وداعا.. ناصرة السعدون

كتب: سلام الشماع

غيب الموت في العاصمة الأردنية عمان، أمس الجمعة، الأديبة الفاضلة والعراقية الأصيلة الراقية المعطاء للأدب والوطن الأستاذة ناصرة السعدون، التي عانت من ظروف الاغتراب عن الوطن الحبيب بعد الاحتلال البغيض عام ٢٠٠٣. والفقيدة ناصرة السعدون وقد جمعت بين العلم والأدب، إذ حصلت على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من جامعة بغداد في العام 1966، وعلى دبلوم عال في الأدب الفرنسي من جامعة السوربون في العام 1970.
هي روائية ومترجمة عراقية، ولدت في الرابع من حزيران سنة 1946 في قضاء الحي لواء الكوت (محافظة واسط).

تؤمن بالدور المركزي للعراق في نهضة الأمة العربية وتطورها، واتجاهها الفكري هو الإيمان بحرية الفكر وضرورته لحرية الإنسان، وكذلك قدرة المرأة على الإسهام الفاعل في العمل الاقتصادي والسياسي والفكري، وهي مدمنة على قراءة كل أنواع الفكر، سواء الأدبي أم السياسي أم الفلسفي أم علم النفس. لكن أكثر ما يستهويها قراءته هو الرواية، فهي عضو في اتحاد الكتاب والأدباء في العراق، وعضو مؤسس لجمعية الناشرين العراقيين، وعضو مؤسس لمنتدى المرأة الثقافي، وعضو اتحاد الكتاب العرب.

ومع هذه الاهتمامات الأدبية كلها، لكنها شاركت في العديد من الدراسات الاقتصادية ودراسات الجدوى في حقول نقل التكنولوجيا والصناعات الغذائية وتلوث البيئة. كما نشرت العديد من الدراسات والبحوث والتراجم في المجلات المتخصصة مثل مجلات (النفط والتنمية) و(الصناعة)، و(الصناعات الغذائية) والصحف والمجلات العامة.

شاركت السعدون، أيضاً، في العديد من المؤتمرات والندوات وفرق العمل الاقتصادية والسياسية والأدبية والثقافية في داخل العراق وخارجه في سويسرا وتونس والأردن والإمارات وبلجيكا وفرنسا والمغرب وباكستان والهند وكوريا والفلبين، وخلال الحصار الدولي، الذي فرض على العراق في تسعينيات القرن العشرين، ودعيت إلى تقديم العديد من المحاضرات والبحوث والدراسات الثقافية والسياسية والإعلامية في العراق وخارجه، مثل بلجيكا وفرنسا والأردن وباكستان والهند والفلبين. وقبل هجرتها، ومنذ سنة 1999 وحتى سنة 2003، وترجمت ناصرة السعدون، التي شغلت منصب رئيس تحرير جريدة (بغداد أوبزرفر) الحكومية، التي كانت تصدر، باللغة الإنكليزية، 21 كتاباً تنوعت بين الأدب والسياسة والإعلام والاقتصاد، كما نشرت 5 أعمال روائية.

وبعد هجرتها، ترجمت كتاب (أزهار الجليل) و(اليهود ديانتهم وتاريخهم) اللذين نشرتهما دار كنعان في دمشق، ثم ترجمت (أمريكا بين الحق والباطل) الصادر عن المؤسسة العربية للترجمة في بيروت، ورواية (العالم المعروف) الصادرة عن (مؤسسة كلمة) في أبوظبي، كما كتبت روايتها الخامسة (دوامة الرحيل) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان.

ولا تعتقد السعدون أن في الترجمة أية خيانة، بل هي عملية نقل للمعلومة من حيز لغة ما إلى حيز لغة أخرى. قد تكون ترجمة الشعر أصعب لكن لا يجوز وصف الترجمة بالخيانة، فهي عملية إبداعية، بحد ذاتها، ولولا الترجمة لظلت العلوم والفنون والآداب مقيدة بحيزها الجغرافي ولولاها لما قرأنا عيون الأدب والفكر العالمي.

ومن مؤلفاتها:

  • (لو دامت الأفياء). رواية . صدرت عن بيت سين للكتب في بغداد سنة 1986.
  • )ذاكرة المدارات). رواية . صدرت عن بيت سين للكتب في بغداد أيضاً سنة 1989.
  • (الأعزل ابن خلدون). شهادة روائية. أصدرتها لها دار الشؤون الثقافية في بغداد سنة 1992.
  • Le Bateau Des Femmes Arabes Pour La Paix بالفرنسية نشرته في باريس دار L’Harmattan سنة 1995.
  • سيناريو (أحلام مهشمة) صدر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد سنة 2001.
  • رواية (أحببتك طيفاً) أصدرته دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد أيضاً سنة 2003.

ومع أن السعدون لا تحب العمل الإداري، إلا أن سيرتها الوظيفية، تشير إلى أنها عملت في مجلس البحث العلمي من العام 1974 حتى العام 1979، ومدير أول الدائرة الاقتصادية في الاتحاد العربي للصناعات الغذائية من العام 1979 حتى العام 1984، وعضو هيئة تحرير في مجلة (الصناعات الغذائية) من العام 1980 إلى العام 1984، ومدير عام دار الكتب والوثائق من العام 1997 إلى العام 1998، ورئيس تحرير جريدة بغداد أوبزيرفر من العام 1998 إلى العام 2003.

 

وبعد هجرتها، اختيرت عضواً في مجلس الأمناء للجامعة السورية الدولية الخاصة للعلوم والتكنولوجيا 2005.

هجرت ناصرة السعدون الكتابة، بعد مغادرتها العراق، وانشغلت بالترجمة، إلاّ أن أحداث رواية بقيت هاجساً يطاردها حتى قرّرت أن تكتبها، وأنهت المسودة الأولى في ثمانية أشهر ومن ثم أعادت تنقيحها وطباعتها، فكانت رواية “دوامة الرحيل”، التي فازت، في العام 2015، بجائزة “كتارا” للرواية العربية المطبوعة.

سمعت ناصرة السعدون تقول عن رواية “دوامة الرحيل” إنها أوجعت قلبها وأدمعت عيونها لأشهر، إذ ليس ثمة ترفاً في العيش في الوطن ولا خارجه، فمن يخسر وطنه يكون قد خسر ذاته، وعليه أن ينحت الصخر لكي يواصل العيش، لكن الحياة تستمر وعلى الرغم من الألم، يظل الأمل يدفعنا لنواصل.

استهلت السعدون روايتها بمشهد مغادرة بغداد، ذلك المشهد القابع في ذاكرة كل مهاجر، وهو يصحو فجراً والمرارة في حلقه، بأنه لن يرى بغداده ثانية. رافقت فيها عينا المُهاجر المسمّرة على شواخص الشوارع، حتى طريق عمّان وحجارته النيزكية السوداء “منطقة الصفاوي”، التي أخذت “إباء السالم” بعضها تذكاراً، ويفتح هذا المُستهل لماضي العائلة باباً، إذ اعتُقِلَ الأب وهو يُدافع عن المصنع، الذي يعمل فيه، ثمّ توفيّ في سجن “أبو غريب”، أما ابنه “بارق” فقد اختطف وسُلّم جثمانه إلى عائلته مقابل مبلغ مالي كبير، دفعته ظناً منها أنّها تنقذ حياة الشاب.

بتفاصيل مثقلة بحزن عراقي جسّدت الكاتبة هذه الأحداث المُفجعة واحداً تلو الآخر، ليغدو القرّاء مُعايشين، كما بطلتاه “إباء” ووالدتها المشلولة، لذلك الواقع المرير، الذي اضطرّها إلى الرحيل بوالدتها المريضة للعلاج في الأردن، ومنها تنتقل بمساعدة الأمم المتحدة لتكون لاجئة في أمريكا.

ثيمة الرواية هي الاغتراب العراقي بكل وجعه، كما عرفته شريحة الطبقة الوسطى من مثقفين ومهندسين وأطباء وطلبة جامعيين، طبقة مُهدّدة بالاختفاء بعد أن هاجر أكثر شخوصها. فعل الهجرة المركزي في كتابة السعدون مرتبط بالمكان، وقد كتبت على غلاف الرواية الأخير: (غزو العراق واحتلاله زلزل حيوات الكثير من أهله، ويمكن كتابة الكثير من الروايات عمّا جرى بعد الاحتلال، من بينها حياة “إباء السالم” بطلة الرواية، هي بعض من وجع العراق وخساراته. وبعض خساراته، الاقتلاع القسري من الأرض والبيت والأهل، وإعادة الزرع في أراض جديدة.

ولم تحلّق السعدون في الوهم وتتحدث عن بطولات خارقة، بل حاولت أن تبقي روايتها في إطار الإنساني المقبول، مُقدّمةَ الذات بوصفها مرآة عاكسة، لتبلغ الرواية ذروتها في عرض مشاهد الفجيعة المزمنة، التي بدأت بإفرازات الحرب الأمريكية على العراق وضخامة ويلاتها والأرواح، التي أُزهقت فوق سواترها، وصولاً إلى الحالة الراهنة وفواجعها، ثم بدء صفحة الحصار المفتوح وحروب الاستنزاف، التي راح ضحيتها الشعب العراقي.

وتدور معظم أحداث رواية (دوامة الرحيل) في فضاء العراق خلال الغزو الأمريكي، في العاصمة بغداد وضواحيها.. ما بين الأعظمية والجادرية والوزيرية ومدينة الثورة. إلا أن أمكنة أخرى كان لها حضور بارز في الرواية كالصفاوي والزرقاء وعمّان ودنفر في الولايات المتحدة ونيوزيلندا وغيرها، فضلاً عن ذكر سريع لأماكن ومناطق جغرافية عدّة دونما وَصْفٍ تفصيليّ، مُطردٍ، نظراً للإيقاع السريع، الذي ينْهضُ عليْه بناءُ النص، مما أضفى شكلاً من التماسك على الرواية.

غادرت ناصرة السعدون العراق، بعد احتلاله وبعد تلقيها العديد من التهديدات والضغوط، فاتجهت إلى سوريا ثم إلى الأردن حيث تقيم، منذ العام 2006، وكانت تتابع، عبر وسائل الإعلام ما يجري في العراق وتحترق ألماً لما يحدث، ليس بيدها ما تفعله وقد تجاوزت عامها السبعين سوى الحسرة على عراق كان يوماً ما عراقاً عظيماً بأهله ولأهله، واليوم انهار وانهارت القيم والمفاهيم وصار الأغراب يتحكمون بمصيره، للأسف الشديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى