عرس الدم.. جريمة اغتيال الشاعر

د. إيهاب بسيسو | فلسطين

في كل مرة يطل فيها اسم فرانكو من صفحات كتب التاريخ والأدب عن فصول الحرب الأهلية في اسبانيا، أتذكر لوركا وأكاد أسمع صوت الطلقات يشق سماء غرناطة في ذلك الزمن البعيد من صيف عام ١٩٣٦، حين أعدم جنود الديكتاتور الشاعر الأندلسي بإطلاق النار على جسده النحيل قبيل الفجر.
أمس في متجر الكتب، بدا وكأن فرانكو قد تسلل مجدداً – ولسبب غامض- إلى بعض من أحاديث عابرة عن الفن والشعر والمسرح والمجتمع والديكتاتورية والحروب الأهلية.. حاول أن يكون جزءاً من الحديث الدائر حول خراب الأمكنة، متصنعاً التهذيب في اختيار كلماته كأي بائع أنتيك في محل قديم، في مدن ترى التاريخ مناسبة يومية لنوستالجيا الحزن، غير أنه لم يكن أحد من الحضور في متجر الكتب يعير صوت الديكتاتور أي انتباه.
لا السيدة الخمسينية التي كانت تبحث عن رواية رومانسية تنقذها من طقس الخريف الجاف، ولا الشاب الذي كان يتصفح في كتاب تاريخ قديم عن سيرة المدينة، ولا الكاتب الأربعيني الذي انضم للحديث عن الشاعر من خلال التذكير بأعماله الشعرية والمسرحية، خصوصاً مسرحية “عرس الدم” ولا فتاتين جامعيتين كانتا تبحثان عن أعمال هشام شرابي من أجل بحث جامعي في مساق علم الاجتماع الثقافي.
بدا وكأن فرانكو قد غضب من ذلك التجاهل المتعمد لدوره “البطولي” في التاريخ خصوصاً بعد أن أشاح البائع في متجر الكتب بوجهه في تلك اللحظة التي كان يهم فيها بذكر بطولاته العسكرية، وكأن البائع لم يكن يريد الإصغاء لرواية الديكتاتور عن الحرب واغتيال الشاعر.
فقام فرانكو بحركة صبيانية مبعثراً رفاً كامل من الكتب بقبضة يده، بحنق ينسجم تماماً مع سلوك أي ديكتاتور عسكري اعتاد أن يكون مطاعاً في كل ما يقول.
ظننت أنها بداية النهاية لكل شيء، وأن جنوداً مدججين بالبنادق والهراوات وقنابل الغاز المسيل للدموع سيقتحمون المكان في أي لحظة مطلقين النار على الجميع أو ربما سيقومون باقتيادنا إلى جهة غير معلومة للتحقيق معنا حول أسباب تجاهل فرانكو وتذكر لوركا بالذات ومسرحيته “عرس الدم”.
تفحصت بحركة لا إرادية الهاتف الجوال، لأكتشف أنه بلا شحن وكأنه انتظر تلك اللحظة الحاسمة كي ينطفئ متحولاً بين يدي إلى قطعة من البلاستيك، بلا أي قيمة.
تجمد الوقت لبرهة، بدا فيها الصمت وقد تشكل طبقات شفافة من جليد تكسو كل شيء الكتب ووجه البائع والشاب والسيدة والكاتب الأربعيني والفتاتان الجامعيتان، قبل أن يصل إلى مسامعي صوت تصدعات في جدار الهواء ثم أشعر بارتجاج حاد حين انفجر المكان في موجة صراخ غاضب.
قبل أن يغيب ذلك المشهد في عتمة عميقة، استطعت الاحتفاظ بتفاصيل اللحظة الأخيرة حين اختلط فيها كل شيء في مزيج غامض، الصوت ووهج ضوء فاقع مع رائحة دخان إطارات مشتعلة وقنابل غاز مسيلة للدموع مع مشهد للكتب التي بعثرها فرانكو مع صوت رصاص جنود غير مرئيين، مختلطاً بهتاف في مظاهرة بدت قريبة تنادي بالحرية.
ثم سكن الصوت وغابت رائحة الغاز والحريق والرصاص، حين شعرت بقوة غامضة تقذفني بعيداً حيث ارتطم جسدي بجدار انهار بكامل كتبه في الضجيج.
اليوم قبيل الفجر، استيقظت على صوت رشقات رصاص قريبة، حاولت التيقن من أنني لست تحت الأنقاض في متجر الكتب وأنني لست مصاباً ثم خرجتُ رويداً رويداً من جمود الجسد النائم بتوجس عفوي وبطء.
أعددت فنجان قهوة، تعمدت أن تكون ثقيلة في فنجان الخزف الكبير وجلست قبالة النافذة، أفكر فيما حدث في متجر الكتب، وهل حدث فعلاً؟ وهل نجوت حقاً من حادثة موت غامضة؟ وماذا عن السيدة والكاتب الأربعيني وبائع الكتب والفتاتين الجامعيتين.
المدهش في الأمر أن المشهد ما زال حياً أمام عيني حد الالتباس الموجع بين حكايات التاريخ والخيال والكابوس وواقع رصاص حي في طرقات المدينة.
والمخيف أن وجه فرانكو قد بدا من زجاج النافذة في تلك الساعة قبيل الفجر عملاقاً وكأنه يبتلع تفاصيل المدينة في ذلك الحنق الذي ظهر به في متجر الكتب.
ما جعلني أنتفض بتوتر عفوي مندفعاً للاطمئنان إلى وجود كتب لوركا في مكتبتي المنزلية وكذلك كتب هشام شرابي، خصوصاً سيرته الذاتية “سنوات الجمر والرماد” التي كانت ملتصقة بكتابه الأبرز “النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي”.
عندما وجدت الكتب في مكانها المعتاد على الرف الخشبي، بدأت أشعر بنوع من الهدوء يسري في عروق الجسد، كان وجه فرانكو قد بدأ في التقلص تدريجياً عبر زجاج النافذة مع تقدم الضوء في أحياء المدينة إلى أن اختفى تماماً مع اكتمال شروق الشمس.
ملاحظة: في ذات العام ١٩٣٦ والذي تم فيه اغتيال فيدريكو غارثيا لوركا في غرناطة، ولد غسان كنفاني في عكا في فلسطين، والذي يصادف عام ٢٠٢٢ الذكرى الخمسين لاغتياله في بيروت.
ترك غسان كنفاني أعمالاً خالدة في الأدب أبرزها عائد إلى حيفا، رجال في الشمس وأم سعد …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى