بلغة باذخة.. هند خضر تبعثُ برسائلها النازفة
راوية زاهر | كاتبة وناقدة من سورية
(رسائل نازفة)؛ مجموعة قصصية صادرة عن دار دلمون الجديدة للنشر والتوزيع بدمشق، للكاتبة السورية هند يوسف خضر، في باكورة أعمالها الأدبية.. مجموعة أدبية، تبصر النور على وقع الحنين والحب النازف، وهند خضر خلالها، ترسمُ لنا خطوطاً بيانية لمسيرة الوجع الناجم عن حالةٍ إنسانية يكاد لا يخلو من تبعات حرائقها ضمير بشري.
وفي نصوص المجموعة؛ تختلف الجراح بدفقاتها الشعورية بين إنسان وآخر.. مجموعة نقلت نوعاً من السيل الجارف للشوق برشاقة قلم يجيد سبك الخاطرة النفسية بكل شوائب الأنين والحزن والفزع من الفراغ والرحيل والغياب.
أربعة وثلاثون
وبأربعةٍ وثلاثين نصّاً ينزفُ؛ أتحفتنا الكاتبة بين دفتي كتابٍ ينامُ على كتف الريح، وتهدهدُ له الطبيعة بكلّ سيميائياتها، وبدايةً سنتوقف مع العنوان:
(رسائل نازفة)، فثمة عشرة نصوص حملت هذا العنوان مرقمةً بفيض دم عشقي مهدور.. في عتبة نصية أولى لربما اختصرت الكاتبة الكثير مما يشي به الكتاب من احتضارٍ للحبر، ونزيف للحروف في حضرة وسيلة التعبير الشعورية التي تكاد يتيمة عن حبٍّ جارف سكن القلوب وغزا حزنه مقل العيون وهي الكتابة بطريقة التراسل.. ليكون للقلب دمّ ينزّ وللعين دمع يسيل، وللقلم حبرٌ ينزف على صفحات رسائل لربما لم يرها المحبوب ولم يبصر نورها، فكان واضحاً أن الرسائل لا طرف ثانٍ لها، ولا متلقٍّ حقيقيّ لحروفها، هي من الكاتبة وإليها.
في العودة للمرسل
نقلت لنا الكاتبة بحرفيةٍ عالية وجعاً دفيناً، وحالة ضميرية داخلية هشة، قررت على حين حريق نزفها حبراً على الورق وإشعالها ناراً في هشيم الفؤاد.
جاء ذلك باستخدامها لغةً شاعرية مباشرة تتناسب وحالتها النفسية الواقعة في مهاوي القلق واليأس، وعدم الرضا والتناقض النفسي الذي اختصرته تقنية التضاد التي عجّت بها المجموعة. فتارة توهمنا باللقاء وتارة تحكي لنا فجائع الغياب.. كما مالت إلى استخدام حقلٍ معجمي خاص يتناسب مع الطبيعة وارتباطها الحي بروح الشاعرة المنهكة عشقاً وشوقاً وحنيناً وأسى وأمنيات مؤجلة وأخرى محتضرة من قبيل : (الغروب، بوح الليل، قمر تموز، عرائش البنفسج)، وهي عناوين شفيفة تتناسب والجوّ العام..
اللغة الهامسة
كما مالت الكاتبة أيضاً إلى استخدام الأحرف الهامسة التي تنقل الحالة الشعورية الرقيقة، (حواسي الخمس، حديث المساء، هذيان في منتصف الليل..) واللافت إنه لا صراع واضحاً في النص بين شخصيات النصوص، والصراع الوحيد الذي بدا متنامياً نوعاً ما، هو نفسي داخلي متعلق بالشخصية الوحيدة في النص، وهذا ما حدا لالتباس ما في التجنيس، فهي تبتعد عن فنون القصة بأنواعها، وتقترب أكثر فأكثر صوب الخواطر، ولاسيما في اقتصار النص على نقل حدث وحيد لشخصية وحيدة ولمشاعر تدور في فلكٍ واحد وهو الحب، بمعنى تماهيها بالذاتية..
عناوين لافتة
ونشير أخيراً لتميز الكاتبة في انتقائها للعناوين الذي تستنفر رغبتك للقراءة، وفي استخدامها لغة مبحرة في الخيال امتطت من خلالها جناح المجاز محلّقة في عالمٍ من ضوء، لتجد الاستعارات والتشبيهات، وكذلك الكنايات المترفة بالمعنى والوصف: (الحروف التي أمسكتها بسبابتي؛ هربت من بين أصابعي النازفة).. (الفرح الهارب) استعارات مكنية.
و(الروح مليئة بسلال المرح)، وكذلك (أقمت لك بين الضلوع وطناً).. ولا يبقى لنا في نهاية المطاف إلّا أن نلون لوحة ترسمها مخيلتنا لهذا المعشوق المجهول الذي استطاع أن يستنزف كل هذا البذخ اللغوي واللفظي الذي يدور في فلك حب ربما غير موجود، وربما مشتهى، أو مرغوب، أو ربما غير مباح.. لتبقى الصورة أو اللوحة قاتمة في ظل مجتمع ينظر نظرة السواد بكل ما للسواد من معنى للحب وأنصاره وحزبه السرّيّ، فقد نضطر حتى في حضرة النزيف أن يكون الدم بلون الحبر الجاف واللوحة بلونين وحسب.. أبيض وأسود، أما الألوان الزاهية الأخرى فقد هربت وحلقت بعيداً.
في محاولة للتماهي بكل ضعف ذيلت الكاتبة مجموعتها ذات الدّفقة الذاتية للشعور بهذا الختام القاسي من نص ليالي آب وبه نختم كذلك هذه القراءة:
(أودعت أغلى ما أملك بين يديك، ولهذا أوصيك عند مماتي أن تغسل جسدي بدمع عينيك، وتطبع قبلة على جبيني قبل أن تدفن جثماني بين ضلوعك لترقد روحي بسلام).