قراءة إمبريقية في برنامج عمل المثقف الإشكالي
بقلم : عماد خالد رحمة | برلين
من يريد معرفة البنية العقلية التي أنتجت المثقف الإشكالي، عليه أن يقرأ بعمق شديد الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ،ومستوى التداول المعرفي ،وفهم التراث العربي الغني ،كي يدرك حجم ودور وأهمية المثقف بشكلٍ عام ،والمثقف الإشكالي بشكلٍ خاص. لأنّ ما ينبغي على المثقف الإشكالي هو الحرص على الموقف المبدئي، سواء جاء متطابقاً مع الموقف السياسي السائد أم متعارضاً معه، مع أنّ الموقف السياسي خيار شخصي يتحمل المرء تبعاته واستحقاقاته.
غير أنّ العلاقة بين المثقف والسياسي، التي يصفها المتساءلون بالإشكالية، لا تعني التحريم، فهناك حالات وتجارب غنية تؤكد الجمع بين الدورين، وما يمكننا استحضاره الآن منها يأتي على سبيل المثال وليس الحصر، انخراط الفيلسوف والروائي والمفكر والناقد الأدبي والناشط السياسى الفرنسي أندريه مالرو، والشاعر التشيلي بابلو نيرودا، والشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي ميرييو ،وجورج جان ريموند بومبيدو، السياسي الفرنسي الذي شغل منصب رئيس فرنسا من عام 1969 حتى وفاته في عام 1974. عمل كأحد كبار مساعدي الرئيس شارل ديغول لفترة طويلة. وغيرهم انخرطوا في العمل السياسي، بعض الوقت أو جميعه، وكانوا دائماً من أهم المثقفين وكبار المبدعين في العالم.
من جهتنا نحن العرب عندما نقرأ بنية الفكر الثقافي العربي التقليدي بعمق شديد نجد أنفسنا واقفين في منعطفاتٍ ومتعرجاتٍ اشكاليةٍ فيها الكثير من الخطورة بدءاً من أعراض الصدمة المعرفية الكبيرة الخارجة عن محنة عدم التقابل مع (الآخر) على قاعدة الندية. وعدمية الحوار بين (الأنا) و(الاخر)، وانتهاءً بالقصور الذاتي للسؤال الثقافي والفكري والمعرفي عن انتاج عوامل وظروف حراكه، والمفاوضة والمنازعة والمغالبة، وخروجه عن قلق الانطولوجيا ،والتسجيل والتدوين التاريخي ،مثلما يعاني من إشكالات محنته القاسية إزاء ايدولوجيا النصوص المنسوجة بعقلية منهجيةٍ خاصة، لها منظمومتها الفقهية التاريخية وهبوطها الميثولوجي غير المقدس على أرض العصاب الديني الطائفي والمذهبي وتاريخ المدن المكتنزة بالأسرار .
لقد أصبح الفكر الثقافي العربي الجديد ضحية غريبة لهذه القراءة الاشكالية المعمقة للتاريخ وتداول النصوص واشكالات مفاهيمها الاجرائية،إذ فَقَدَ الفكر الثقافي العربي إزاء لاعقلانيته الكثير من استقراره واطمئنانه ونمطه القياسي والمعياري في التعاطي مع العديد من المفاهيم الخاصة بالثورة والأهلية ،والمسؤولية ،والحاكمية ،والمعيش اليومي، والرفاهية ،والمقدس ،والايديولوجيات. ومما لاشك فيه أنَّ مرحلة ما بعد الصدمة بل الصدمات الحضارية لم تزل مطمورةً وغامضةً ولم يؤسِّس لها العقل (السسيو سياسي) العربي ،أية تمهيدات وميكانزمات شرعية وقانونية ،أو إجرائية في إطار التوافق بين البنى الثقافية والمعرفية والاجتماعية .إذ بقيت هذه المرحلة مأخوذة الى آليات وسياقات ومنهجيات العنف الرمزي والنظام الطقوسي والشعائري القائم على أسس قصدية الهيمنة والسيطرة ،والموقف التاريخي منذ صيرورته الأولى وعبر سيرورته التاريخية ،إذ فقدت الكثير من وقائعها وموضوعيتها عبر ايهامات إنتاجها الرمزي للقوة والهيمنة والحكم ،وبشكلٍ تجاوز نسق التوقعات والتخمينات وحسابات الفكر الثقافي العربي التقليدي ذاته .
ولعل الحديث عن نموذج المثقف الإشكالي نجد أنفسنا أمام الكثير من الأسئلة التي راهن على طرحها الكثيرون.
إزاء حراك بنية الفكر العربي المعاصر في جدلية الزمن الحضاري والسياسي ومستقبل الحوار الإنساني الحضاري بين العقل العربي في نموذجه العروبي ،والعقل الغربي التنويري، إذ وضع رهاناته على قوة الفكر العروبي القومي في إمكانية تحديث بناه المعرفية وآلياته عبر إيجاد نظام وجودي مرتبط بأواصر القربى. يمنحه صيروات التحوّل ومشيئاته من الهيمنة والسيطرة وقوة التاريخ المزيفة والخادعة، الى قوة منهجية تسير وفق إستراتيجية محدَّدة، تدرك أسباب ومجريات الصراعات والنزاعات بين السياسي والاجتماعي ،وأصل الخلاف البيّن في تغيير الأفكار والتصورات والمفاهيم التي يتحرك بموجبها وفي سياقها العالم .
لذا فإن اشكالية هذا الفكر وملحقاته وانهيار نموذجه الثقافي نتيجة صعود نموذج عصابي،هو خليط غير متجانس من سايكولوجيا الإرتكاس والنكوص مع الثقافة الشعبية العامة ذات الحس الفطري غير المؤدلج. وغياب الحاضنة الايديولوجية بكل ثقلها وحمولتها التي شحبت ملامحها من خلال الكثير من المؤشرات والمعطيات والتغيرات البنيوية ،والازمات المتلاحقة التي شهدها واقع الصراع العروبي المتسم بالقومي ،وانعكست على اسئلته الكثيفة في الثقافي والوجودي والمعرفي.
ومما لاشك فيه انّ المثقف الإشكالي هو الوارث الأنيق لشعارات الأحزاب والقوى السياسية القومية ومرجعياتها في إطار ما يطرحه أفقها التنويري، لقد حاول المثقف الإشكالي عبرالكثير من المشروعات والأفكار والمفاهيم التي نهض بها من خلال فتح قنوات حوار وتثاقف وتلاقح مع أسئلة العقل الغربي وما يكتنزه من معارف، لكن تلك الأسئلة ومحاورها كثيراً ما كانت تتسم بنوع من الاستكبار والاستعلاء المأخوذة من عقد الذات التاريخية المتراكمة، وكأنَّ المثقف الإشكالي من خلال سعيه لتحديد أطر ومنهج هذه العملية الثقافية الفكرية، يبحث بدوافع قوية عن وجود نخبة ثقافية مميزة لها خصائصها ومميزاتها وتملك مواصفات كارزمية تقابل النخب الثقافية الغربية خاصة النخب الألمانية والبريطانية والفرنسية.