ثلاثة عقود في متاهة.. لماذا تطلب إسرائيل ود العرب باستثناء الفلسطينيين
سعيد مضيه | فلسطين
عندما توجهت منظمة التحرير الى التسوية السلمية كان عرفات يحلم بإقامة “سلطة وطنية مؤقتا تكون قاعدة مقاتلة كما هي حال فييتنام الشمالية بالنسبة إلى فييتنام الجنوبية”. الحلم لم يتحقق نظرا لعقبتين:معارضة إسرائيل الشديدة انطلاقا من مشروعها الإقتلاعي؛ وقصور الجهد الفلسطيني. لعل أبو عمار وشركاؤه نسوا أو تناسوا انتصار ديان بيان فو الأسطوري، أنجزته المقاومة في الشمال الفييتنامي،انتزعت على إثره فييتنام الشمالية استقلالها عن فرنسا، وطورت موقفها الداعم لفيتنام الجنوبية؛رحلت القوات الفرنسية بدون قيد او شرط عن فييتنام الشمالية. وفيما بعد مسحت الامبريالية الأميركية نفوذ فرنسا عن فييتنام الجنوبية، في إطار الجهود لاحتلال مواقع الامبريالتين الفرنسية والبريطانية.
المقاومة الفلسطينية لم تحرز انتصارا عسكريا ينجزه قائد استراتيجي من نمط جياب. والفصائل المسلحة في منظمة التحرير لم تكن على قدرمن التنظيم والانضباط والوعي يؤهلها للتغلب على عدو شرس مزود بأحدث أدوات القتل والتدمير ، ويتقن فنون المكر والخديعة، اتخذ من “المسيرة السلمية” غطاء موه به حملة استيطان مكثف على الأراضي المشمولة بالحلم العرفاتي. كان المصير مبهما، حيث شاع القول حينذاك “أوسلو إما ان يأخذنا الى جنة أو يجرفنا في الجحيم”. وجرفنا في متاهة!
علاوة على اختلال القوى فإن السلطة الفلسطينية قد ضاعفت الاختلال، إذ خضعت لتبعية إسرائيل سياسيا واقتصاديا، وهي المعوّل عليها تفكيك السيطرة الإسرائيلية على فلسطين. بعفوية خالية من التفكير الاستراتيجي، انتهجت السلطة سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة ، لم يبذل اليسار جهدا في مقاومتها، أو الاعتراض عليها. شجعت السلطة الاستيراد والنزعة الاستهلاكية لدى المواطنين، فتحت أبواب الاستيرد حتى السلع المنافسة للمنتج المحلي بكفاءة عالية مثل الأحذية وصناعة الأثات والملابس الجاهزة . أشيع نمط الاقتصاد الاستهلاكي؛ تحولت الأرض الى سلعة بدل وسيلة إنتاج ، ورفع السماسرة أثمان الأراضي لدرجة انها لم تعد مجدية كاستثمار زراعي؛ وفر النهج النيوليبرالي مداخيل لدى شرائح تطلعت الى اقتناء الكماليات من أجهزة وسيارات. نشطت البنوك تفتح اعتمادات لشراء السيارات والأثاث والأجهزة المستوردة.
انتهت الفترة الانتقالية عام 1998، وحان موعد إقامة الدولة ذات السيادة طبقا لاتفاق أوسلو؛ حاول عرفات تنفيذ البند، ثم تراجع امام تهديد نتنياهو، رئيس الحكومة آنذاك، باستباحة مناطق السلطة. إسرائيل مثل أميركا مستثناة من مراعاة الاتفاقات والقوانين الدولية، وكذلك المواثيق الدولية المعتمدة. وشأن أميركا أيضا تدعي الديمقراطية وتتباهي بقيمة الحرية ، بل تزعم انها واحة الديمقرطية في الشرق الأوسط ، يمنحها الغرب ، بسبب ديمقراطيتها المزعومة، موافقة مطلقة على كل ما تمارسه أو تقترفه من جرائم حرب.
حاول عرفات في كامب ديفيد، خريف 2001، تعديل الجور الذي الحقه اتفاق أوسلو بالجماهير الفلسطينية ، وفشل ، حيث أصر إيهود باراك، رئيس الحكومة حينئذ، على رفض التنازل عن الأراضي المحتلة بالضفة، ومنها القدس. رأى باراك، كما صرح اكثر من مرة، أن دولة تقام غربي النهر بجانب إسرائيل تعني عمليا بداية النهاية لدولة إسرائيل. أجمع باراك ونتنياهو وشارون على ضررورة إفشال اتفاق أوسلو، خططوا ونجحوا. مع ذلك زعم باراك وحاشيته،وكذلك الرئيس الأميركي، كارتر، ان تنازلات سخية قدمها باراك ورفضها عرفات؛ وكانت مادة لدعاية مضادة للمقاومة الفلسطينية ولعرفات بأنه لا يريد السلام . انتشرت بين الجمهور في بلدان الامبريالية أكذوبة عدم وجود شريك للسلام مع إسرائيل! إسرائيل تحارب بالمكر والخديعة مثلما تحارب بأحدث الأسلحة، وأحيانا تقدم لها أسلحة مطورة برسم التجريب على الفلسطينيين. استباحت قوات جيش الاحتلال عام2002 مناطق إدارة السلطة الفلسطينية التي تنازل عنها الاحتلال في مفاوضات السنوات العشر السابقة. عادت الضفة بكاملها خاضعة بصورة مباشرة للاحتلال العسكري وتدار بأحكام عرفية ، وتتم فيها مصادرة الأراضي حسب مشيئة الاحتلال والتوسع الاستيطاني بدون مقاومة او عوائق. تدنت مطالب السلطة عند حدود استجداء العودة الى مفاوضات من موقع ضعف وإعادة القنصلية الأميركية الى القدس الشرقية ورفع الحظر المفروض على مكتب منظمة التحرير في العاصمة الأميركية.
هكذا تبدد الحلم ب ” قاعدة مقاتلة” وبزر بديلا له سراب سلطة ؛ حرمت السلطة الوليدة من الخيال لتبتكر اساليب ووسائل نضال مجربة بعيدا عن ميدان التفوق العسكري الإسرائيلي: نضالات شعبية سلاحها الفكر والإرادة يتم خلالها حشد وتعبئة حراك شعبي وفولذة الصمود الوطني بالمقاومة الشعبية التي تستعصي على إرهاب الدولة، وتضمن تولد القدرات الدينامية الضامنة لاستمراريتها بدون الاشتباك مع قوة مسلحة متفوقة تكيل، بصورة دورية ، الضربات الأليمة للمواطنين وتدمر البيوت السكنية والمشاريع الاقتصادية. المنظمات المسلحة تمسك كوادرها بالزناد وتُستدرَج بين حين وآخر الى صدامات مسلحة تدعي الانتصار وكبح جماح إسرائيل، وإقامة “معادلة ردع !”؛ وفي الأثناء يتواصل التغول في نهب الأرض وملء الضفة بالأحياء السكنيةالاستيطانية ، تضيق الخناق على الفلسطينيين وتحاصر تجمعاتهم السكنية.
المدخل للمقاومة الشعبية، العصية على الانكسار يمر عبر الثقة باحتياطات مجمدة لطاقات ثورية لدى الجماهير الشعبية المركونة أحتياطي عزوة. توفرت للسلطة تجربة أستطاعت الجماهير المحتشدة في ميدان التحرير بالقاهرة إجبار مبارك على ترك الحكم؛ كشفت الجماهير الحاشدة هشاشة سطوة الاستبداد السياسي . وهناك أمثلة أخرى عديدة على الاحتياطات الثورية في الحركة الشعبية الديمقراطية، في بوتقتها تتم تربية الجماهير سياسيا وفكريا، وسيلتها احترام الجماهير الشعبية والتقرب منها وكسب ثقتها واستنهاض هممها . إن سلطة تضع نصب الأعين تعزيز الصمود والتحدي تتوفر لديها السبل والوسائل لتحويل المجتمع جدارا منيعا بوجه سياسات الاقتلاع. بإمكانها تسخير نهج المقاومة وكذلك قطاع التربية والتعليم لتوليد الثقافة المقاتلة وتنميتها .
باولو فريري ابتكر تعليم الديمقراطية كنهج تربوي ثوري نشره في أنحاء أميركا اللاتينية، وبات أحد عوامل التحولات الديمقراطية اليسارية الراهنة في بلدان أميركا اللاتينية. اعتقله العسكر الانقلابيون اوائل عقد الستينات وسخروا من طروحاته واتهموه بالشعوذة ؛ لكنهم اضطروا للافراج عنه ونفيه خارج وطنه،البرازيل؛ حيث استطاع، بالممارسة، نشر افكاره التربوية المطورة للفكر اللينيني والغرامشي حول إعلاء رسالة التربية مولّدا لثقافة التغيير الثوري. كان بإمكان السلطة، لو توفر لديها الخيال والرغبة، ولو لم تلتزم بالمصالح الأنانية للشرائح المتسلقة والوصولية، ان تحيل المدرسة والجامعة بيئة للكرامة الشخصية والوطنية والاقتدارالمعرفي، تغرس حب المعرفة والبحث عنها وتربي التفكير النقدي والمهارات العملية .
بدلا من ذلك اعتمدت السلطة نهجا تعليميا مخرجاته أجيال السلفيين و الانتظاريين المحبَطين يتنافس المئات منهم على وظيفة حكومية تدخر ل”عظام الرقبة” من شباب “الحزب الحاكم”. في كل عام يتكاثر الخريجون،من مختلف المهن ، عاجزون عن المبادرة والاعتماد على الذات، ويتهيبون من الانخراط في مشاريع صغيرة ومهن حرة. هذا علاوة على جموع من خريجين لا وجود في الاقتصاد المحلي مجالات لاستيعاب كفاءاتهم، حيث التنسيق معدوم بين الاقتصاد المحلي، وهو متخلف،وبين المناهج التعليمية في الجامعات والمعاهد. والعاطلون عن العمل بين المتعليمن، إما انهم يخرجون للتفتيش عن العمل خارج فلسطين، او يذوون في عتمة الإحباط والممارسات العقيمة اوالمشبوهة.
نهج الصمود والتصدي يحيل أيضا وزارات السلطة ودوائرها ورش إبداع وابتكار وتنظيم الطاقات وتطويرها بالممارسة المنتجة. وزارة الزراعة، على سبيل المثال، تعنى بتطوير الإنتاج الزراعي وتصريفه من خلال التصنيع الزراعي، تقاوم مؤامرة إسرائيل لضرب الاقتصاد الإنتاجي، إذ تعمد في مواسم نضج الفواكه والخضار الى إغراق أسواق الضفة بمنتجات المستوطنات محفوظة في ثلاجات لزمن طويل، اغلبيتها فقد القيمة الغذائية، لتهبط أسعار منتجات الزراعة الفلسطينية ومداخيل المزارعين، ويفتر الاهتمام بالأرض حيث تنشط، في ذات الوقت،عمليات الكيرن كايميت(الصندوق القومي اليهودي مالك الأراضي في إسرائيل) لشراء الأراضي بأثمان مغرية من خلال سماسرة جشعين قصار النظر، أثمان يستحيل منافستها من قبل الممولين المحليين، الراغبين في الاستثمار الزراعي. إسرائيل تعتمد كل السبل والوسائل لتكون صاحبة المبادرة والأقوى في كل المجالات، للاستيلاء على كامل فلسطين التاريخية، وهذا لا يخفى على اي مراقب موضوعي ونزيه.
الإشكاليات تكمن في الواقع الفلسطيني. كل الحيل والمكائد وتلاوين الإرهب تتثلم باصطدامها بجبهة متماسكة تتطلع للتحرر الوطني والتقدم، تعمل بانسجام وتداربأسلوب ديمقراطي وقيادة جماعية غير أبوية، تسد جميع الثغرات التي ينفذ او يتسلل عبرها الكيد وجبروت القوة. الحالة الفلسطينية مترهلة، بارتباك وحيرة تراقب ما يجري بأيد مكتوفة. يعتدي المستوطنون على المزارعين وعلى المواطنين في بيوتهم،وتبلغ الصلافة بالمحتلين أن يؤنب وزير الحرب إلإسرائيلي، بني غانتس، السلطة ورئيسها مسجلا عليهم التقصير في المساعدة على حفظ امن احتلاله!!
يشهد نجاح الاحتلال في تمرير إجراءاته بيسر على قصور ذاتي من قبل الفصائل السياسية، خاصة اليسار، الذي يعيش ازمة هي العامل الرئيس في أزمة المقاومة الفلسطينية. تستهدف المبادرات المتعلقة بالأرض والغذاء على أساس جماعي التحول الى مجتمع إنتاجي يستثمر ما لديه من وسائل إنتاج ، يعيد الارتباط بالأرض ويشجع على دعم مصادر الغذاء المحلية. المقاومة الناجحة تتيح تحكم المجتمع بمصادر الغذاء وتعزيز الجذور الثقافية ، وذلك من خلال مشاريع تعاونية وجماعية للإنتاج الزراعي والحرفي ورفع مستويات الإنتاج بالتدريج ولكن باضطراد. من الضروري بذل جهود جادة لتنظيم صغار المنتجين في الزراعة والحرفة كي يتصدوا ويكافحوا بجهود متفاعلة ولكي يواجهوا آثار الكولنيالية على حياتهم.
إن تقصير حكومات السلطة جلي يدركه الجميع . قصور في الابتكار والتنظيم والتخطيط والتثقيف، تعبئ الطاقات البشرية والمادية لتشكل روافد حركة شعبية ديمقراطية تطور عناصر الصمود الوطني في الاقتصاد الإنتاجي والثقافة المكافحة.
المناطق المحتلة تضاءل دورها في تقرير المصير الفلسطيني؛ هناك قوى تنشط ضد الاحتلال ونظامه العنصري. وفي العالم يتصاعد النكير ضد نظام الأبارتهايد، تتسع حركة فرض الحصار وسحب الاستثمارات وتكتسب مواقع جديدة . ورغم ان الحركة لاتؤثر على اقتصاد إسرائيل إلا أنها سياسيا وثقافيا تلحق العزلة بإسرائيل على الصعيد الدولي. كما أن القوة الامبريالية المساندة لجرائم إسرائيل تمنى بالوهن النسبي ويتهدد هيمنتها المطلقة التحولات الجارية في العالم نحونظام تعدد الأقطاب. في العالم كله يتلاحم النضال ضد هيمنة الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها العدوانية مع حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني.