فكر

جرح الثقافات

بقلم: حياة الرايس

كاتبة تونسية تقيم في فرنسا

كانت قاعة المحاضرات”الميرادور” تقع في الطابق الخامس كإضافة حديثة بلورية السقف والجدران. لأربعة طوابق عتيقة من الطراز القوطي لقصر من قصور الارستقراطية الكاطالونية السالفة العهد. تحول الى متحف للفن الحديث في قلب المدينة القديمة قصد إحياء حي “مونتالغرو” القوطي، ثقافيا. بحيث كنا في قاعتنا البلورية “الميرادور”نشرف على كامل برشلونة العتيقة. بشوارعها الضيقة التي تفضي إلى ساحات داخلية مازالت تحتفظ بآثارها الرومانية، القوطية.وأهمها القصور القديمة والمتاحف ومنها القصر الحكومي الذي شيد في القرن الخامس عشر.ويعتبر حاليا مركزا للحكومة المحليّة.تقابلنا اكبر كاتدرائية ببرشلونة. كغابة جبلية من الحجارة، العالية، الداكنة، التي تحمل لون العتمة والأبدية والرهبة والوحشة، عالية، رابضة، تصل قلب المدينة بسمائها حيث اللامرئي يتربص بهذه الحضارة المادية العلمانية ويراقبها بعين لايبدو أنها راضية كل الرضا بفصل الدين عن الدولة. ولا فصل الدين عن الحياة.
في قاعة “الميرادور” مدير الملتقى”ادواردو دلغادو” يعلن عن افتتاح الدورة التدريبية، لمديري المراكز الثقافية، المتوسطية. قصد تقريب العلاقات الثقافية بين الضفة الشمالية والضفة الجنوبية والخروج ببرنامج عمل ثقافي مشترك.
كنا مجموعة مدراء مراكز ثقافية من اسبانيا وإيطاليا وبلغارياوفرنسا ورومانيا وسلوفاكيا ولتوانيا وألبانيا وروسيا وبولونيا. وكنا ثلاثة عرب فقط: اثنان من تونس وواحد من مصر وبقية البلدان العربية المتوسطية غائبة رغم أنهم يمثلون كامل الضفة الجنوبية.
مدير الملتقى يستوى في جلسته على رأس طاولة المحاضرات ويعلن عن افتتاح اشغال الملتقى ويعلمنا أن اللغتين المعتمدتين هما الإنجليزية والفرنسية.
مرّة أخرى أجد نفسي أمام هذا الغول الذي يسمّى(المركزية الأوروبية) أو الهيمنة الغربية رغم أن الغرب ليس واحدا.
هذا الغول الذي يظهر برأسين ضخمين هذه المرة. ليلتهم الثقافات واللغات الأخرى الأقل شأنا منه في نظره.
خلع كل واحد منّا لغته ووضعها على جنب. هكذا تيتمنا فجأة. إذ سحبت منا لغاتنا الأم. وأصبحنا كالأيتام على موائد اللئام. وانقسمنا انجلوفونيين وفرانكفونيين. وانا أعجب لهذا الحوار الذي بدأ بإلغاء هوية الآخر. ولهذه الثقافات التي لا تعترف الا بثقافة واحدة. وعمليا فقد كانت الإنجليزية هي السائدة لان الفرنسية تتقهقر شيئا فشيئا، كما تعلمون. ومن مفارقات هذا الحوار أوهذه الحضارة أن الإنجليزية لغة الحوار المعتمدة حاضرة ولا يوجد انجليزي واحد بيننا.
لم يكن صعبا أن أتكلم الفرنسية أو الإنجليزية ولكني مازلت أجد صعوبة في استبدال لساني بلسان آخر.واستبدال جلدي بجلد آخر ولا افهم لماذا يجب عليّ كلما سافرت أن أودع لغتي مع جملة ما أودعه من أغراض لا احتاجها في خزانتي أو في بيتي.
ولو كانت اللغة مجرد أداة تواصل لهان الأمر.ولكنها وعاء حضارتك وحافظة ثقافتك ورسم جغرافيتك وذاكرة تاريخك وروح هويتك وعنوان ذاتيتك المعطوبة،المجروحة، جرح الثقافات التي تريد أن تقف بندية أمام الآخر فلا تستطيع.
تذكرت زمنا كانت العربية فيه سيّدة الدار فأصبحت تتسوّل على العتبات.الى هذه الديار كان يأتي باباوات أوروبا ليجلسوا في حواضر الأندلس، مجلس التلميذ ليتعلموا اللغة العربية، التي كانت لغة العالم في الحضارة والثقافة.أمّا الان فقد أصبحنا خارج التاريخ. عندما توقفنا عن صنع العالم. فالذي لا يشارك في صنع العالم يصبح غريبا عنه لا يستطيع أن يقوله أويسميه.
إنها ليست محنة لغة إنها محنة حضارة توقفت عن المسير. فانهزام اللغة من هزيمة الأمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى