أضغاث صحوتي.. دكان الصبر (15)
منال رضوان | الإسكندرية
لوحة الفنان السكندري محمد رضوان
– الجزء الأول
عدت إلى بيت أمي عقب سنوات من الابتعاد، ويمكنني أن أسميها سنوات الشتات، عشرة أعوام كافية لتغيير كل الأشياء في الحي القديم.
تبدلت الأحوال، تحولت الصيدلية التي تحمل رقم ١ في دفاتر التفتيش الصيدلاني إلى محل ملابس، انضم إلى “بوتيكات” كثيرة، عج الشارع بها، وضج منها كما علمت.
– هذا المقهى الذي لا يعرف أهل الحي من رواده، أسماء أصحابه، لكنه ولا شك يمتاز بتفرده؛ سبع درجات تنتهي إلى شرفة “بلكون” جعل “القهوة العالية” بالحي القديم تكتسب اسمها المميز وتحاكي – في مخيلتي – مدخل “مينا هاوس” الذي رأيت عبد الحليم حافظ ينزل عبر سلالمه بعد ورطة أوقعه النابلسي فيها؛ بأن أسكنه هذا الأوتيل الفخم، وهو لا يملك قوت يومه..
– ها…؟!
هل تلتمس الأعذار لرومانسية لم تعد موجودة الآن، ولم تزل تضم يدك إلى صدرك في لهفة وانقباض تضامنًا وحزنًا مع أم السينما المصرية “فردوس محمد” في المشهد الشهير عند صرختها الموجعة .. “ابني”؟.
– حسنًا..
بهذا المنطق يا قارىء تلك السطور، اغفر لي خيالي الجامح الذي تجرأ على التقاط منمنمات للتشبيه بين درجات سلم “مينا هاوس” وبين سلالم القهوة العالية، التي دكت وتساوت بالرصيف، حفاظًا على الذوق العام والنسق الحضاري وغيره من بنود التطوير القائم على قدم وساق !!!
– وكما غفرت لي الخيال الجامح، عليك أيضًا تقبل هذا التبرير البغيض.
– هنا المدرسة الثانوية وقد تغير اسمها إلى مدرسة الشهداء،
محال الألبان وقد سعت إلى التمدد الأفقي، وأبدلت الواجهات الرخامية المضيئة والستائر الهوائية بالواجهات الخشبية المتواضعة، أصوات الأغنيات التي تشي بمدى تغير الذوق السماعي بعد هبوب الطوفان الأسود المسمى “التوكتوك” على شوارعنا القديمة، والذي حثني على ركن السيارة في مكان آمن والترجل في سبيل الوصول إلى منزلنا.
لكنني فجأة توقفت عن خطواتي الحذرة وفي ذهول، وجدت أن دكان عم مصطفى ما زال على حاله القديم، “الڤاترينة” البيضاء الصغيرة بداخله، واليافطة الخشبية البسيطة، وقد أزال الزمن بعض حروفها لكنني ما زلت أحفظها فأعدت كلماتها بصوت خافت..
(صبرية لتصليح جميع أنواع الساعات.
سيتيزين – أورينت – روليكس وخلافه).
اقتربت إليه وأنا أتحسس موضع قدمي خشية صدمتي بنبأ رحيله، عم مصطفى الذي تزوج صبرية أجمل بنات الحي كما روت لي أمي، وبعد قصة حب كانت مثار حديث الجميع، أشيع أن صبرية باعت ما تمتلكه من ذهب، واستأجرت هذا الدكان لزوجها قبيل رحيلها بحمى النفاس، عقب ولادتها ابنتها التي حملت اسم أمها ذاته…
– عم مصطفي!
– ألا تتذكرني؟
…… وللحديث بقية.