حكايا من القرايا.. ليلة الخيّر من العصر بتبان
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
دار الحج جبر ديوان لأهل البلد وللرايح والجاي… نار كانونه ما بتنطفي، ودلته المبهّرة بالهيل، بتهبّل تهبيل، وفناجين السادة للسادة والضيوف، بترسم خرايط في الكرم والمحبة… الحج، الله معطيه، وكل موسم إلو فيه نصيب… وما شاء الله… بطعم والله بطعمه، والخيّر مرزوق… بوقت الغداء بتنزل الطبخة بنص الديوان، وبتتعدل المساند والوسائد والطرّاحات، واللي انوجد هناك بوكل مما قسم الله، وبعد الغدا كانت تنزل دباسي البحتة والحلبة والقزحة… والناس تتحلّى، والقهوة تختم الوجبات كلها…
أبو نازك ولقبه “الكركدن” يعمل جلاباً يشتري ويبيع الحلال، وهو طالع من بلده يترزق بِعرّج ع الديوان، يأكل، ويتحلى، ويتقهوى، ويستريح ثم يتوكل على الله، وهو راجع إلى بلده، كذلك الحال، بِميّل ع الديوان، يأكل هو وحلاله، ويستريح ويمشي. وفي كل مرة سواء أكان سارحاً أم مروّحاً، فإنه يخرّف حكاياته عمّا شاف وسمع، ثم يدبج قصيدة مديح في الحج جبر وكرمه… ويتوسل إليه ويرجوه أن يزوره والغانمون في بيته، كي يرد بعض المكارم، فالحج جبر لا يلاحق فهو راعي الأوّله.
وراحت الأيام، وأجت الأيام، والديوان عامر بأهله… وناره… وقهوته… وطبيخه، والكركدّن أبو نازك رايح جاي عليه… وفي ذات صباح، أراد راعي الديوان أن يغيّر برنامجه، ويفظّي عن باله، فأحضر فرسه، وعدّد عليها بسرج مشنشل بشراشيب ملوّنة، ووضع فوقه خرجاً واسعاً ملأ جانبيْه بهدية كبيرة… سكر وأرز، وسكاكر، وفواكه… و.. إلخ… وانطلق إلى بلد الكركدن يزوره، ويلبي دعوته، ويلبي رجاءه…
ساعتان من السفر، وصل الرجل البلدة، في الحارة كان رجال، وقفوا يسلّمون على الفارس ذي الهيبة، ويدعونه إلى بيوتهم، عرفه أحدهم، كرّب العزيمة، ثم قال: والله لولا أنك حامل هدية، ما أفلتّ رسن فرسك إلا في بيتي… سأل الضيف عن دار(أبو نازك)، لاحظ كشرة الرجال الغانمين على الوجوه، دلّوه عليها، وقف بالعتبة ونادى… وطقطق على الباب الحديدي، فخرجت امرأة مكشّرة، كأن الحج جبر قاتل والدها، سأل عن الكركدن، وما كادت تجيب، سمع نحنحته… تفاجأ الحج بفتور اللقاء، أنزل الخرج عن الفرس، وربطها الكركدن، وأجلسه تحت شجرة توت في قاع الدار… يا عيب الشوم، جلس الرجلان على كرسيين من القش، أحضر الكركدن إبريق فخار، وأعطاه للحج (يُزَغْللُ) منه، وشرح له سبب برودة الماء فيه… نادت الزوجة سبع البرمبة، فأتى بفنجانيْ قهوة شبه باردة، وكأنها بايتة، وسخّنت تسخيناً، اندلق بعض القهوة على صينية، فنجانيْن بلا صحون… وبدأ الكركدن يتحدث عن بلدته، وعائلته، وأهله، ومآثره، والحج يستمع… راح وقت الفطور، وطالت القعدة، والحج يفكر في نفسه، أن الكركدن سيعوض الفطور في الغداء… أذّن الظهر، الحج على وضوء صلى الظهر… وكلما سمع الحج صوتاً أو قرقعةً، تهيأ للطعام… ولكنه يسمع جعجعة ولا يرى طحناً… وبين وقت وآخر يعزم الكردن ضيفه على شربة ماء من إبريق الفخار، ويتفاخر بأهله… سمع الحج أذان العصر، صلى الحج العصر بوضوء الضحى… سمع الحج صوت فرسه تصهل جوعاً، كما سمع قرقعة مصارينه بسبب الجوع… خجل الحج من الموقف، والكركدن يخرف… استأذن الحج بالرواح، لم يطلب منه المعزب البقاء، وخرج الاثنان، حلّ فرسه الجائعة، وطلب الخُرجَ من الرجل، ومشيا يكسدران في الحارة، فقال الكركدن للحج: واللي بشوفنا وأنا مطلع ظيفي وقت العشا شو بقول؟ عندها ثارت ثائرة الكريم: ولْ عليك ولْ… انت ما بتستحي، انت مش زلمي، وحرام تقعد بين الزلام… والله لو فقست لي بيضتين إلا أعذرك… أنت لا تخجل، دايما (تَتلَقْمنْ) هون وهون، وأنت داير في القرى، لكنك نذل وخسيس، لكن إياك ثم إياك أشوفك بهذيك الديرة، وركب الرجل فرسه، وعاد يطويه الطوى…