التلاقح الثقافي الجيوفكري بيننا وبين الغرب
بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
في سياق التلاقح الثقافي بين الثقافة العربية والثقافة الغربية،امتزجت الكثير من الأفكار والمفاهيم والآراء مع الأفكار الفلسفية الغربية الأولى. فقد كان هدف العديد من المثقفين والمفكرين العرب العمل على محاولة إزالة بعض المفاهيم الثابتة التي تفرض علينا نحن العرب خارطة جيوفكرية تفصل على نحوٍ متوالي ومستمر ما بين الثقافة الغربية الأوروبية _ الأمريكية، والثقافة الشرقية أو الثقافة العربية على وجه الخصوص، ذلك إن الثقافة في النهاية متكاملة ومكملة لمفاهيم وآراء الشعوب. ليس في الفكر العربي أو الفكر الألماني ولا حتى الفكر الفرنسي من نزعةٍ معاصرة إلا ولها جذور عميقة تمتد إلى ارومات الثقافة الإنسانية وجذورها التي تأسست منذ الصيرورة الأولى للخلق وبدء تشكل الجماعات البشرية، وعبر سيرورتها التاريخية الطويلة، ومنها ثقافتنا العربية التقليدية، فليس هنالك أي انفصال بين (الأنا) و(الآخر) بقدر ما هنالك من تمايز وتفارق، وحركة مشاكلة ومثاقفة بين الطرفين المتقابلين . فالمشاكلة في مصطلح المفاهيم العصرية تعني، الفصل بين (ألانا) و (الآخر) ثم محاولة إسباغ إشكال بنيوي من تقليد (الآخر) على (الأنا).
أما الثقافة بشكلٍ عام فهي التي تعني أولاً أن ثمة قضايا سالفة حقيقية بين (التراث) وبين (الآخر)، بيد أن هذه المسافة مهما اتسعت أو ضاقت ليست من النوع الممتنع على العبور والتجاوز ، على نوع من التفاعل الحضاري العالمي المتراكم الذي ميز الحضارة الإنسانية بشكلها الكلي والشمولي بين مختلف أجنحتها. غير أن الغرب الأوروبي _ الأمريكي استطاع أن يتقدم في بعض المجالات إلا أنه لم ينفصل بتاتاً عن واقع الحضارة الإنسانية. والمهم أن تأتيه حضارياً لا أن تأتيه بعقد الدونية والنقص المغلفة بنزعة الكبرياء والتعالي في الوقت الذي تعم انتاجات الغرب المادية أنحاء كرتنا الأرضية، لذلك لا يمكن أن نفصل هذه الانتاجات الإنسانية الهائلة عن الشخصية الفكرية التي أنتجتها، ومن ثم لابد من فهم المنهجيات والسياقات المتقدمة والمتطورة التي تجسدت في الواقع.
مَن يسعى محاولاً أن يقرأ تلك المنهجيات وتلك السياقات التي كانت مبرمجة ومنظمة في لا شعور الفكر الغربي، وكذلك المنهجيات والسياقات التي هي في طور التطهير فيما يخص ثقافتنا وتراثنا العميقين، التطهير غير المسلح بالجرأة والقدرة الكافيتين لإبراز ما فيه من منطلقات علنية لا شعورية باطنية دفعت إلى إنتاج نماذج معينة من ثقافات متنوعة وجعلتنا أسرى لها وصرنا نتعامل مع هذه النماذج وننسى المنتج لها وهذا هو المنهج أو هذه هي ستراتيجية الحقبة الزمنية التي أنتجت هذا النموذج. قد يقع التغيير والتبديل بنحوٍ مستمر على البدائل أي إنك تستبدل نموذجاً فكرياً وثقافياً سلوكياً بنموذج آخر لا تكشف النوايا الخفية التي صاغت وأنتجت كل هذه النماذج التي تموضعت في الواقع. لذلك نميز بين مفهوم التعامل مع التراث بعمقه التاريخي أو التعامل مع الميراث.
فالتعامل مع التراث بكل حمولاته هو الوصول إلى تلك الجهوزية التي أنتجت ثقافةً ومجتمعاً معيناً له هويته الخاصة به، في حين إن التعامل مع الميراث الفكري والثقافي والمعرفي هو الذي يستسهل الطريق والمسار ويحقق نشاطه وجهوده في التعامل مع المنتجات ومع القطع التحفية لكن منتج وصانع هذه القطع يظل مجهولاً .
لقد كان للفلسفة الغربية الأثر الكبير والواسع في بنية التماذج الثقافي العالمي. بخاصة مع الثقافة العربية. فكانت الفلسفة الوجودية هي النمط السائد في عصرنا هذا . لكن من الواضح أن الغرب بما يملك من ثقافة وتقدم وتقانة وقوة اقتصادية وعسكرية كان تأثيره على الثقافة العربية يسير وفق سياق السيطرة والهيمنة الكبيرتين.
ومهما يكن فقد كان لكلٍ من الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، والذي تأثر بالبنيويين ودرس وحلّل تاريخ الجنون في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي).
والمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان الذي اشتهر بقراءته التفسيرية للطبيب النمساوي سيغموند فرويد ومساهمته في التعريف بالتحليل النفسي الفرويدي في فرنسا في الثلاثينيات من القرن الماضي، وبالتغيير العميق الذي أحدثه في مفاهيم التحليل النفسي ومناهجه. لقد كان لانتشار الوجودية وجه آخر. هذا الانتشار ينبغي التدقيق في حقيقته ومداه، فما عُرف من أفكار الفيلسوف والروائي والكاتب مسرحي وكاتب السيناريو والناقد الأدبي والناشط السياسي الفرنسي جان بول سارتر وغيره من مفكري الوجودية في تلك المرحلة كان مرده نوع من التعميم السريع الذي تلقفته الصحافة السياسية بسرعة كبيرة ومن دون عودة إلى مصادر ومراجع هذا الفكر الذي بقي في حيز المجهول فيما يخص القارئ العربي المتوسط، فقد كان كتاب جان بول سارتر الرئيس (الوجود والعدم) لم يترجم إلى اللغة العربية إلا بعد انقضاء موجة الوجودية الشارعية إن صح التعبير وجاءت تلك الترجمة سقيمة ومهلهلة ومتعبة ولم يطلع عليها إلا عدد قليل من الناس .أما فيما قام به الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو فتكاد أن تتكرر هذه الظاهرة وهي أن تسبق ما تتضمنه كتبه شائعات ومقولات فوكوية تخترق الجو الثقافي والمعرفي والفكري المحدد في بلادنا العربية والذي يتلقف بعض الأفكار والمفاهيم والآراء وكم يتلقف الشائعات. وبتداولها تداول الشعارات السياسية ومدلولاتها.
أما الفيلسوف ميشيل فوكو في كتبه الرئيسة التي تم العمل على ترجمتها فهي لم تتنزل إلى الأسواق والمكتبات بنحوٍ واسع ولم تقرأ قراءة عربية ، فكل ما صدر عن ميشيل فوكو هي مقالات متناثرة هنا وهناك وترجمة لأحد كتبه التي تعتبر من أصعب ما كتب ميشيل فوكو وكان من المفروض أن تؤجل تلك الترجمة إلى مرحلة متأخرة جداً وتأتي بعد كتبه الرئيسية التي تشرح أفكاره ومفاهيمه وآرائه بنحو أكثر وضوحاً ودقة ونعني به كتاب (آركولوجيا المعرفة). هذا الكتاب ألّفه الفيلسوف ميشيل فوكو بعد كتابه الرئيس ( الكلمات والأشياء) الذي يعتبر الكتاب الأهم والأساس.
في حقيقة الأمر، لا نشك في أن صورة الفيلسوف ميشيل فوكو أصبحت ضبابية، وتدريجياً انمحت نهائياً (كصورة على الرمال عند طرف البحر). حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، فقد جسّد صورة (المثقف النوعي)، إذ لم يكن وعيه (وعياً نموذجياً) كما رآه جان بول سارتر، ولكن بالمحافظة على خطاب الحقيقة، الحقيقة التي يجب البحث عنها في مكانها أو يمكن حجبها. بالتأكيد، من الممكن أن نتساءل إذا كان أي شكل أصبح ماضياً ومتفككاً، أو على العكس تم إعادة ابتكاره وصنعه، في اللحظة التي استخدمت فيها الكتمان والكذبة بدون حالات روحية كأدوات سياسية دولية.
مما لا شك فيه أن الضجيج الذي أحاط بـ(ميشيل فوكو المثقف)،وكذا صياح أعدائه المتعالي ساهما في منحه عصمة بابوية.
كل هذا كان نموذجاً للثقافة الغربية التي لم نتعرف على تفاصيل نشوئها وانتشارها، والتي نزلنا منها نحن العرب دون تدقيق أو تمحيص في تفاصيل مصادرها ومراجعها.