إشبيلية “الخيرالدا”. فأنا من تلقاء نفسي قلت “أنا أريد ان أدرس هذه الأماكن وهذه البلاد والمدن (وهذا ما كان يريده الوالد)، وظهر السرور على وجهه وقال: “يعني عندما ترجعين تحولين إلى قسم أدبي”، فقلت له: نعم. وعندما رجعت حوّلت إلى الشعبة الأدبية، وسط معارضة شديدة من والدتي التي كانت تعرف أنني أريد الالتحاق بكلية السياسة والاقتصاد أو كلية الفنون الجميلة أو كلية الإعلام، وكانت والدتي تريد أن التحق بالجامعة الأمريكية، وأيدتها خالتي التي كانت تعيش في حي الزمالك بالقاهرة، وعرضت علينا أن تستضيفني خلال سنوات الدراسة في مدينة القاهرة.
وأكملت في القسم الأدبي وحصلت على شهادة الثانوية العامة، ثم التحقت بكلية الآداب جامعة الإسكندرية في قسم التاريخ، وفي السنة الأولى أحببت التاريخ القديم، لأنني أحب مصر وتاريخها التليد، وطبعاً أمضيت سنوات عديدة خارج مصر في لبنان وإسبانيا، وهذا أثار في الشجن والحب نحو بلادي، وكانوا في لبنان لا ينادونني باسمي، ولكن باسم “المصرية”.. أنا كينونتي وشخصيتي هي مصر.. وحصلت على الليسانس الممتازة وكان الذي يحصل على تقدير امتياز أو جيد جداً في الفرقة الأولى والثانية يعفونه من السنة التمهيدية، وفي الفرقة الثالثة والرابعة بدأت أدرس مواد التمهيدي إلى جانب مقرر الدراسة، وهذا النظام تم إلغائه فيما بعد، واخترت التاريخ الإسلامي لأكمل مسيرة الوالد باختصار حبي لوالدي الذي ليس له حدود هو السبب الرئيس في دخولي مجال التاريخ. حدثيني عن الأستاذ القدوة في حياتك؟
– الأستاذ القدوة في حياتي هو الأستاذ الدكتور السيد عبد العزيز سالم.. والدي قلمه نزيه، وكانت له آراء كلفته الكثير، لأنه في كتابه “تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس” عارض آراء كبار المؤرخين الذين سبقوه، وهذا سبّب له الكثير من المشكلات، وقد كتبت عن والدي أكثر من بحث آخرها بحثي في كتابي “تغريدات تاريخية من العصر الإسلامي”، ومن معايير الفكر الإنساني أن يكون ذو صبغة إنسانية، وكتابات والدي كانت ذا صبغة إنسانية دائمة منها أنه كان يعضد المظلوم، وكثيراً ما تتردد المقولة الشهيرة “التاريخ يكتبه المنتصرون”، على عكس من ذلك كتب والدي تاريخ المنهزمين، وكان يزيح الغبار عن الشخصيات التاريخية التي تعرضت للنسيان، وقف والدي كثيراً عند الفتح الإسلامي للأندلس وكان للبربر دور كبير في فعاليات هذا الفتح، ثم أن العرب جنوا الثمار كلها وتركوا للبربر الفتات، وهذا أدى إلى ثورة البربر بعد ذلك.. هو ناصر البربر في كتاباته، وهذا كان ضد أفكار سبقته من المؤرخين، لذا ناصبوه العداء.
وهناك شخصية الأمين والتي دونت في المصادر بعد مقتله، وبالتالي لم تأخذ حقها من الإنصاف الواجب، هو تحدث عنها بكل إنصاف .. وغيرها من الموضوعات.
والدي ذو قلم عادل، نزيه، إنساني، يسعى إلى القيم الإنسانية.. رجل لم يسعى إلى المناصب .. والمناصب هي التي سعت إليه، وكان لا يحب المناصب الإدارية، لأنها تعطله عن عمله.. الأستاذ القدوة بكل فخر هو أبي..
وهذا لا يمنع أنني تعلمت من آخرين، أذكر منهم الأستاذ الدكتور جوزيف نسيم يوسف؛ هذا الرجل كان صديقاً لوالدي، وتعهدني أيضاً بالرعاية العلمية، وكان يحضر لي المراجع العلمية باللغات الأجنبية الفرنسية والإنجليزية في تخصصه أوربا في العصور الوسطى، وكنت في الصف الأول وكان يعلمني كيف أستفيد منها.. علمني منهج البحث التاريخي، وكان والدي في هذا التوقيت مازال يعمل مستشاراً ثقافيا في إسبانيا، وكان الدكتور جوزيف يتولاني بالرعاية العلمية، وكان أستاذاً من طراز رفيع..
وأذكر أيضاً الدكتور سيدة إسماعيل كاشف، وقد رقتني في مرحلة أستاذ مساعد وأعطتني في أبحاثي ما بين ممتاز وجيد جداً، وكان من الصعب أن تقتنع بشيء وتعجب به، لا تجامل أحداً، هذه السيدة التقيت بها في مؤتمرات عديدة، وكانت تتصف بصفات الاعتداد بالنفس والإباء والكبرياء والشموخ والارستقراطية.. تعلمت منها الوقار والهيبة وكانت شديدة الأناقة، وتهتم بمظهرها جيداً، وعندما التقيتها أول مرة كانت قد تجاوزت السبعين من العمر، ولكنها كانت جميلة وتهتم بمظهرها ولكنها.. (كانت ذا حرمة موفورة) بتعببير المقريزي وابن تغري بردي، عندما وصفا شجرة الدر.. أي أنها كانت بينها وبين الآخرين مسافات.. انبهرت بصفات الدكتورة سيدة الإنسانية إلى جانب العلمية.
تعلمت كثيراً من الدكتور فتحي أبو عيانة، أستاذ الجغرافية، وعميد كلية الآداب الأسبق، ونائب رئيس جامعة الإسكندرية الأسبق، ورئيس جامعة بيروت العربية الأسبق، كان والدي ينصحني قائلاً: تعلمي من الدكتور فتحي أبو عيانة بقدر الإمكان، وتعلمي منه المرونة والدبلوماسية.. علمني الدكتور فتحي أن أبقى على شعرة بيني وبين الآخرين.. لا أطلق الأبواب مطلقاً..
وعلى سبيل الحياة العادية كانت والدتي قدوة لي .. هي سيدة عظيمة .. وقفت خلف والدي بكل ما تمتلكه من قوة، وكان والدي يقرأ عليها كتاباته قبل نشرها ويأخذ رأيها، حيث أنها كانت سيدة متعلمة وذكية وصاحبة مباديء وكانت دائما تردد هذه المقولات: “المباديء لا تتجزأ”، و”الفضيلة اختيار”، و”الجوهر أهم من المظهر”.
وأيضاً أم والدي وهي من عائلة شومان من سمنود، والتي رحل عنها زوجها وهي في أواخر الثلاثينيات من العمر، وكانت ذات جمال لا نظير له، مثل جمال الأميرات، وكانت تشبه الأميرة فوزية، ورغم هذا انكفأت على ذاتها وآثرت تربية أولادها العشرة، وقامت بتربيتهم أحسن تربية، ويكفي أنها أهديت العالم والإنسانية الأستاذ الدكتور السيد عبد العزيز سالم.
بالنسبة لإسبانيا هناك شخصيات كثيرة قابلتها هناك، أثناء عمل والدي، وبعدها زرتها لوحدي أكثر من مرة في منح من المركز الإسباني بالإسكندرية، أو عندما ذهبت لبعثة داخلية أثناء عملي في رسالة الدكتوراه، أو حضور مؤتمرات .. وفي رئاسة الدكتور جمال عبد الكريم لمعهد الدراسات الإسلامية دعيت لإلقاء محاضرة في المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، وحضرتها الكاتبة الصحفية إقبال بركة، كما ألقيت سلسلة محاضراتعن المرأة في الإسلام في جامعة مدريد المستقلة على مدار عشرة أيام، والتقيت بالدكتورة (ماريا خيسيوس بيجيرا) التي كانت أستاذة للعديد من المبتعثين العرب بعد ذلك من أمثال الدكتور حسام العبادي، وهذه السيدة من أعظم السيدات اللائي أنصفن الحضارة الإسلامية، وقد كرست حياتها للعلم، ودعتني لمنزلها والتقيت والدتها، وأصبحنا أكثر من صديقات، وقد خرجنا سوياً في رحلات داخل إسبانيا..
ذكرياتك مع الأساتذة في مصر والدول العربية وإسبانيا؟
– هم كثير، وكما ذكرت سابقاً أن أول مؤتمر دعيت إليه كان في العراق، وكان صاحب الدعوة الدكتور مصطفى عبد القادر النجار، رئيس اتحاد المؤرخين العرب، وكان الاتحاد مقره في العراق في هذا التوقيت، وكان الرئيسالراحل صدام حسين ينفق بسخاء على الاتحاد في سبيل خدمة التاريخ، فكان يعقد المؤتمرات الدولية على مستوى العراق وخارج العراق بالاشتراك مع منظمات دولية مثل اليونسكو، وكنت وقتها حديثة الحصول على الدكتوراه عام 1987، وحصلت على عضوية الاتحاد وكان والدي عضواً به، وفي هذا المؤتمر التقيت العديد من أعلام المؤرخين في مصر والدول العربية. وحضر المؤتمر الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وبعد أن صافح الجميع وأخذ مكانه على المنصة، هرولت إليه، وقام من مكانه وصافحني بحرارة وكنت حديث المؤتمر (المؤرخة الشابة التي صافحت الرئيس)، وكان حاضراً أيضاً الرئيس ياسر عرفات، والشاعرة سعاد الصباح، والدكتورة ميمونة الصباح، والدكتورة نجاح القابسي وكانت أستاذة كبيرة في ليبيا وزوجها كان وزيراً، وفي هذا المؤتمر التقيت بالمؤرخ المغربي إبراهيم القادري بوتشيش وقد صار من أعظم مؤرخي المغرب والأندلس فيما بعد- وهو يكبرني ببضعة أعوام.. وحصل على الدكتوراه في هذا التوقيت..
ومن الذين أتاحوا لي الفرص الدكتور عبد الجليل التميمي الذي أقام من حر ماله مركز الدراسات المورسيكية في تونس، وقد دعاني إلى موتمر عام 1991 عن المورسيكيين، وكانت فرصة عمري أن التقيت بكبار العلماء في هذا المجال من أمثال: المستشرق الفرنسي (لويكاردياك)، وهو متخصص في الدراسات المورسيكية، وبدأت أكتب عن المورسيكين وهو علم قائم بذاته، وقد أتاح لي الدكتور التميمي الفرصة في كتابة بحث في الكتاب التذكاري عن (لوي كاردياك)، وقد عرفني بأساتذة كبار أمثال: الدكتور مصطفى زبيس، والدكتورة الدولاتي.
وفي المغرب التي زرتها أكثر من خمس مرات شاركت في مؤتمرات عدة، منها مؤتمر عقد في جامعة الملك محمد الخامس بالرباط، وفيه قدمت أول أبحاثي عن الزواج المختلط في الأندلس، وطبع على نفقة الجامعة، وكان المؤتمر فاتحة خير، فقد انهالت عليّ الدعوات بعد ذلك، ومن الشخصيات التي التقيتها هناك البروفسير الكبير محمد بن شريفة، وزوجته الأستاذة الدكتورة عصمت دندش، وهي مصرية من محافظة المنوفية، ودعوني إلى قصرهم المنيف وهو على الطراز الأندلسي، واحتفوا بي أيما احتفاء، وقد دعوني مرة أخرى وأهدوني مجموعة من الكتب والأبحاث.
صدر لك مؤخرا كتاب بعنوان “تغريدات من التاريخ الإسلامي”.. ما الهدف من استخدام العنوان على أبحاث مطولة وليست بوستات موجزة؟
– التغريدة بلهجة وسائل التواصل الاجتماعي هي الجملة القصيرة التي تؤدي المعنى المطلوب، وأنا أحببت أن أتماشى مع العصر، لأن المؤرخ لن يقف جامداً إزاء تحديات العصر، ولا يتوقف عند مرحلة معينة ولابد أن نطور أنفسنا ونتأقلم مع العصر.. في كتابي الأخير المعنون “تغريدات تاريخية من العصر الإسلامي” قدمت فيه 13 بحثاً، بدأت الكتابة فيهم منذ أواخر عام 2012، بعد أن صدر كتابي “صفحات تاريخية”، وأضفت إليهم ثلاثة أبحاث كانوا قد نشروا خارج مصر، حتى يسهل تقديمهم إلى الباحثين..
بعض هذه الأبحاث قصير يقع في خمسة عشر صفحة، والبعض الأخر في حدود 120 صفحة، وهذه الأبحاث الكبيرة تعتبر تغريدات أيضاً للموضوع الذي تناولته.. فلما أتناول مدينتين تحملان اسم “شومان”، وأنا أرجح أن اسم أسرة جدتي لأبي من إحدى هذه المدينتين. ولما أتناول بحثاً في 120 صفحة عن مدينة “برصا” وبعض المؤرخين يزعم أنها العاصمة الأولى للدولة العثمانية، وأنا أثبت بالدليل أنها خامس عاصمة، وهناك بعض الآراء تقول أنها ثالث عاصمة. وتناولت التاريخ السياسي والحضاري والأثري لهذه المدينة إلى عصر السلطان سليم الأول، هذه تعتبر تغريدات.
ومن خلال قراءة ثلاثة عشر بحثاً هناك رسائل معينة أريد أن أوصلها للقاريء لكي يسشتشفها من خلال قراءتها وكل قاريء وفهمه وإدراكه.
وهناك بحث بعنوان “من جديد حول السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي” وقد حافظ على كيان الدولة المملوكية من الضياع.. وأثبت في هذا البحث أن دولة المماليك الأولى والثانية قامت على الفصل بين السلطات، فقد تم أحياء الخلافة العباسية في عهد اللسلطان بيبرس البندقداري، الذي عمل على الفصل بين السلطان، فجعل السلطة السياسية والعسكرية في يد السلطان المملوكي، والسلطة الشرعية والدينية في يد الخليفة العباسي، ولم يعد الخليفة يحكم بالتفويض الألهي، وكانت هذه خطوة على طريق الدولة الحديثة؛ لأن الدولة المدنية هي التي تقوم على أساس الفصل بين السلطات، ومصر المملوكية هي أول من بذرت بذرة الدولة المدنية الحديثة قبل أن تعرف في أوروبا بقرون.
وقيمة مصر في أبحاث كثيرة بالكتاب، فكل قضاة وشيوخ الدولة العثمانية في البدايات تعلموا في الأزهر الشريف على يد علماء كبار من أمثال: ابن حجر العسقلاني، والعيني، والسيوطي، وكان هؤلاء يفدون على مصر ويتعلمون في الأزهر في رواق الأروام، أيام السلطان برقوق، والسلطان المؤيد شيخ المحمودي، وكان يأخذون الإجازة من علماء مصر ويعودوا إلى بلادهم وقد تولوا المناصب والإفتاء والتدريس ومنهم الكوراني؛ الذي كان معلماً للسلطان محمد الفاتح .. يعني فكر محمد الفاتح قد تشكل على يد أستاذ تعلم في مصر.
وهناك بحث آخر وهو دراسة على كتيب للدكتور حسين نصار بعنوان “الثورات الشعبية في مصر الإسلامية”، وعملت دراسة نقدية للكتاب، واحتراماً للدكتور نصار لم أذكر رأيي فيه صراحة، وأنا اختلفت معه على ما عرضه من أحداث أطلق عليها ثورات.. أنا عرفت مفهوم الثورة من معاجم علم الاجتماع السياسي مثل “قاموس علم الاجتماع” لمارشل، كما رجعت إلى معاجم عربية، وجميع هذه الكتب عرفت الثورة بأنها التي تحدث تغيير دائم وليس تغير الذي هو وقتي محدود، أما الثورة فهي تغيير جذري في كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمع من المجتمعات. يجب أن تكون أحداث التغيير جذرية، لأن ما نطلق عليها ثورة شعبية يجب أن يشترك فيها كل طوائف الشعب، يعني لمّا الدكتور حسين نصار يخصص فصلاً بعنوان ثورات الخوارج، وفصلاً بعنوان ثورات الأقباط وآخر بعنوان ثورات العلويين.. ولنا أن نسأله هل أحدث هؤلاء تغييرات جذرية في المجتمع، هل أسقط الأقباط الخلافة الأموية وعادت مصر مسيحية، هل نجح العلويون في إسقاط الدولة الأموية أو الدولة العباسية، ولما قامت الدولة الفاطمية لم تكن نتيجة ثورة وإنما عمل عسكري قادم من بلاد المغرب، وناقشت هذا وعرفت مفاهيم الثورة، كما ذكرت أوصاف المؤرخين القدامي أمثال: الكندي والطبري وابن خلدونلهذه الحركات.. لا يوجد أحد من هؤلاء وقد وصف هذه الحركات بأنها ثورة .. كان يقول: “انتفض .. تحرك .. وثب علي ..” وهذا يتطابق مع التعريفات الحديثة.
وهناك بحث بعنوان “جوانب من تاريخ الأقلية المسلمة في مدينة أشتورياس”، وكان المتعارف عليه أن نرجع إلى المصادر والمراجع الإسبانية، بينما أنا رجعت إلى المصادر الانجليزية والأمريكية، وأيقنت أن هناك مدرسة تاريخية إنجليزية في التاريخ الأندلسي من أعمق المدارس. وهناك مدارس أخرى في جامعات بريطانيا، وأمريكا وفرنسا، قد برعت في دراسة تاريخ وحضارة الأندلس بمنتهى العمق.
إذن التغريدات مختلفة في أنواعها ما بين مفاهيم قديمة صححتها المفاهيم الحديثة، مثل مفهوم الثورات، ولابد من ترشيد هذا المصطلح.. وفي قواميس علم الاجتماع أن الثورات محدودة ونادرة في التاريخ.
الرحلة واثرها في مشوار الدكتور سحر سالم؟
– من البلاد التي زرتها مع والدي في حياته وعندما انتهيت من الدكتوراه ظللت أدعى إلى المؤتمرات العلمية أو التدريس في الجامعات في السعودية في جدة والمدينة المنورة وفترة قصيرة في جامعة مدريد.. كل هذا احتكاك بمدارس فكرية مختلفة، كيف ينمو الفكر؟. بأن ينتقل ويتلاقح مع أفكار أخرى .. لابد أن يكون المؤرخ متجدداً ومتطوراً ولا يكون التاريخ لديه مجرد حدوتة. ونرى المدارس الفكرية الأخرى كيف تفكر؟ وكيف أن هذا الآخر يتناول تاريخنا وحضارتنا؟.. هل نظرية معادية؟ .. هل يحيك لنا المكائد؟.. هل نظرته معتدلة؟ طبعاً الاتجاهات الفكرية المختلفة لابد أننتعامل معها كلها ومن الخطأ أن نعتقد أن هذه المدرسة مختلفة معنا فنبتعد عنها.. هذه الأسفار والرحلات جعلتني أفهم الأقوام الأخرين، لأن التاريخ سلسلة متصلة الحلقات.. لا شيء يأتي من فراغ، والحضارة كم متراكم، كل هذا ساهم في تشكيلي فكرياً، وساهم في نظرتي التاريخية التي أصبحت كلية.. والعلماء المسلمون طبقوا هذه المباديء في العصور الوسطى، فجابوا المشرق والمغرب، واستفادوا من حضارات الشعوب ومن هنا تلاقحت الحضارة الإسلامية بالحضارات الأخرى.
مصر التي في خاطرك إلى مدى ينطبق هذا القول على حياتك العلمية؟
– أنا درست تاريخ الأندلس الذي هو تخصصي الرفيع، كما أنني في نفس الوقت أستاذ للتاريخ الإسلامي العام.. وقد وجدت أن التجربة الإنسانية المصرية أعمق وأعظم تجربة في التاريخ.. التجربة الأندلسية فشلت وفشل الأندلسيون في الحفاظ على بلادهم، وبلاد الأندلس على عظم حضارتها، تناحر أهلها وتقاتلوا وأنقسموا وانتهت بعد ثمانمائة عام.. أما المصريون فعلى مدار آلاف السنين قد حافظوا على بلادهم وعلى وحدتهم، وذهبت كل الامبراطوريات والدول التي احتلت مصر واندثرت، وبقيت مصر.. هذه تجربة تحتاج إلى آلاف الدراسات.
الحقيقة في السنوات العشر الأخيرة بدأت أقول أنني ضيعت جهدي في دراسة الأندلس الذي أندثر وبلدي العظيمة صاحبة التجربة الإنسانية الفريدة التي علمت الإنسانية كلها وهي أم الدنيا، وهي أقدم دولة مؤسسات عرفتها البشرية، وأول دولة كان فيها جيش، وأول دولة موحدة، حتى حضارة العراق لم تتوحد، كانت دويلات، وحضارة اليونان كانت دويلات.. دولة مؤسسات يعني فيها وزارة، ومعابد وكهنة، وشرطة، وقضاء، كل هذا كان متواجداً في مصر التي علمت البشرية كلها .. هي أم الدنيا وهذه العبارة ليست حديثة فقد ذكرها المؤرخون والرحالة القدامى.
كيف أترك هذا التاريخ الضارب بجذوره في العظمة والشموخ وأكرس عمري كله لدراسة تجربة فاشلة.
مدرسة التاريخ في جامعة الإسكندرية؟
هذا السؤال يحتاج الإجابة عليه إلى كتب، وقد أعدت جامعة الإسكندرية مؤخراً كتاباً بمناسبة عيدها الماسي وخصصت لقسم التاريخ فصلا كبيراً. وتميزت مدرسة التاريخ في جامعة الإسكندرية بتميزها في تخصص تاريخ المغرب والأندلس، وهي رائدة في هذا المجال. وأنجبت العديد من الأعلام منذ أن أسسها الأستاذ عبد الحميد العبادي مروراً بالدكتور الشيال وأحمد فكري وصولا إلى الدكتور سالم والدكتور مختار العبادي، والدكتور سعد زغلول عبد الحميد، من هذه المدرسة تفرعت مدارس أخرى في الجامعات المصرية والعربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى