التنميط الثقافي وتأييد التنوع ضد الاختلاف والخصوصية

عماد خالد رحمة | برلين 

الحفاظ على الهويةِ ومقوماتِها وماهيتِها، هو هدف مجموعة (هوياتية) تم كسر الحواجز التي تعيق تطورها وتقدمها ،وذلك لانخفاض مستوى التنميط الثقافي، والتي رسمت لنفسها هويةً خاصة كمجموعةٍ ثقافية واجتماعية حسب مرجعياتها الماضية وسندها التاريخي، لذا فقد أصبحت الخصوصية الثقافية والمعرفية لأيِّ جماعةٍ لها هويتها الخاصة والمميزة لها محل تهديدٍ وتدخّلٍ سافر من قِبَل مسطرةٍ طويلةٍ من الضغوط والتحديات المتواصلة، يمكن تقسيمها ما بين انفتاح ثقافي ومعرفي بلا أي قيد أو شرط، وبين إكراه وإجبار اقتصادي واقعي قسري. وإن كان الإكراه والإجبارالاقتصادي قديماً بقدم التسليم بواقع العولمة ونظامها وقوانينها واستحقاقاتها، واستطالاتها، فإنَّ القسر والإجبار والإكراه الثقافي وملحقاته، ازداد امتداداً واتساعاً، فإلى جانب ذراع العولمة الطويل فيه، هناك ذراع آخر كالترفيهِ والاتصال، وذراع آخر جزء منه منظور، والجزء الآخر غير منظور يقف من ورائه ،هو الثورات الحقوقية التي انتشرت في زمنٍ متوافق مع مجمل الضغوط في كل اتجاه باسم التنوع الثقافي والمعرفي ، والعرف الاجتماعي، وحقوق الأقليات (الإثنيات) التي تتمع بهويتها الفرعية الخاصة بها .
أنّ البحث الجاد حول (الأنا) و(الآخر) وشعار (النحن) و(الهم) يأتي بعد رفع شعار التنوع اليوم الذي أخذ في الامتداد والاتساع على مساحاتٍ واسعة على حساب الخصوصية وحدودها وأقانيمها، حتى أصبح الحديث عن أيِّ خصوصية لــ (الأنا) مرادفا لإقصاء وتهميش الآخر(الهم)، وهنا نلاحظ بدقة متناهية المفارقة التي بدأت بالدفاع عن الثقافة الإنسانية وغناها، وتعدّد أبعادها واستطالاتها، وما لها من استحقاقات. وانتهت في محاولة تجاوز هذا التعدّد إلى واحدية عالمية كونية لا يعنينا هنا كثيراً الدوافع لظهورها بقدر ما سنعمل على الكشف عن صعوبة وخطورة المبالغة في الدفاع عن الثقافة والتنوع الثقافي الذي يأتي على حساب الحق في الخصوصية والتميز الهوياتي في المقابل.
لقد دخل الإنسان برعاية وحماية قيم الأنوار والحداثة في حقبةٍ تاريخيةٍ جديدة لها ميزاتها الخاصة، بطلها الإنسان العاقل الذي تمَّ رفعه وتتويجه على عرش عالمه ووجوده الخاص. فمنح بذلك صنوفا شتى من الحقوق والحريات، لتتوالى بعد ذلك على الرغم من سقطاته القانونية والحقوقية فتوحاته الفكرية والثقافية التي كانت باستمرار تحاول الإمساك بكل إرادتها بحريّة الإنسان وسعادته .ورغد عيشه، ومنحه إياها ببساطةٍ على طبقٍ من ذَهَب تم سبكه وصياغته وفق قيم عالمية (كونية) و(إنسانية) خالصة ،يُنظر إليها كضامن منطقي وواقعي لتحقق العدل والمساواة الذي كان وما يزال هذا الإنسان يتوق له على الدوام. ووفق هذا المنظور وهذا التطور الحضاري الذي ذهبت في طريقه الإنسانية ،فإنَّه واقعاً موضوعياً .ونظراً من قبيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسانالذي يعتبر وثيقة تاريخية هامة في تاريخ حقوق الإنسان—، ونظام العولمة الساعي لاندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة ، وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق، واليوم العالمي للتنوع الثقافي والمعرفي للحوار والتنمية البشرية، وإعلان اليونيسكو العالمي للتنوع الثقافي، إضافةً إلى الكثير من القوانين والتشريعات الناظمة المحلية والإقليمية والدولية التي تظهر هنا وهناك في العالم ،والتي تريد التأكيد بقوة على قيم التنوع الثقافي والفكري والمعرفي، وشعارات ومفاهيم مجاورة من قبيل الثقافة العالمية ،والديمقراطية، والإنسانية، وضد التهميش والإقصاء، ومع حق الاختلاف والتنوع، وضد العنصرية،ومع المساواة، وحقوق الأقليات (الإثنيات) أصحاب الهويات الفرعية. منظومة التفكير هذه ،وهذا الخطاب الضاج ،أو الواقع كلَّه يصبّ في اتجاه تكريس التنوع ولكن ما هو حقيقي هو أن هذا التأكيد على التنوع الثقافي والمعرفي والفكري والإنساني في طريقه لإلغاء إي محاولة للتهميش وإقصاء الفعل الثقافي باعتبارها إقصائياً وتهميشاً للآخر المختلف وتجاوزاً له، في حين قد يكون هذا الإرتكاس والنكوص محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثقافةٍ لها خصوصية ما في طريقها للإنزواء ولاختفاء والتلاشي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى