خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله (5)
فتحي محفوظ | ناقد مصري
القصيدة الثالثة: اِعْتِرَافْ
أعلنُ أن ما مضى ليس من القضا
لكنه محضُ زمانٍ ناشِفٍ
جاء إلينا بعضُه يضربُ بعضًا
يلتفُّ حوله الناسُ لكي يستوقفوه
كي يعيشوا سنةً واحدةً
ويُمسكون في جلبابِه
لكنه ينسل مثل الأفعوان يضرب الأرضَا
يفتشُ البيوتَ باحثا عن صيدةٍ وحيدةٍ وفرحةٍ صغيرةٍ
وضحكةٍ يخطفها في آخر الليلٍ صبيٌّ ينشدُ الركضا
وبعض حبوٍ يرتقي الدرَجْ
ويستديرهاربًا بصيدِه
وتاركا مقاعدَ القلبِيحوطُها الحَسَكْ
وسِكَّةً خربانةً
ومطرحًا يسكنه البومُ
وشجرا مُعَبَّقًا بخيبة الظلالْ
وبانخطافة المهجْ
أمشي فإذ بي فجأةً يحطُّني المشيبُ يعتري خطوي الكلالْ
يستبيني الشجرُ المُصطَادُ كي أقف
أعلنُ أنني اكتشفتُ في نهاية الطريقِ أنني بلا غوايةٍ
ولا هدفْ
وأن قِطَعَ العمرِ تساقطت غصبا
وأن بهجةَ القلبِ تسرَّبتْ من خللِ النوافذِ التي
على الحوافّْ
وأنني في آخر المطافْ
توقفتْ رجلاي في الأعرافْ
وأنني بعد حروبٍ جمَّةٍ بلا غنيمةٍ
وبعد رحلةِ البحار قد بلغتُ الشطَّ
لكنْ ليس في يدِي من لؤلؤِ القاعِ
سوى الأصداف.
……..
أعلنُ أن ما مضىليس من القضا
وأنني أسبُّ هذه الفوضى.
الزمن شريرا
بين الفوضى والنظام يأتي هذا الاعتراف المجلل بخيبة الأمل. إنه اعتراف دون في سبتمبر 1990، واستمد وجوده من ديوان قبو الثلاثين، والصادر في عام 2010 للشاعر الكبير السماح عبد الله.
تتحدث تلك القصيدة الرائعة عن الزمن، ومن ثم فهي تتحدث عن التاريخ:
” اعلن ان ما مضي
ليس من القضا
لكنه محض زمان ناشف
جاء الينا ”
إنه بذلك لا يبدأ فقط ببث شكايته وتذمره من أحداثه المتعاقبة، ولكنه أيضا يعلن عن عجزه عن إيقاف صيرورته، والصورة مقتضبة، ولكن طبيعة الزمن تستلفت النظر:
” يلتف حوله الناسلكي يستوقفوه
كي يعيشوا سنة واحدة
ويمسكون في جلبابه
لكنه ينسل مثل الأفعوان يضرب الأرضَا”
والرغبة في العيش في حدها الأدنى، يقابلها انسلال الزمن وتملصه. إنه زمن يتحلل من الالتزامات، ولا يقيم وزنا للرغبات، وليعلن نص الاعترافات أنه زمن يسعي في الأرض ليبحث عن أهداف منتقاة:
“يفتش البيوت باحثا عن صيدةوحيدة وفرحةصغيرة
وضحكة يخطفها في آخر الليل صبي
ينشد الركضا
وبعض حبو يرتقي الدرج ”
ومنه نتبين أولا: أنه زمن قناص، يسعي في الأرض لانتقاء فريسة، والفرائس في مفهوم الصيد تعبير مرادف للقنص، وربما القتل، لأن الموت ببساطة، هو ذلك القانون الذي يحمله الزمن في مروره، ومن ثم فعلامات الشر هي الصفة المميزة للزمن في تلك الاعترافات.
ثانيا: تصف الاعترافات الفريسة بصفاتها البريئة. طفل يحبو. وحيدا. صغيرا. والحبو لارتقاء الدرج تعبير بلاغي يتضمن البدايات المنطقية لدورة الحياة، وبذلك تنتهج تلك الاعترافات منهجا تاريخيا، بتتبع السلسلة الزمنية منذ بداية انعقادها ومن خلال تاريخها التتابعي.
ثالثا: إن دورة الحياة وفقا لنمط الاعترافات، تتماثل وتتكرر علي وتيرة واحدة. إنها دورة تتمثل في الحركة الإيقاعية، والإيقاع بدوره يمثل تلك الصيرورة الدائمة. الطفولة والصبا والشباب والعجز، ثم الموت، ليعيد الزمن استنساخ نفسه في صورته التي لا تخلو من الشر المستطير، وهو الشر الذي ابتدعه النص الرائع ليدلل علي استيائه:
” وتاركا مقاعد القلب
يحوطها الحسك
وسكة خربانة
ومطرحايسكنه البوم
وشجرا معبقابخيبة الظلال
وبانخطافه المهج ”
ويكون استخدام كلمات مثل الحسك والخراب والبوم، مترادفات لحالة انفعالية، يغلب عليها التشاؤم، ويبلغ ذلك الشعور من الاحتدام عندما يقرر النص في اعترافاته:
” امشي
فإذا بي فجأة
يحطني المشيب
يعتري خطوي الكلال ”
إنه الإعلان عن نهاية الدورة الزمنية، وتأثيراتها المدمرة لمجمل الصفات، وهو بالتالي استكمال لأدوات بناء النص من نواح عدة،أهمها تمثيل الحركة الإيقاعية للزمن الجائر، فضلا عن التواؤم الفعال مع القيم الجمالية المحددة بالشكل.
رابعا: تتقدم السلسلة الزمنية نحو غاياتها منذ البدء، وعندما يكون لديها ذلك الدافع الهدام لاختيار فريسة بأوصاف محددة، وهي تتقدم وفقا لناموسها الخاص بحركاتها الإيقاعية، بحيث تكون محصلة الانتقاء قد توسمت أسس الهدم والفناء، لتعود السلسلة الزمنية لدورانها منذ البدء في انتقاء فريسة أخري وفقا لنزواتها.
خامسا:تتحدث الاعترافات عن الحصيلةفي هذا السباق
بين الحياة والموت:
” اعلن انني اكتشفت في نهاية الطريق
انني بلا غواية
ولا هدف
وان قطع العمر تساقطت
غصبا ”
فبهجة القلب تسربت، ولا غنائم تذكر، بعد قيامه بتلك الحروب من أجل المعيش والاستمرار ولو لسنة واحدة:
” وبعد رحلة البحار قد بلغت الشط
لكن
ليس في يدي من لؤلؤ القاع
سوي الأصداف ”
وخيبة الأمل هو الحصاد الأخير، وهو حصاد كما يصفه المازني، حصاد الهشيم.