قراءة في كتاب “رسائل إلى قمر” للأسير الفلسطيني حسام زهدي شاهين
بقلم: عفيف قاووق | لبنان
كتاب رسائل إلى قمر للأسير الفلسطيني حسام زهدي شاهين، يحار القارىء في تصنيفه هل هو أدب سياسيّ أم ينتمي إلى أدب السجون أو هو يندرج تحت خانة الأدب الإجتماعي والتربويّ . النتيجةشبه المؤكدة، هي أن هذا الكتاب هو كلّ هذا .
بالرّغم من أن هذه الرسائل موجهة بالظاهرالى تلك الطفلة قمر، التي شاهدها الكاتب للمرة الأخيرة لحظة إعتقاله إلا انه يمكن القول أنه أراد من خلال هذه الرسائل مخاطبة جيل الشابة قمر بأكمله ، آملاً أن يستخلص أفراده العِبر والدروس التي إختبرها نتيجة تجربته الغنيّة في هذه الحياة المجبولة بثنائيات من المتناقضات، من خطأ وصواب أو شك ٍ وإيمان وأيضا من هزائم وانتصارات والكُل يعيش في مسافة تفصل بين متناقضيّن من تلك المتناقضات. ولكون الحياة ليست بمعبد والكاتب ليس بواعظ إلا انه رغب في مشاركة القراء ببعضٍ من شظايا سيرته فكان كتابه “رسائل إلى قمر”.
لقد إختار الكاتب أسلوب الرسالة في كتابه، إيمانا منه بأهمية الرسالة ودورها في حياة الأسير الفلسطيني، فالرسالة حسبما يقول تلعب دوراً ثلاثي الأبعادلناحية المحافظة على الروابط الإنسانية والاجتماعيةوالإبقاء على التواصل بين المُرسِل والمُتلقي وهي بمثابة البيت الورقي الذي يعيش فيه الأسير.
بالعودة إلى مضمون الكتاب فقد إحتوى على مواضيع شتّى ومحاور مختلفة ومن هذه المحاورعلى سبيل المثال لا الحصر الإنحياز الواضح للمرأة ودورها الريادي والنقد اللاذع للثقافة الذكورية والسلطة البطريركية. إضافة إلى تناوله للشأن السياسي وهذا ليس بغريب عمّن تدرج وتحمل مسؤوليات في الحركات الشبابية والطلابية . بالإضافة طبعاً إلى وجود محاور أخرى لا تخفى على القارىء، وفي كل منها حاول الكاتب عبر رسائله أن يُفند ويوضح رؤيته فيما يختص مضامينها.وسنحاول تلمّس بعضا منها:
أولاً، في موضوع المرأة:يتبيّن لنا جليّاً، وبدءاً من الإهداء الذي قدّمه الكاتب،إحترامه وتقديره لدور المرأة المُناط بها، والمسلوب منها في أغلب الأحيان، فكان الإهداء إلى ثلاثٍ من النسوة،هُنّ الأُم التي علّمته كلّ الحروف من غير أن تكتب حرفاً واحداً، وأيضاً إلى قمر، الطفلة التي علّمته فلسفة النطق بهذه الحروف، وأخيراً إلى الأخت نسيم التي جعلت من قلبها نافذة أمل يطلّ منها على الحياة.
إلى جانب هذا الإهداء ومن خلال الولوج في تلك الرسائل نجد أنّ الكاتب أفرد حيّزاً لا بأس به للحديث عن المرأة وتفخيم دورها في مقابل نقده اللاذع للثقافة الذكورية، ” فمنذ أن حبس الرجل جمال المرأة في جسدها وفصلهُ عن خصائصها الأخرى، سقطنا في مستنقع الجهل والتخلّف”. وقدّم لنا عدّة نماذج نسائيّة كان لها الأثر الطيّب والفعّال في خدمة القضيّة الوطنيّة الكبرى، بدءاً بالنساء الصابرات اللواتي غاب عنهنَ أزواجُهنّ بسبب الأسر فبقين محتسبات محصنات بالوفاء شأنهنّ شأن ما ورد في الأسطورة التاريخيّة عن المرأة بينلوب التي كانت تغزل نسيجها في النهار وتفتقه في الليل حتى لا تقع فريسة أهواء الرجال الطامعين بها.
… ويسترسل الكاتب في تقديم النماذج المشرّفة والمشرقة عن المرأة الفلسطينيّة المناضلة، أمثال الدكتورة ليلى غنّام التي اعتبرها إمرأة بألف رجل، والتي أصبحت على رأس محافظة البيرة ورام الله، أيضا هناك المرأة المقدسيّة جهاد أبو زنيد التي مثلت نموذجاً إنسانياً ونضالياً في العطاء لما لها من بصمات مهمّة في مسيرة العمل الوطني.
.. وعندما نتحدّث عن المرأة في رسائل حسام شاهين لا بدّ لنا من التوقّف بإحترام أمام صبر وكفاح أيقونة النضال السياسي والإعلامي فدوى البرغوتيزوجة الأسير القائد مروان البرغوتي، التي حملت لواء الدفاع عن الأسرى والمعتقلين إلى مختلف المحافل العربيّة والدوليّة، وما أبلغ قولها الذي لفتني كثيرا عندما قالت ” كنت أتعمد أن أحضر إلى فلسطين قبل الولادة لأضع طفلي على الأرض الفلسطينيّة وأحرر له شهادة ميلاد فلسطينيّة”.
إمرأة أخرى ذكرها حسام شاهين في رسائلة هي مديرة مؤسسة مانديلا لحقوق الإنسان ورعاية شؤون الأسرى بثينة دقماق، التي وصفها بأنها «الحمامة الزاجلة” والتي تجاوزت في علاقتها مع الأسرى علاقة محامٍ مع موكله، لتُصبح علاقة عائلية بامتياز. وكانت حلقة الوصل بينهم وبين عوائلهم لا سيما في فترة منع الزيارات.
كذلك لم يفُت الكاتب السعيّ لإبراز وحدة النضال، فكانت إشارته إلى المناضلة اللبنانيّة سُهى بشارةالتي إعتبرها نجمة في سمائنا، وأيضا إلى عروس فلسطين الفنانة الراحلة ريم البنا التي كانت وستبقى رمزا من رموز المقاومة الثقافية، كما أشار إلى بعض النساء الأجنبيات المناصرات للقضية مثل لويزا مورغانتيني إشبينة فلسطين إضافة إلى نساء أخريات لا يتسع المجال لذكرهنَّ.
-المحور السياسي: يستذكر حُسام شاهين في كتابه الدور الرائد لمن أسماه أبو الوطنيّة الفلسطينيّة الزعيم الراحل ياسر عرفات، وعلاقته بالحركة الطلابيّة منذ البدايات واصفا هذه العلاقة بعلاقة الفرع بجذوره، معلقا الآمال على هذه الشريحة الطلابيّة في لعب الدور المحوري في مسيرة الكفاح الوطني.
كما يقارب الكاتب معضلة تكاد تكون جامعة في معظم أنظمة العالم العربي ودول العالم الثالث هذه المعضلة متمثّلة بشهوة السلطة وبالفساد الذي يمارس على حساب الوطن وعلى أنقاض قضيّته، لذا فإنه يدعو إلى ما يُسمّى بصناعة الإنسان وتحصينه ليُصبح أكثر وعياً ووطنية للتمكُّن من وضع حدّ لتغلغل الفساد في الحياة السياسيّة ومحاصرته.
أما في فهمه لماهيّة الثورة ومعناها، يرى حسام شاهين ضرورة وجود نوعٍ من الرقابة والمحاسبة فالثورة بحاجة دائمة لرقابة من أجل حماية نتائجها وتصويب مسارها لأنّ إستبدال الظلم بظلم آخر ليس بثورة. من هنا تبرز أهميّة الحرّيّات العامّة سواء حرّيّة الإعلام وحرّيّة الرأي وحرّيّة الفكروالعمل السياسيّ وحتّى حرّيّة التديُّن وحرّيّة الأدب.وللوصول إلى حياة سياسيّة وإجتماعيّة سويّة لا بدّ من فصل الدين عن الدولة فهو المدخل الوحيد لتكافؤ الفرص وتداول السلطة بين متديّن وغير متديّن،فالمزج بين السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة يؤدّي إلى نوع من احتكار السلطة فنكون امام بعض من يجعل من نفسه وصيّاً على الدين والدنيا في آنٍ معاً.
.. في تناوله لمعنى الصمود وفلسفته،فالكاتب يراه من كونه يمثّل إرادة الحقّ الكامنة والفاعلة ببطء في رحم الهزيمة إلى حين تحويلها إلى إنتصار، ففي الحرب تبقى هزيمة المعتدي مجرّد هزيمة أما هزيمة المعتدى عليه تتحوّل إلى صمود.
وبإشارة منه إلى حالة الصراع الداخليمن حين لآخر بين الفصائل والمكونات، يذكر لنا بعضاً من الحوار المتخيّل بينه وبين البرش او البرشة كما أسماها ليقول بلسان البرش “لم أعد قادرا على إحتمالكم،فبعد أن كان همّكم الإنتصار على عدوّكم، صار طموحكم هزيمة الواحد منكم للآخر، إستوطنتكم الأنانية واستفحلت فيكم الجهويّة، وأصبحتم كلكم قيادات.
-المحور التربوي والثقافي : أهم ما يُلفت في هذه الرسائل، تعريف الكاتب للكتاب حيث يقول:”كلما قرأت كتاباً أكتشف كم كنت وما زلت جاهلاً، فالكتاب هوالمرآة التي تكشف لك العيوب الملتصقة بجوانب معرفتك”. وفي أكثر من موضع يحُثُنا على طلب العلم والتزود بالمعرفة، وعلى ضرورة الإعتراف بالتنوع الثقافي بحيث لا يجب الإعتماد على رافدٍ واحد لنهل المعرفة والثقافة. وهذه نصيحته إلى قمر وعِبرها إلى الأجيال” هنا يا قمر عليكِ بسلاحيّ العلم والمعرفة ففيهما بوصلة لا تخطيء الإتجاه أبداً.
وفي أحدى الدروس التثقيفية التي تجلّت من خلال رسائله، يحدثنا حُسام عن المسؤولية التي هي كالجبل لا يستطيع كل إنسان تسلقها، وفي هذا السياق نستطيع أن نُشبّه المسؤولية بالأمانة الملقاة على عاتق كل مسؤول تجاه شعبه وقضاياه، ونستذكر الآية الكريمة التي قد تفي بالغرض ” إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقنّ عليها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولا”. فالمسؤولية تحتاج إلى بصر وبصيرة وإلى وعيّ وسعة إدراك وهي مطلوبة في كل مفاصل حياتنا اليومية.
في رسالة أخرى من رسائله، يحذرنا حُسام من مغبّة الوقوع في فخ الظاهر دون التبصُر ببواطن الأمور، فالفرق شاسع وكبير بين الظاهر والباطن حتّى وإن كان الظاهر يُشكل بُعداً لحقيقة ما، فإن المضمون أو الباطن يُشكل جوهر هذه الحقيقة.ولتدعيم هذه الفكرة يعيدنا إلى حكاية النبّي موسى والرجل الصالح وموضوع خرق السفينة وما تلاها.أما في رسالته حول الصداقة، فهو يدعونا إلى تقبُل أصدقائنا بسلبياتهم وإيجابياتهم،شريطة أن نعمل على تعزيز هذه الإيجابيات وتصويب تلك السلبيات.
أخيرا لا بدّ من التطرق الى البعد الفلسفي الذي ظهر في بعض رسائله، سيما في تناوله لموضوع الشك واليقين وتساؤله لماذا قبل الله تحدي الشيطان له وتركه يُفسد العباد والبلاد، مع أنه كان قادراً على محقه. ليصل في بحثه عن هذا التساؤل إلى انه في الحياة تتجاور كل المتناقضات، مستطردا بالقول “إذا كان الله قد قبل الشيطان نقيضاً له في هذه الحياة وحاوره، لماذا يريد منَّا البعض أن نرفض الإعتراف بحق من هو أقل خطرا من الشيطان، ولماذا نُسلّم برأي من هو أقل شأنا من الله.
الموضوع الآخر الذي تطرق إليه الكاتب هو موضوع الديمقراطية والإسلام، معتبرا ان تقديم مبدأ الشورى في الإسلام على انه ديمقراطية هو محاولة فقهية هشّة.مناديا بضرورة الفصل التام بين الدين كشأن سماوي روحي، يحتاج الى طريق الإيمان بين العبد وربه، وبين الديمقراطية كشأن وضعي أرضي تحتاج إلى طريق العقل بين المواطن والدولة.
ختاما كتاب رسائل إلى قمر مليء بالدروس والعبر ويصلح لأن يعتمد في المناهج التعليمية لما يحتويه من مقاربات وشروحات لقيَم ومفاهيم مُجتمعيّة عدة . ونختم لنقول ان حسام شاهين بكتابه هذا يثبت انه حرٌ رغم أسره وكثير منّا للأسف أسرى رغم حريتهم المزيفة. فتحية والف سلام للأسير الحُر حسام شاهين .