من أدب العزل في زمن كورونا

محمّد موسى العويسات | القدس – فلسطين

لجنة السّيّد كورونا

تسمّر أبو الأغرّ أمام التّلفاز، في غرفة استقبال الضّيوف الفارهة، الوسيعة الممتدّة، التي تطلّ على الشّارع العامّ، بشبابيكها ذات الزّجاج المخصوص لعزل الصّوت من داخلها أو من خارجها… التّلفاز الذي يبدو شاشة سينما، يظهر لك مذيع نشرة الأخبار وكأنّه أحد جلسائك، يعلوه في عُرض الجدار صورة ضخمة لزّعيم مجلوبة من قلب التّاريخ، يلوّح بيده مبتسما، يحاول أبو الأغرّ أن يملأ المقعد بانتفاخة مصطنعة،  يستمع لخطاب المسؤول بكلّ جوارحه، وأمّ الأغرّ تقف عند الباب متّكئة على حافّة الإطار في انحناء جانبيّ لطيف نحو اليمين، تعصب فكّها السّفليّ بكفّ يدها الشّمال، لتبرز من بين سبابتها والإبهام شفتها السّفلى وقد اندفعت إلى الأمام، فبدت أضخم من حجمها الطّبيعيّ، أو كانت علامة على ذهول وتوجّس…   

في صخب النّشيد الوطنيّ يشقّ الصّوت طريقه إلى كلّ الوطن: “أيّها الشّعب الصّامد، اسمعوا وعوا… إنّكم اليوم في مواجهة مباشرة مع عدوّ خفيّ يهدّد وجودكم، الفيروس الخبيث المتآمر عليكم مع المتآمرين، لذا كان لزاما أن تتوحّد جهودكم وجهود الحكومة، وأن تكونوا على وعي بما تقتضيه هذه المحنة، من طاعة للتّوجيهات الصّحيّة، التي أجمع عليها العالم، وهي البقاء في بيوتكم، وعدم الخروج إلا للحاجة الضّروريّة، وعدم الاختلاط أو التّجمّع، أمّا بخصوص حاجاتكم من تموين وغيرها فسيكون الخروج مسموحا به في ساعات معيّنة، وقد تقرّر تشكيل لجان شعبيّة في المدن والقرى والمخيّمات لجمع التّبرّعات وأموال الزّكاة وغيرها لتوزّع على الفقراء وأصحاب الحاجة وأولئك العمّال الذين تركوا أعمالهم في مصانع المحتلّ وورشه، عاشت فلسطين حرّة عربيّة، عاش شعبنا الصّامد معافى سالما من كلّ وباء”.

ـــ يا له من بيان بديع بليغ! والله قد هلّ الخير يا أمّ الأغرّ.

ـــ أيّ خير هلّ علينا وعلى هذا الشّعب المسكين، يا رجل؟ ألم تسمع الخطاب جيدا؟ وباء، وحظر، وسجن بيتيّ، وتعطيل للمصالح.

ــ بلى، قد سمعت ووعيت، ولكنّ ربّ ضارّة نافعة، وكما قال المثل: مصائب قوم عند قوم فوائد.

ــ لا أفهم ما تقصد. قل لي بربّك: أين المصلحة في هذا؟

ــ كيف؟ ألم تفهمي يا امرأة؟ وقد نصّ على تشكيل لجان شعبيّة بوضوح، ستكون تلك اللّجان فرصة ربّما لا تتكرّر، ستكون أجمل من تلك الفرصة التي تتذكّرينها.

ـــ أتذكّرها! نعم، أتذكّرها، ولكن عليك أن تعرف أنّه (مش كلّ مرّة تسلم الجرّة). المرّات السّابقة، نجوت منها وخرجت سالما بريئا، كانت الوساطة قويّة، وكانت حجّتك مقبولة، ومن بعدها تبتَ، واعتمرتَ وحججتَ، وداومت على صلوات الجماعة، ثمّ تقول فرصة!! ما دهاك يا زوجي العزيز؟ أكل أموال النّاس ذنب عظيم، إنّها خيانة عظمى…

ــ هههه، وهكذا أصبحت زوجتي فقيهة ومفتية، ولكنّك لم تفطني لقضيّة العاملين عليها.

حدّقت في وجهه بتأمّل، تقول في نفسها: العاملين عليها! العاملين عليها!… إذن لا شيء لوجه الله، ولا لوجه هذا الشّعب أو الوطن… من ولّاكم على أموال النّاس المغلوبين على أمرهم؟!… كم من أموال من الصّدقات تنهب بهذه الذّريعة!…

التفت إليها قائلا: أين وصل بك خيالك؟

ـــ لا، لم أبعد، ما زلت أتفكّر فيما قلت، تذكّرت أشياء كثيرة…

ــــ ماذا تذكّرت يا شيختنا الفاضلة؟!

ــ دعنا من الهزل، ولنكن جادّين، فالأمر خطير… إنّها أموال فقراء وحقوق محتاجين…

رنّ هاتفه، فأشار إليها أنْ اصمتي، المكالمة طويلة، الحوار كان في مَن هم أعضاء اللّجنة؟ وأين ستكون مخازن التّبرّعات العينيّة؟ كيف وزّعت المهام؟ من يكون أمين الصّندوق؟ هل أحصيتم المتبرّعين؟… غدا اللّقاء الأوّل في بيتهم…

ألقى بهاتفه جانبا، وأخذ نفسا عميقا، أتبعه بابتسامة عريضة، تهلّل وجهه وهو يطلب منها فنجانا من القهوة…

ــ فنجان قهوة، ولْنكمل الحديث، لأرى ماذا تذكّرت، لعلّنا نَفيد من ذكرياتك وخبرتك…       

ـــ  نعم، حاضر… ولكن اجعل مخافة الله بين عينيك…

في أثناء انشغالها بتحضير القهوة، أخرج من بين أوراقه دفترا صغيرا مليئا بأرقام هواتف لمعارفه… كان قد أخفاه منذ أن اعتقل بتهمة الاختلاس واستغلال عضويته في لجنة شعبيّة تتبع وزارة الشّؤون الاجتماعيّة… وفيه ورقة مطويّة بأسماء وهميّة لأرامل وأسر شهداء وعاطلين عن العمل وغيرهم، تفحّصها: سقا الله تلك الأيام، كانت مغامرة جميلة… لولا ذاك الرّجل الكبير لأنزلوا بنا عقوبة كبيرة… كان من الذّكاء أن نجعله شريكا لنا… صحيح أنّ نصيب الأسد كان لهلكننّا خرجنا بمصّة إصبع… كلّهم ينهبون… لا، لا، لم يكن ما أخذناه نهبا، إنّما أخذناه من باب العاملين عليها، ثمّ هي ليست أموال زكاة، أموال الزّكاة كانت من اختصاص أبو نهّاش، كان شيخا مقنعا، الملعون كان يتستّر بالدّين فيثق به النّاس فتُصبّ أموال الزّكاة بين يديه صبّا، كنت أشكّ في أمانته، وإلا فمن أين له هذه الأموال الطّائلة، والعقارات، والاستثمارات، وهو موظّف بسيط، راتبه مثل راتب ذاك الموظّف الذي يكون على رأس قائمة المحتاجين، وأسرته بحجم أسرته؟ من أين لك هذا؟ لا أحد يسأله مثل هذا السّؤال…

 فجأة انقطع حبل الذّكريات بحضور زوجته.

ــ القهوة يا زوجي العزيز،   

ــ سلمت يداك، إنّه وقتها.

رشفة ممطوطة، يمازجها صوت هواء مأخوذ بعنف من بين شفتيه، يشي بأنّه لم يأخذ من القهوة إلا قشوتها…

ـ سلمت يمناك، والآن هاتي ما عندك، حدثيني عن صحوة الضّمير التي تجتاحك هذه المرّة. أظنّها صحوة الخوف من كورونا، وإلا ما عهدتك إلا تقولين: عفا عفا أبا الأغرّ، (تغيب وتجيب)، ألا تذكرين المائة ألف دينار؟ ألم تشهدي معي بأنّ جيش المحتلّ ومخابراته قد صادروها في أثناء مداهمة البيت لاعتقالي؟ لم أكن لأفطن لتلك الفكرة الجهنّميّة التي خطرت لك، وأقنعت الأخوة الشّركاء المناضلين بأنّ قوّات الاحتلال صادرتها، لمّا جاؤوكِ لتسلّمها على أنّها أمانة وضعت عندي لحين الطّلب. فخرجوا ببيان حركيّ حمّل الاحتلال تلك الجريمة النّكراء… انظري في هذا البيت الفاره إنّ فيه بعض تعبك وذكائك…

ــ هذا صحيح يا أبا الأغرّ، لا أنكره، ولكنّها لم تكن أموالا لفقراء ومساكين، بل كانت أموالا لا يعلم مصادرها إلا الله، وهي ذاهبة إلى النّهب، قد حكت وجوه رفاقك وسيرتهم هذا، فقلت قد يطول حبسك ونتدبّر بها في معاشنا. ولمّا خرجت من سجنك كان الأولى بك أن تردّها لأهلها.

ــ اسمعي يا عزيزتي، يبدو أنّك لم تفهمي المسألة بعد، إنّ هذه المسألة مختلفة تماما، لن أقترب من أموال الفقراء والمحتاجين، وكلّ ما في الأمر أنّني وجدت عملا أخدم به النّاس، ولا ضير إن نالنا منه خير، من مثل مقابل لجهدي أو لفتح المخازن للبضائع التي ستصل غدا، وباختصار (طباخ السّمّ يتذوّقه). ثمّ انظري لهذا الأمر من جهة أخرى ألا ترين فيه شرفا بهذه الثّقة التي أولانيها المسؤول في الحزب الحاكم، أليس فيها من الوجاهة والمقام الاجتماعيّ المرموق الذي يرفع من قدرك بين النّساء، سيكون بيتنا قبلة للنّاس.

ــ وماذا ينفعنا أو يرفع من قدرنا اصطفاف الفقراء والعاطلين عن العمل أمام بيتنا؟

ـــ لا يا أمّ الأغرّ، لن تري أحدا من الفقراء. بل ستكون كلّ الصّفوف للأغنياء وأصحاب الأموال. فهؤلاء هم الفقراء الحقيقيون،

ــ وهل ستعطيهم من تلك الأموال.

ــ كيف لا أعطيهم، وهم من سيحملونني على أكتافهم؟!

ــ لا أفهم ما ترمي إليه، ولا كيف يكون ذلك؟

الحوار يتأرجح بينهما ليتهاوى باتصال هاتفيّ من أحد أصدقائه… يستمرّ لأكثر من ساعة، كانت فيه أمّ الأغر قد أغلقت غرفتها، وغرقت في نوم عميق.

في اليوم التّالي كانت شاحنة كبيرة محمّلة بالحليب تقف أمام المخازن الواقعة في الطّابق الأرضيّ من البيت، كان أبو الأغرّ وزملاؤه الأربعة حاضرين، فتحوا الأبواب وأخذوا يشرفون على عملية تفريغ البضاعة من الشّاحنة، التي قام بها بعض المتطوّعين… أوّل شحنة كانت من الحليب، تكفي الحيّ شهرين على أقلّ تقدير، أغلقت أبواب المخازن، وراحت اللّجنة تحصي المستحقّين، وكيف يتمّ إيصالها لهم.

ــ من تبرّع بهذه الشحنة يا أبا الأغرّ؟ سألت الزّوجة

ــ لا أحد، قد اشتريناه من تاجر كبير وكيل لأحد المصانع في إحدى الدّول المجاورة.

ــ ومن أين لكم الأموال؟

ــ أهل الخير كثيرون، يا أمّ الأغرّ.

ــ هناك من الأثرياء من سارع للتبرّع، بل منهم من تعجّل في إخراج زكاة أمواله.

ـ لا تنسى أنّه حليب، قد يفسد إن طال تخزينه. لا تجعله كلحم الأضاحيّ الذي خزّنتموه أياما دون تبريد، فكان مصير أطنان منه مكبّ النّفايات.

ـ ما بك يا مرأة، ألا كففت عن مثل هذا الهراء…  قائمة الأسماء جاهزة، وبعد الظّهر، إن شاء الله، نباشر التّوزيع.

بعد الظّهر أخذت سيّارات اللّجنة تجوب الحيّ تتقصّد بيوت المحتاجين، أمر ما لم يكن بالحسبان قد وقع. أثار ذهول اللّجنة واستهاجنها، أعداد كبيرة من المسجّلين أبَوا أن يتسلّموا حصصهم، ما الأمر؟ جاء الجواب على لسان أحدهم وقد جاوز سنّ الكهولة.

ــ حليبكم هذا فاسد. فاتّجروا به في غير هذا الحيّ.

ــ فاسد؟! ماذا تقول يا رجل؟ كيف تحكم عليه بالفساد دون أن تفتح العبوات أو تفحصها أو تتذوّقها؟ أأنت بعقلك؟ ألا ترى هذا كلاما خطيرا تؤاخذ عليه؟!

ــ بلى أراه كما قلت، وأنا ما زلت بكامل عقلي وما زالت الذّاكرة حيّة، وليست سمكيّة كما تتوهّمون، هذه يا أستاذ هي الشّحنة نفسها التي جيء بها في شهر كانون الثّاني عام 1991، وهي نفسها التي جئتم بها عام 2001  في شهر آذار، وها أنتم أولاء تأتون بها اليوم في آذار الكورونا. ثلاثون عاما مرّت ولم يتغيّر العنوان. عسى أن  تكون هذه المرّة الأخيرة.

يتأمّل أبو الأغرّ قول الرّجل، يبدو أنّنا أخطأنا في اختيار الأسماء، أو أخطأنا في التّوقيت. ماذا قصد أبو قملة بهذا؟ إنّها فلسفة الفقراء إذا ما شبعوا… لا بل الأمر أبعد من كلّ هذا…  

يهتز هاتفه بصمت، يلتقطه بلهفة، إنّه من صديقه مدير المشفى في المدينة…

. ما الأمر يا أبا الخير؟

ـ هناك ثلاثون إصابة، هناك حالتا وفاة، كلّ الأعراض إسهال شديد…

ـ فضلا لا أمرا، سجّلها إصابات بفيروس كوفيد 19، أو كوفيد 20…

اجتمعت لجنة كورونا على عجل في بيت أبي الأغرّ، طلبوا مشروبا أعدّت لهم أمّ الأغر أكواب النسكافيه بالحليب، وأغلقت الباب عليهم بإحكام، ليأخذ المشروب دوره في تغيير معالم الصّالون الفاره…

 

       

   

      

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى