العلاقة بين الإبداع والمرض النفسي

منى قابل | مصر

      هل هناك علاقة بين الإبداع بأشكاله المختلفة(الأدب/ الشعر/الرسم) وبين الإصابة بمرض نفسي؟ وهل الفنون جنون كما يقولون؟
كان فرويد يعتقد حين أسس نظريته المشهورة في التحليل النفسي أن الأديب هو ابن حالته النفسية، بمعنى أنه بطريقة ما يضع كل دوافعه وعقده ومزاجه الآني أو المرحلي في عمل إبداعي من إنتاجه. وأشار فرويد في عرض هذه الفكرة إلى دراسته لرواية «الأخوة كرامازوف» لديستوفيسكي، ومسرحية «أوديب ملكًا» لسفوكليس،حيث لاحظ أن ديستوفيسكي مثلاً أسقط عقده النفسية على الشكل العصابي لبطل روايته، ومن ثم جعل نفسه بطريقة غير مباشرة بطلا للقصة، وهو ما يجسد تأثير الحالة النفسية للكاتب على بناء شخصياته وسرده مما قد يمنح كتابته قيمتها من الناحيتين الفنية وتأثيرها النفسي على القارئ
اعتبر فرويد أن إنتاج المرضى النفسيين بمثابة مفتاح لشخصياتهم أولا، ومعيار لتطور حالتهم النفسية والعقلية ثانيا، وأداة تساعد على شفائهم ثالثا. وهذا تماما ما حدث مع أشهر رسامي العالم “فينسنت فان غوخ”، الذي بلغ قمة إبداعه الفني وهو نزيل مستشفى “سان بول دي موسول” النفسي في قرية سان ريمي في جنوب فرنسا.
قليلة هي التجارب الحقيقية التي تبحث في العلاقة بين الإبداع والمرض النفسي، وأقل منها تلك التجارب التي تبحث في العلاقة بين التعبير الفني والعلاج النفسي.

    تعالوا نطبق هذه النظرية على أرض واقعنا المصري لنأخذ مستشفى الخانكة للصحة النفسية كمثال في المستشفى يتنوع إنتاج المرضى بين شعر ونحت وصور زيتية وتشكيلات هندسية..قد يكون الإنتاج متواضعا للغاية بالمعايير الفنية البحتة،لكنه في النهاية تجربة إنسانية تستحق الرصد والتقييم والتوقف عندها. أهم ما يميز معرض إبداع المرضى النفسيين الذي أشرفت عليه إدارة المستشفى أنه تجربة فريدة لا تتكرر كثيرا في المنطقة العربية خصوصا إذا كان النزلاء من نوعية القتلة العصابيين أو المدمنين أو المهووسين بشئ ما..
من أكثر الحالات التي استحقت الاهتمام كان (عصام) وهو أحد هؤلاء المهووسين، يعاني مرض الفصام العقلي، وهو نزيل بالمستشفى منذ ١٠ سنوات يحتكر لنفسه ركنا بالعنبر رقم 3 الذي زينه بعناية فائقة، عناية فنان يهيم عشقا بالفن، على الحائط علق عودا يعزف عليه أحيانا بعض المقطوعات الموسيقية التي يحبها ويلحن أشعاره وإن كانت ركيكة يقول عصام عن نفسه أنه شاعر بالفطرة ويصر على أن يسمعك بعض أشعاره بالفصحى أو العامية وهي أشعار تتطرق إلى موضوعات شتى سياسية وعاطفية وفلسفية.

  المريض النفسي إذن لا ينفصل عن الواقع بشكل كلي، كما قد يتبادر إلى الذهن يتفاعل معه كالأفراد العاديين ويعي ما يدور حوله تماما.

      على جدار ركن عصام يوجد أيضا مسطرة كبيرة معلقة، وصورة فوتوغرافية للوحة الموناليزا الخالدة وصورة للمطرب اللبناني المعروف جورج وسوف. وعلى طاولة صغيرة مستندة إلى الجدار صف دواوين شعرية لفاروق جويدة الذي يعتبره صديقه المقرب رغم أنه لم يلتقه أبدا ونزار قباني مثله الأعلى كشاعر. هذا هو العالم الفني الخاص بعصام الذي يحدثك عن ظروف تجربته الشعورية فيقول واثقا كشاعر كبير وبطريقة مسرحية: أشعر أن شيئا يرهقني ولا أستريح إلا بعد أن أفرغه على الورق. وهذه الحالة تنتابني أكثر من مرة في اليوم الواحد. لهذا السبب إنتاجي غزير مع ذلك قد أتوقف عن الكتابة لفترات طويلة الأمر مرتبط بحالتي المزاجية فأنا أكتب في حالات الفرح والغضب. الطبيب الذي يعالج عصام فسر لنا جانبا من حياته الشخصية:كان متطوعا في الجيش منذ 8 سنوات قبل دخوله المستشفى، وبدون سابق إنذار أصيب باضطرابات عقلية فجائية، وقتل زوجته، ولأنه مريض لم يذهب إلى السجن بل جاء هنا.. حالته الآن مستقرة بعد تلقى العلاج.وهو متعاون جدا ومثالي ويساعد المرضى الآخرين طواعية ويعتلي المنبر ليلقي خطبة صلاة الجمعة كل أسبوع… من منا لا يشبه عصام في كثير من صفاته، ليس شرطا بالطبع أن يقتل زوجته ولكننا نقتل أبطال روايتنا مثلا، أو نقتل الحبيب في قصائدنا..أو نقتل أنفسنا دون وعي
مثال آخر سعيد حالة نفسية وشعرية أخرى فهو يقرض الشعر مثل عصام ولكن على طريقته الخاصة إهتمامه الشعري منصب على المرأة ورغم أنه يتهم زوجته بالخيانة ودخل بسببها المستشفى إلا أنه يؤكد أنه لا يكره المرأة لأنها ليست الزوجة فقط بل الأم والأخت كتب قصيده «يعتبرها هكذا» عبارة عن ديالوج بين حبيب وحبيبة. في مستشفى الخانكة هناك أكثر من 1700 نزيل بينهم 30 مريضا بينهم الموهوبون أو من يهتمون بالفنون والأدب.

   يقول الدكتور بهاء عثمان مدير المستشفى إننا نستعين بمتخصصين ونقاد محترفين لتفسير أعمال المرضى والاستفادة بآرائهم للوقوف على تطور الحالة المرضية للنزلاء هذه الأعمال بمثابة مفتاح للشخصية نتعرف من خلالها على مكوناتها داخلهم ولفك شفرة شخصياتهم حتى يمكن تشخيص حالاتهم النفسية ومن ثم تقديم جرعات العلاج المناسبة لهم. يؤكد الدكتور بهاء حقيقة علمية هي أنه كلما طالت فترة بقاء المريض في المصحة تتملكه نزعة التأمل ويكون فلسفة خاصة به وينتج أعمالا فنية يعبر بها عن آلامه وأحلامه وتعتبر متنفسا يساعد كثيرا في العلاج واستعادة حالته الطبيعية وتقلل من الاعتماد على العلاج الكيماوي والصدمات الكهربائية التي نلجأ إليها في بعض الأحيان كطريق للشفاء.

   على صعيد آخر هناك من يخالف رأي “فرويد” يرى بعض الخبراء النفسيين أن الإبداع وسيلة للهرب من الاضطرابات النفسية وليس مسببًا لها او معبرًا عنها، لأن النشاط الإبداعي يجلب سعادة مؤقتة تخفف أوجاع أصحاب الاضطرابات النفسية.
كذلك تلعب الكتابة الإبداعية دورًا أساسيًا في تحسين الحالة النفسية وفقًا لدراسة نشرت عام 2018 في مكتبة “جامعة كامبريدج “وآلت إلى أن الكتابة عن التجارب الأليمة أو العاطفية تؤدي إلى تحسن الصحة النفسية والبدنية. وقد أوصت الدراسة باستخدام الكتابة الإبداعية كعلاج لاضطرابات ما بعد الصدمة. لكن، من جانب آخر، تؤدي الحالة النفسية السيئة إلى إبداع أكبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى