تجليات حكمة في (مسرحيات مجنونة)  للدكتور سعدي يونس بحري

 أ. د. سعد التميمي| العراق
ما زال الفنان المسرحي والشاعر والكاتب د. سعدي يونس بحري حاضرا وفاعلا في المسرح في فرنسا واوربا، وفي ندوة افتراضية اقامها المنتدى العربي الأوربي للسينما والمسرح في باريس، قدم بحريقراءة ممسرحة لأجزاء من كتابه (مسرحيات مجنونة) الذي تضمن مسرحيتين أعد الأولى من قصة (يوميات مجنون) للكاتب نيكولاي غوغول ترجمة: د.ضياء نافع، والثانية من كتاب (المجنون) لجبران خليل جبران، وجاءت قراءة بحري للمسرحيتين لتعيدنا الى نهاية السبعينات عندما قدم مسرحية (يوميات مجنون) بفصل واحد قام بتمثيلها واخراجها بنفسه ،وقدمها على مسارح بغداد وأماكن عامة أخرى رغبة منه في نشر مفهوم المسرح الجماهيري بالاعتماد على الممثل الواحد، وقد ساعده لك بنية قصة غوغول, وقد حققت هذه المحاولة إقبالا من الجمهور وواهتمت بها الصحافة انذاك تجربته  وكان ذلك قبل مغادرته مطلع الثمانينات من القرن الماضي، إذ غلب على قراءته الطابع المسرحي من تموجات صوتية وحركات الجسد التي تحاكي انفعالاته وتفاعله مع الأفكار التي يطرحها النص ، وقد جاء اختياره لموضوعة الجنون عند غوغول وجبران إيمانًا منه بأن الجنون يفتح آفاقًا للفكر والمعرفة والفلسفة ، فالجنون ينقل صاحبه من هموم الواقع ومتاعبه الى فضاء الحرية،فهنا تنقلب المعايير ليصبح الجنون رؤية فلسفية،فبحري في المسرحيتين يحاول أن ينطلق من الذات الواقعة تحت مظلة الجنون الذي لا يخلو من الحكمة والمعرفة ليعبر عن رؤيته وتطلعاته ،وهذا ما دفع بحري ليكون  معدا ومخرجا وممثلا في الوقت نفسه رغبة منه في التعبير عن رؤيته من خلال  موضوعة الجنون بما تحمله من دلالات، منطلقا من فهم عميق للنصين ومن قدرة في الاعداد المتميز وبراعة التمثيل ومستوى مغاير في الإخراج.

   فقصة(يوميات مجنون) التي تتمحور حول موظف مسحوق وبائس ومجنون ومصاب بـ(الشيزوفرينيا) يعلن في نهاية القصة بأنه أصبح ملكًا ،يتبع غوغول حياة البطل الذي وقع ضحية الهواجس والأفكار المظلمة التي أرهقته وعبثت بجسده وعقله،ليكون جنونه فكرة كامنة في رأسه افقدته صفته الإنسانية،وقد سرد الكاتب أحداث القصة بضمير المتكلم على شكل مذكرات يومية عبر من خلالها عن أفكاره حول الانسان والمجتمع والعلاقات الانسانية بحرية مطلقة ،وكانت القصة قد قدمت كعمل مسرحي في اوربا، وفي إعداده لهذه المسرحية ينقل د.سعدي الأحداث على لسان بطله بطريقة شعريةإذ يقول في لمشهد الأخير (ها هي السماء تتصاعد أمامي .النجوم تتلألأ الغابة تتحرك مندفعة مع الأشجار المعتمة…القمر…الضباب الرمادي يتصاعد نحوي، ووتر قيثارة يرن في الضباب هنا) إذ تعكس اللغة ما يحمله الجنون من حكمة،وبذلك نجد د. سعد قد حافظ على نسق أعماله السابقة مثل ثلاثية كلكامش،فهو يغوص في النفس الانسانية للكشف دوافعها وهواجسها وطموحاتها وقد  جعل المسرحية  في ثمانية عشر مشهدا شكل كل مشهد يوما تحت تاريخ معين وتأتي المفارقة في عنوانات بعض المشاهد مثل (43 كانون ثاني- سنة 3000) و(86 في الشهر بين الليل والنهار) و(التاريخ لا أذكره…الشهر أيضا لم يكن… الشيطان فقط يعرف هذا:) و(الثلاثون من شباط) و(كانون ثاني من السنة ذاتها والذي حدث بعد شباط:) و( 34 تار… يو… س…340 شباط:) إذ تكسر أفق التوقع الذي لزم المشاهد الأحد عشر الأولى فجاءت العنوانات لتتماهى مع وضوع الجنون الذي يتلبس البطل ولكنه يطرح اسئلة تعكس القلق من الواقع وتناقضاته .
وفي المسرحية الثانية التي أعدها سعدي من القصص التي تضمنها كتاب (المجنون) لجبران خليل جبران  الذي ضم خمساً وثلاثين حكاية رمزية في المجنون بلغة شعرية تجسد مرارة الخيبة قاصدا تحرير العقل من قيوده بوساطة الجنون، إذ أراد جبران أن يكون المجنون مختلفًا ورافضًا متمردًا وعارفًا مستبصرًا، ومنحه  قدسية مكنته أن يكون  حلقة وصل بين عالم الواقع الأرضي البشري الفاني وعالم الروح العلوي الخالد، فالمجنون الذي يرفض الواقع والتقاليد الظالمة ويرغب في التمرد وكسر القيود، ويطمح في بناء عالم آخر، أكثر إنسانية وجمالاً وعدالة ولو بالوهم.

   وهذه الفكرة المركزية للكتاب هي التي دفعت د. سعدي يونس أن يعد مسرحيته (الليل والمجنون) من خلال اختيار عدة قصص شكلت مشاهد للمسرحية وقد كان كل مشهد عبارة عن مسرحية مستقلة على أن فكرة الجنون كانت حاضرة في جميع المشاهد بمستويات مختلفة فبعضها يشكل فكرة رئيسة كما في المشهد 11 (الليل والمجنون) فالمجنون هو الطرف الأول في الحوار الذي قام عليه المشهد بمقابل الليل (الطرف الثاني) وهنا يقدم د.سعد يونس للحوار بقوله: (الليل…الفجر…الأحلام…ولكن إسمعي أيتها الآلهة الضائعة وأنت أيها العالم الكامل هذا الحوار ذا النبرة الرومانسية بيني وبين الليل…) فاللغة هنا ذات طبيعة شعرية يحاول فيها بحري التعبير عن رفض الواقع والقلق من الوجود من خلال الثنائيات الضدية (الليل/الفجر،الآلهة/العالم،الجنون/العقل) ليتماهى مع لغة جبران الشعرية في القصص، إذ تدخل في إعادة بناء اللغة بطريقة خاصة، عكست عمق معرفته بما تحمله من مضامين وما يقصده من دلالات، وقد تشكلت المسرحية من خمسة عشر مشهدا،تقوم على حوارات ذات دلالات ذهنيةتعكس القلق الوجودي ورفض الواقع بتناقضاته، وقد تخلل هذه المشاهد  ست مقاطع شعرية وضعها بحري تحت عنوان غناء  على غرار مافعله الاصفهاني في كتابه (الأغاني)الذي جعل مبناه على الغناء في مئة صوت اختارها المغنون للرشيد، فبعد المشهد (14) يمنح المتلقي استراحة بعنوان غناء يقول فيها: (يـا نفس إن قال الجهول/ الروح كالجـسم تـزول/ وما يزول لا يعود / قولي له إن الزهور تمضي/ ولكن البذور تبقى/  وذا كنه الخلود)؛ فالغناء هنا يقوم على الثنائيات الضدية بين (الجسم والروح) و(البقاءوالمضي) و(الفناءوالخلود) لتطرح سؤال الوجود الذي يؤرق عقل المبدع الذي لا يركن الى السكون بل يسعى للحركة والتغيير رغبة في التحرر من القيود وهو ما يتمتع به المجنون فلا قيود عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى