سيميائية السيرة الذاتية في رواية ( امرأة على قيد سراب) للروائي مصطفى بوغازي

أ.د مصطفى لطيف عارف| ناقد وقاص عراقي

   يبدو أن هناك علاقة عميقة لا مفر منها بين مخطط حياة الكاتب الفرد كحكاية من ناحية,  وبين شكل الرواية نوعا أدبيا من ناحية ثانية لكننا يجب أن نلقي مزيدا من الضوء على هذه العلاقة الإشكالية المتزايدة في القص العربي المعاصر; ذلك أنها أضحت سمة مهيمنة على هذا القص ,لقد أصبح من دأب الكتاب أن يستخدموا موادا من حياتهم الشخصية الفعلية, وأن يعلنوا عن ذلك في متن النص الروائي نفسه, ولم يكن من قبيل المصادفة أن أشهر النصوص القصصية في السنوات الأخيرة كانت نصوصا ,سيرا ذاتية, أو شبه سير ذاتية, ومما يجدر ملاحظته هنا أيضا أن هيمنة الصيغة للسير الذاتية جاءت مواكبة لاتجاهات طليعية وتجريبية في الكتابة, لا في الأدب العربي وحده, بل في كل آداب العالم, لقد جاءت هذه الصيغة وكأنها إعادة اكتشاف للعلاقة الخصبة المربكة بين الذات والواقع, بين عالم الداخل , وعالم  الخارج. 

ورواية السيرة الذاتية فن أدبي يتكفّل فيه الراوي برواية أحداث حياته، ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصيته الحيوية، كأن يكون المجال الفني، أو الاجتماعي، أو السياسي ,أو العسكري ,كلّما كان ذلك ضرورياً وممكناً، ويسعى في ذلك لانتخاب حلقات معيّنة مركّزة من سيرة هذه الحياة، وحشدها بأسلوبية خاصّة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير ومسلٍّ، ويحاول الراوي الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّه, ودعمه ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة، على ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الراوي الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد يتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي لا تتحوّل إلى سيرة غيريّة، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين الكاتب, والمتلقي قائماً ,وواضحاً، كما ترتكز رواية السيرة الذاتية على آلية السرد ألاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة, وساخنة للعمل في حقل السيرة الذاتية, وفي رواية امرأة على قيد سراب, للروائي الكبير مصطفى بوغازي, استخدم تقنية حداثوية جديدة هي طريقة الميتافكشن , إذ أن الروائي رجل ابتدع فكرة قراءة الرواية للبطلة حنان, ويكون النص في سياقه الصحيح, وتبدو أن هناك بطلة تروي قصتها كسيرة غيرية, فنراها تقول: أتذكر جيدا يوم حكت لي أمي قصة اليتيمين , ولم تستطع كبح دموعها, واجتاحتها حمى أقعدتها في الفراش ليومين كاملين , عرفت لحظتها لماذا سمتني حنان وبدرت إلى ذهني تساؤلات كثيرة , هل يمكن أن ينبع الحنان من هذه البيئة القاسية ؟

 والروايةُ كما وصفها عدد من الروائيين، هي الفنُّ الذي يُوفِّقُ ما بين شغف الإنسان بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال، ولعل هذا الوصف ينطبق على الفن بصفة عامة وعلى الرواية ,ورواية السيرة الذاتية بصفة خاصة، حتى لو ادعى الكُتَّابُ أنْفُسُهُمْ غيرَ ذلك إلاَّ أنَّ روايةَ السيرة الذاتية تبقى إلى جانب ذلك عملاً أدبياً، أي لا بد للخيال من أن يكون له دور فيه، فالنص الأدبي لا يكتسب صفته الأدبية إلا بالانتقال من الواقع إلى التخْييل وبقدر نجاحه في ذلك يكون نجاح العمل بصفة عامة, وإذا أقررنا بنجاح عملٍ أدبيٍّ ما، فإن البحث عن أسباب النجاح هو بحث في قدرة الكاتب على رسم الواقع بصورة جمالية تلامس صورتها الأصلية مع مسحة فنية للخيال, ونجد ذلك واضحا عند الروائي مصطفى بوغازي, وهو يتحدث لنا عن المكان، بلسان الراوية/ البطلة حنان  فنراها تقول: طرقت حنان باب مكتبه هذه المرة ولم تكن لوحدها, بل كانت ترافقها فتاة سمراء رشيقة القوام, انسدل على كتفيها شعر اسود, وتمردت عن تسريحتها خصلات تغطي الناصية, تظلل عينين واسعتين , فيهما من الجمال ودواعي الألفة , كما يتبدى فيهما انكسار يحاول لان ينال من بريقهما لصالح فتور باهت.  هنا عمل فني متخيل ينهض على أحداث, ووقائع من حياة صاحبه مهما كان مغمورا, ولذلك يحدث أن تكتبها شابة غير معروفة كما في حالتنا هذه, أو يكتبها كاتب شهير كما في حالات كثيرة لكن هذا الاختلاف بين السيرة الذاتية, ورواية السيرة الذاتية لا ينفي أن بينهما تشابها بديهيا, مردّه أنهما كلاهما يستندان إلى تذكّر خاص لوقائع وشخوص من حياة الكاتب, وتلك هي المشكلة: أنهما معا يقعان في المنطقة التي تفصل بين الخيال والحقيقة, إن صلة الإبداع الأدبي بِمُحِيطِهِ الاجتماعي والتاريخي هي من القضايا الفكرية المستعصية على التدقيق، وقد نتجت عنها استعمالات نظرية ومنهجية ذات مفاهيم تنتمي إلى عدة حقول معرفية: اجتماعية ونفسية وفلسفية، ولذلك فإن ما تقتضيه تلك الصلة حين يتعلق الأمر بالخطاب الحكائي هو الانتباه إلى حالة من التخييل المركب: ظاهر ومضمر، متحقق ومحتمل، محايد ومباشر، لولاها لظل أي تصوّر للتخييل الحكائي بعيداً عن امتلاك قيم ثقافية نوعية ودالَّة ,ولعل من أهم القضايا  النقدية التي تناولها الروائي الكبير مصطفى بوغازي قضية التمايز بين المجتمع ألذكوري ,الأنثوي: لم يعد اسم أمي راوية يصدح في هذا المكان, كما كانت تسمعه في طفولتها , بل أصبحت تسمع مفردات أخرى للنداء يا  آو يا هاه  اسمعي , في هذا المجتمع الذكوري بامتياز, ما أن تتبدى معالم الخصوبة في الفتاة, وتبرز مفاتن الأنوثة على جسدها الغض, حتى تبدأ مظاهر الحصار, فتحرم من عبارات التدليل ,وزيارات الأقارب أو الاقتراب من الباب لترى العالم الخارجي, وحدها باحة المنزل تفتح لها مساحة نحو الأفق وهي المكان الذي تتنفس فيه من الأعباء , تحاور نفسها في صمت.

  تمتلك الكتابة السيرية سحرا خاصا يجعلها تنفرد بين أنواع السرود الأخرى بامتلاكها خاصيتي الذاتي ,والموضوعي بكفين متوازتين, الذاتي حين تتطابق هوية الكاتب مع السارد  والموضوعي حين تفترق أنا الكاتب, وتحتجب خلفه الشخصية وتستتر بظلها لتبرز هوية السارد واضحة الشخصية, والهوية الأولى الذاتية هي التي تميز السيرة الذاتية والسير بنحو عام , والمذكرات, عن الرواية طبقا لتقسيم تودوروف وتصنيفه, ونلحظ ثمة اقترابا في نص ما بعد الحداثة من نمط الكتابة السيرية, تجانسا مع الألفة الاجناسية المتحققة فيه , التي تندغم فيها الكثير من الخطوط النوعية إلى الحد الذي صارت فيه قضية نقاء النوع أسطورة كلاسيكية بالية أو قناعا متهرئا لا يصلح نقابا للنصوص الحداثية المشعة ببريق الحداثة المتنوع, والمضاد لكل مألوف ومسكون, وفي المقطع الآتي من الرواية ينتقد الروائي المجتمع وأمراضه النفسية, والجسدية  التي تكون ضحيته المرأة المسكينة على لسان الساردة تقول : ما كان لي أن اخبره بالأمر, واعتبرت ما حدث يمكن أن يكون زلة عزباء , قد يستيقظ ضمير صاحب قضيتها ويصلح الوضع, ذلك أهون من دق مسمار أخير في نعشي, ادعى أن الجنين ليس من صلبه, وعلي أن ابحث عن نسبه بين زملائي في المدرسة, باتت عيناي تمطر وسادتي لاستيقظ في الصباح على شلل نصفي في الوجه, بجفن تدلى على عيني يكاد أن يحجب الرؤيا عنها , وبشفتين مائلتين تدلت السفلى في اتجاه اليسار تكشف عن زواية من أسناني , وقفت أمام المرآة, ومصطفى بوغازي, هو واحد من الذين فاضت كتاباتهم بتلك الألفة , ونزفت شرايين إبداعه بدماء ذات ألوان متباينة تمتزج, كما تمتزج خطوط اللوحة ألوانها, وهو حين يكتب سيرته كثيرا ما يشير إلى أن أوراقا كثيرة قد نفذت منها إلى أشعاره, وكتبه الأخرى, ونصوص الحياة لا تماثل نصوص الكتابة, وتأبى أن تنخرط ضمن تراتبية المقولات الاجناسية , ولابد لها من الدخول في عمليتي التقطيع ,والمونتاج الفنيتين ليعيد الفن أنتاج الحياة ,فينفلت النص عن عالم الكاتب , ومهما كان نص التأليف غرائبيا فنجد ثمة مسافة , تقترب أو تبتعد من الحياة, تفصل بين نص المؤلف ,ونص الحياة , ليضع المؤلف حدا فاصلا بين ما يروي, وما حدث , بين من يروي عنهم وبين ذواتهم , ويتخفى الراوي وراء صنوف الحكايات, والأخبار المتنوعة , لم يعد لامي راوية أن تتجاوز عتبة الباب الخارجي للبيت, فقد أصبحت شابة يافعة مكتنزة الجسد , وعلى قدر لافت من الجمال , ترمقها النظرات في رواحها وغدوها , بينما يتوجس أبوها من ابن عمها, وهو يراقب حركاته , هذا الذي لا يتوانى في الوصول إليها فقد وبلغ شغف حبه لهاعتبة الجنون.

ويشكل التماس بين الرواية والسيرة رافداً من روافد الرواية، باجتزاء جزء من السيرة يوظف في صلب الرواية على هيأة لقطات ذهنية، بعيدة عن التصوير الفوتوغرافي، مثل اللقطة التاريخية، فيما يتعلق بالزمن، أو الجغرافية، فيما يتعلق بالمكان، أو الرمز الأسطوري العارض ضمن السياق الروائي؛ أما أن توظف السيرة بكاملها لتكون رواية فهذا هو المستحيل، لأن السيرة ليست موضوعاً صغيراً يمكن أن ترفد به الرواية، لكنها موضوع له حدوده ومقوماته، لا يمكن أن يكون رواية، كما أن الرواية لا يمكن أن تكون سيرة، مهما كان الأمر .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكرا جزيلا إلى جناب الدكتور ناصر ابو عون الموقر على نشر مقالتي النقدية في جريدة عالم الثقافة بسلطنة عمان وإلى كادر الجريدة الموقرين من أجل الأمانة العلمية يا حبذا لو تنشر الهوامش مع المقالة كما كان العمل بذلك في السابق مع اعتزازي وتقديري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى