المتألهون: نماذج نفسية في القرآن
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
كان الأحنف بن قيس رضي الله عنه يقول: “تعالوا بنا نرى ذكرنا في القرآن” استلهاما من قوله تعالى “لقد أنزلنا كتابا فيه ذكركم”.. وما نفس ذات طبيعة إلا وترى لها مثلا في هذا الذكر مطابقا كان أو مشابها أو مقاربا.. فإن النفس الأولى الأصيلة ملهمة الفجور والتقوى، وهكذا طبعت، ولن تخرج مهما تعددت أوصافها وأفعالها عن هذه الفطرة الأولى؛ ثم يكون ما يتأتى منها على اختلاف طبقاتها ودرجاتها في تغليب أي الطبعين على الآخر.. فأيهما يغلب على صاحبه فهي تكون تبعا له، وهو يكون وصفا لها.
والنموذج الذي نحن بصدده نموذج عجيب غريب، لا يرى قدر نفسه، ولا يدقق في حجمه البشري، ولا يلتفت إلى رد القرآن الصاعق عليه فيرعوي أو ينزوي أو يقصر.. لكنه يتمادى بما بسط له مما يظنه صنع يده، أو على علم منه ، أو لاصطفاء له عند الله!! وما هو من ذلك في شيء.. هذا النموذج الذي ذكر في قوله”أأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)”[ص].. “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)”[الزخرف].
وإنك لتعجب من هذا السؤال الذي يثير العجب: أأنزل عليه الذكر من بيننا؟!! فمن السائل؟ وما قدره؟ وما القدرة التي يمثلها في هذا الكون العظيم حتى يطرح السؤال؟ لا شيء .. بل تعجب من رد القرآن عليه من التهديد والوعيد”بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب” ، ثم يأتي الحجاج العقلي للمتكلم عله ينظر في داخله، فيرى أي شيء هو؟ أي قوة يمثلها في الكون؟ أي من عطاءاتك التي أعطيتها كان لك الفضل في إيجادها أو خلقها؟ ماذا تملك من أحقر الأشياء ــ بدءا من أنفاسك ـــ لتحكم فيه، فضلا عن عظيمها، فيقال لهم “أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)”.
ما أنت في السموات والأرض حتى تتألى فتستنكر نزول رحمة الله على أحد من خلقه؟ ما الذي تملكه من خزائن السموات والأرض؟ وإذا كانت ثمة ملك لديك، فلم تقف عند أسبابك الحقيرة فلا ترتقي بنفسك حتى تكون إلها أو شريكا للإله فيما ينزل ويمنع؟ ويحظي ويدع؟!!
حدث ابن هشام في السيرة : أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس عندالكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا (يقصد أباه) ألا يكون قد سمع هذا فيسمع ما يغيظه، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه لحق لاتبعته، فقال أبوسفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى.. فخرج عليهم النبي صلى اللهعليه وسلم فأخبرهم بما قالوا.. ثم قال لأبي سفيان: لو تكلمت لأخبرتني الحصى.
ثم يأتي إليهم في سورة الزخرف”أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32).. إذا كنت تستنكر نزول هذه الرحمة على هذا الرجل المصطفى وهي (الوحي)، فأين أنت من قسمتك التي قسمت لك فلا تملك أن تغير فيها شيئا بالقليل ولا الكثير!! هذه معيشتك التي جعلت لك في الحياة الدنيا، فجعلتَ في قدر منها، وجعلتَ مسخرا لبعض، ومسخرا لك البعض..
قسم لك من الرزق: (المال والولد والعمر، والصحة والمرض، والحياة والموت، والقوة والضعف، والسلطان والخدمة، والليل والنهار، والإقامة والسفر، و… )، فلا تملك أن تحيد قيد شعرة عما قدر لك، حتى تستوفي من ذلك حظك المكتوب، ثم يأتيك داعي الموت فلا تملك منه فكاكا، ولا تدفعه عن نفسك ساعة تقدمه أو تؤخره.
هذا الطبع من النفوس لم يكن مقصورا على زمن نزول الوحي وحسب؛ لكنه طبع مستمرأ متماد متطاول في استعلائه مع الزمان والمكان، ولا يزال حتى يرث الله الأرض، بل لقد كان قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأزمنة؛ بل كان أشد وأعتى من هذا .. فانظر قول فرعون مستخفا بموسى عليه السلام، متأليا بالنعمة التي لم يكن له فيها يد “أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)”[الزخرف].. هكذا يستنكر كيف يخص الله هذا بالرسالة وهو الذي له هذا ملك مصر وتجري الأنهار من تحته، فأين الذهب الذي يملكه موسى؟ وأين الملائكة الذي يؤيدونه؟
وإذا كانوا نقموا نزول الوحي على النبي، فلا يزال منهم من ينقم عطاءات الله على خلقه فيما منّ عليهم به، فيقولون : كيف هذا لفلان من دوننا؟ كيف يؤتى هذا العلم ، وهذا المال، وهذا المنصب والجاه، وهذا الذرية، وهذا ذكرا بين الناس.. وهذا وهذا.. لا تزال هذي النفوس على ربها ساخطة؛ حاذية حذو أبي جهل وأمية وأبيّ وأبي لهب وهم يقولون “تبا لك.. أما وجد الله غيرك.. إن كنت نبيا فأنت أعظم من أن نرد عليك، وإن كنت كاذبا فلا نكلم كذابا.. ثم قالوا منا نبي، فأنى لنا ذلك..” وقد دعا عليهم النبي – صلى الله عليه وسلم- وأمثالهم بالتعاسة، فقال: “«تَعِسَ عبدُ الدِّينارِ وعبدُ الدِّرهمِ وعبدُ الخَميصةِ، إِن أُعطيَ رضيَ، وإن مُنعَ سخطَ، تَعِسَ وانتكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتقَشَ“.
فهل تٌخلّي هذه النماذج الساخطة الناقمة سخطها ونقمها، وهي توقن أنها لا تغير في قضاءات الله شبرا ولا ذراعا، فتلتف حول مقدراتها وعطاءاتها فتثمرها وتوظفها وتتنميها؟ وهل ترضى هذه النفوس عن ربها فيقنعها بما أعطيت؟ ويرضيها إذا رضيت؟ وهل تعمل عمل أبي سفيان خشية أن يفضح الله سريرتها، ويكشف دخائلها ودخائنها؟
هي تذكرة وتبصرة .. علها تجد آذنا صاغية، أو راعية، أو عقولا واعية أو ناهية.. “فذكر إن نفعت الذكرى”.