مقال

السوق المريضة.. الصحافة في العصر الرقمي

عرض: علاء المفرجي

لا يتردد كرم نعمة مؤلف كتاب (السوق المريضة الصحافة في العصر الرقمي) في التعبير عن «احتقاره» لفيسبوك لنفس الأسباب التي عادة ما يحتقر الناس بسببها الأخبار المتعلقة بمس الخصوصية والتفاعلات بالابتسامات الوهمية والمجاملات الكاذبة واللغة الوضيعة، ناهيك عن البذاءة والشتائم والتنكيل والكراهية المعلنة.

ويدافع عن ذلك عندما يعتبر فيسبوك المستبد الأكبر في العالم، وشركة تكنولوجية غارقة في الظلام، وما تمثله بالنسبة لنا من معضلة أخلاقية.
في الواقع، كتاب كرم نعمة الجديد وهو الخامس في تجربته «السوق المريضة:الصحافة في العصر الرقمي» الصادر مؤخرا عن دار لندن للطباعة النشر بـ 624 صفحة من القطع الكبير، أوسع من الاقتصار على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن متن الكتاب يدافع عن جوهر الصحافة بوصفها الحل الأمثل لربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات. ويخصص لذلك فصلا موسعا يأخذ نصف الكتاب تقريبا بعنوان «أزمة الصحافة الوجودية» لكنه في فصل مواقع التواصل الاجتماعي المعنون «الحقيقة القبيحة وما بعدها» يطالب بهدم معبد فيسبوك على رؤوس مشيديه، فضلا عن فصل أخر في الكتاب عن «عصر التلفزيون الذهبي». لذلك فهو كتاب مفيد ليس لطلاب قسم الصحافة والاعلام، بل لكل المهتمين بأزمة الصحافة في العصر الرقمي والشركات التكنولوجية.
يرى الكاتب والصحفي العراقي، انه لا يوجد شيء مخيف أكثر من أن تتحول شركة فيسبوك إلى أكبر مستبد في العالم وقوة متعجرفة وشركة غارقة في الظلام لتبادل المعلومات المزيفة، فالتزييف المنتشر سواء بشخصية المستخدمين أو في نشر المعلومات هو مجرد جانب آخر من جوانب التكنولوجيا يقوض مصداقيتها ويحرف مهامها مع الدول ووسائل الإعلام والمجتمعات.
ويكتب نعمة الذي غادر العراق منذ أكثر من ربع قرن ولم يعد له، وعمل في الصحافة على مدار عقود كمدير تحرير في صحيفتي الزمان والعرب في لندن، ثمة معركة سياسية وتجارية كبرى بدأت الحكومات تنتبه لها بعد ارتفاع مطالب تهديم أعمدة المعبد على مشيّديه. شركة فيسبوك لا تكتفي بربط العالم بوصفها أداة للتواصل،بل إن عملاق مواقع التواصل الاجتماعي لايتردد في السعي إلى حكم العالم والتأثير على مزاج الديمقراطيات والقوانين والبنوك، وإثارة النزعات العنصرية والطائفية وترويج الأخبار الملفقة.
ويستعين المؤلف هنا للدفاع عن فكرته، بما اختارته صحيفة فايننشيال تايمز من مفردة فيكبوك “Fakebook” بدلا من فيسبوك وهي تعلق على خبر قيام شركة فيسبوك بإغلاق 1.3 مليون حساب مزيف. وهو رقم يساوي ما يقرب من نصف المستخدمين الحقيقيين النشطين شهريا.
يقول مؤلف هذا الكتاب “لدينا إمبراطورية رقمية مكونة من 3 مليار مشترك، وباعتراف الشركة نفسها يشكل خمسة في المئة منهم حسابات مزيفة أو مكررة أو تدار آليا وليس لأشخاص مُعرفين بأنفسهم”.
لذلك يصل إلى أن شركة فيسبوك اليوم هي دولة عظمى مارقة خارج نطاق السيطرة، حيث يجمع أغلب المحللين التكنولوجيين ونسبة كبيرة من السياسيين على عدم وجود قوة على هذه الأرض قادرة على محاسبة فيسبوك لأنها خرجت عن السيطرة بعد أن تغير هدفها من تغيير العالم إلى حكم العالم.
ويعبر المؤلف عن استغرابه بأن العالم يبدو وكأنه منوّم مغناطيسيا حيال ذلك مع وجود من يثق بفيسبوك كمصدر حر وديمقراطي لتبادل المعلومات، بينما مصطلحا ما بعد الحقيقة والأخبار الزائفة كبرا وتضخما مع تضخم فيسبوك.
يعيد كرم نعمة التذكير بجملة مارك زوكربيرغ الشهيرة التي أطلقها عام 2012 “فيسبوك لا يعني لي مجرد شركة، بل بناء شيء يغيّر الواقع، ويحدث تغييرا فعليا في العالم”.
ويقول مؤلف كتاب “السوق المريضة” إن عملاق مواقع التواصل الاجتماعي لا يمثل قصة سعيدة ولا يمكن اعتباره مرآة للأشخاص كما زعم نيك كليغالذي هو بمثابة وزير خارجية الشركة العملاقة، بقوله “فيسبوك منصة أشبه بمرآة للمجتمع”، بل إنه سلاح غير مرخص وخارج نطاق السيطرة، وفي أيدي ثلاثة مليارات مستخدم في جميع أنحاء العالم، فالشركة بالأساس تقنية تعاني من وهم أنها دولة قومية. أو بتعبير روجر ماكنامي مؤلف كتاب “الوقوع تحت تأثير زوكربيرغ”، وسائل التواصل الاجتماعي قد ضلت طريقها.
ومن أجل إعادة التاريخ مرة أخرى إلى سكته، يجب أن تكون الحتمية التكنولوجية مرادفة للحتمية التاريخية، يستعين مؤلف هذا الكتاب بتعبير نيكولاس كار مؤلف كتاب “الضحالة: تأثير الإنترنت على عقولنا” الذي سبق وأن استنتج أن زوكربيرغ فصل فيسبوك عن الواقع، وأظهر كيف يمكن لشخص أن يكون على حد السواء، ذكيا بطريقة مذهلة وساذجا بشكل مثير للدهشة.
لا يكتفي المؤلف كرم نعمة بذلك سواء في التعبير عن احتقاره لفيسبوك أو باعتباره معبرا عن الحقيقة القبيحة، بل يقدم للقارئ أراء على درجة من الأهمية مثل ما كتبه جون نوتون الناقد الأدبي الأيرلندي وأستاذ التكنولوجيا في الجامعة المفتوحة بقوله “إن الوحوش مازالت تسرح على فضاءات فيسبوك، لكن هذا ليس سببا لفتح حديقة حيوانات للوحوش نفسها أمام الناس من أجل الفرجة أو حتى محاولة لتدجين المستحيل”.
سبق وأن أطلق نوتون لقب المرشد الأعلى لفيسبوك على مارك زوكربيرغ، بغير أن يتهكم عليه، لأنه يتكلم في رؤية طوباوية عن البشرية جمعاء، على اعتبار أنه رئيس جمهورية افتراضية مكونة من ثلاثة مليارات مستخدم.
لذلك فإن الاعتقاد، حسب كرم نعمة، بأن الغد مكان مختلف عن اليوم هو بالتأكيد علامة مميزة فريدة لنوعنا، لكن ذلك لا يعني أن فيسبوك مثلا وحده من يمتلك صناعة المستقبل، فالتكنولوجيا لايمكن اختزالها في جشع كبريات الشركات في وادي السيلكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى