قراءة نقدية في على سجادة من الغيم لـ(سامي الكيلاني)

رائد محمد الحواري | فلسطين

العربي مسكون بالماضي، أو يسكنه الماضي، حتى لو كان هذا الماضي مؤلماً وقاسياً، وأعتقد أن هذا الميل ناتج عن سوء الحاضر وسواد المستقبل، فبه يراد/يريد الإشارة إلى أننا/ي، قدمت وفعلت وعملت، فلا تحملوننا/ي أكثر مما تحملت/نا. ينطبق هذا على العمل الأدبي الجديد للكاتب سامي الكيلاني “على سجادة من غيم” الصادر عن مكتبة كل شيء في حيفا، وهو العمل الثاني في هذا اللون الأدبي بعد مبكر هذا يا فتى (دار الفاروق، نابلس، 2004). إذن نحن أمام كتاب فيه شيء من الماضي، من التاريخ المتعلق بالكاتب، فهو يقدم لنا ماضيه/ذكرياته/المؤثرات عليه وفيه من خلال نصٍ أدبيٍ، وهنا تكون الفائدة مزدوجة، فائدة معلومات ومعرفة أحداث، وفائدة أدبية ناتجة عن المتعة والصياغة الأدبية. واللافت أن الكاتب يستخدم أكثر من صيغة خطاب/سرد، منها السارد (الغائب) الخارجي، وأنت المتلقي/القارئ، ومنها أنا المتكلم/السارد، ومنها أنت الفاعل (تداعي ضمير المخاطب)، وذلك من خلال مجموعة من “النصوص المفتوحة” التي يعرفها الكاتب بأنها “لون أدبي يحوّم على الحدود بين القصة القصيرة والقصيدة والخاطرة” (ص 2). وقد جاء الكتاب في خمسة أقسام، يتناول الكاتب في كل قسم منها مسألة/ناحية بعينها.


يتعلق القسم الأول “بحيرة واسعة وجمرة لا تنطفئ” بفكر “سامي الكيلاني” عن الحياة/الأشياء، فمثلاً في “أنت وبرعم الصبار وذلك الهازئ المرتدي سيماء الوقار” والتي جاءت بصيغة السارد الغائب/الخارجي” يتحدث عن الصبار الذي يقوم بدور الحامي/الحارس لمزروعات الأرض: “..لا بد من جدار آخر يحرس الخيرات في العمارة، سرب شجرات الصبار يقوم بالمهمة، تزرع الألواح في حضن السنسلة، تنمو الشجيرات، تتكاثف الشجيرات، تتشابك الألواح، تنغلق مع الأيام الفرج التي يتسلل منها المتسللون…تتصدى له أشواك الصبار” (ص 10و11)، الجميل في هذا المقطع أنه يقدم اسم الأرض المزروعة حديثا عند الفلاحين “العمارة” ويستخدم لفظ الفلاحين عن السور (السنسلة)، فهو يقدمنا من الارض ومسمياتها، وكلنا يعلم أن القراءة تؤثر في القارئ/المتلقي، من هنا، يمكننا القول أن هذه دعوة غير مباشرة من الكاتب للقارئ ليرى من الأرض من جديد. فعلى الرغم من أن الحديث يدور عن الصبار ودوره الفعلي في حماية الأرض والمزروعات، إلا أنه يأخذنا إلى أبعد من هذا، فهو رمز لحماية الأرض، واعتقد أن ألفاظ “تنمو، تتكاثف، تتشابك، تغلق” جاءت لتخدم الحالتين، الواقعية والرمزية، وأنها لم تأتِ من حالة وعي الكاتب فحسب، بل من خلال العقل الباطن، لهذا اعطانا التفاصيل الدقيقة عن نمو الصبار والحالة التي يكون عليها.
وفي “الجمرة والشآم والغيمة” يستخدم تداعي ضمير المخاطب، ويتحدث عن الشام وأدباء الشام محمد الماغوط وزكريا تامر وأدبهم، وعن واقع الكاتب في فلسطين وكيف أن (الأصدقاء) ينفضون عنه عند الأزمات والمحن، فيبقى وحيدا: “…فتحي الذي جاء ليدرّس الموضوع الذي كنت تدرسه، توظف مكانك بعد اعتقالك، خاف أن يقول لأحد أنه يعرفك، …وابن العم الذي ذهبت لتدعوه احتفالا بزيارته القرية من الغربة، حاول التملص بأدب وشكر…وذلك الزميل الذي كان في رسالته من خلف المحيط يذكرك بأيام الجامعة الجميلة والصداقة ويتمنى العودة لتلتقيا في الوطن، عاد وعمل سنتين في الوطن ولم يصلك أو يتصل بك في إقامتك الجبرية” (ص )15، فهذه الذكريات المؤلمة يحاول الكاتب بها أن يزيل وجع الماضي الذي عاشه، وفي ذات الوقت يريد أن يؤنب هؤلاء الأصدقاء بعد أن (فرجت) الأحوال، وأصبح القول مباح ومتاح، وأيضا أراد بها أن يقول بأنه ضمن هذا (الحصار) لم يكن بالإمكان فعل أكثر مما فعل، مع المحافظة على الصمود والبقاء على المبادئ والثوابت.
وفي “متحف أكبر من متحف مدام توسو” يتحدث عن طفولته وظروف العيش القاسية التي مر بها الكاتب وأسرته: “…تخشون أن يسمع صوت “ماكنة الدخان” في هدوء الليل، آلة فرم التبغ اليدوية التي كنتم تعتاشون من عمل الوالد عليها، تطاردكم الجمارك، كما تطارد كل السلطات المطلوبين” ص17و18. ورغم مرور الزمن على جرح أيلول، إلا أنه هذا الجرح كان قاسياً موجعاً على الكاتب، فيقدمه لنا بطريقة رائعة وجميلة، رغم الألم: “أم محمود التي كانت بوجهها المليء بحنان الأم صباحاً تحمل إبريق القهوة وتمازحكم: “قوموا على الكتّاب يا أولاد” تلك الفلسطينية حتى العظم بشوفينية غير ممجوجة ولا ضارة، تتذكر قصتها بعد الأيام الأيلولية البغيضة، كان لها ديك، تصارع يوما مع ديك الجارة البدوية، فاستقوى عليه ديك البدوية، لم ترض بالهزيمة، حبست الديك، أحضرت له علفاً صناعياً، غذته وأطلقته بعد أن تعافى، وحين عاد منتصراً زغردت، …كان عرساً في بيت الصفدية على سفح جبل الويبدة” (ص20)، الجميل في هذا التقديم أنه بصورة أدبية ممتعة وهزلية، وكأن الكتاب بهذا الشكل وهذا التقديم يحاول أن يمحو تلك القسوة ومرارة تلك الأيام المؤلمة. وهنا يكمن دور الأديب، تقديم مادة معرفية تاريخية بصورة ناعمة وهادئة، فالهدف ليس إثارة المتلقي بقدر إيصال الفكرة وإحداث المتعة، وهذا يؤكد على أن الأدب يمكن أن يحمل كل الأفكار، ويمكنه تقديم الفكر بأي شكل أدبي، حتى من خلال النثر/النصوص.
الغناء والموسيقى والفنانين كلهم حضروا في “على سجادة من غيم” وأكثر من مرة، في “الاحتفال بهمزة الوصل بالمحبوب” يتحدث عن فرقة الطريق العراقية، وعن زياد رحباني وجوزيف صقر، وأحمد عساف:
“من فقد عينيه …. لا يمكنه أن يقاوم…يمكنه أن ينظر نظر حاقد، لكن يمكنه أن يصرخ صرخة غاضب” (ص25)، فالكاتب ينقل لنا كلمات الأغنية كاملة، وكأنه بها، يريدنا أن نتقدم من جديد، متجاوزين واقعنا البائس.
ويحدثنا في “اكتمال” عن أم “سعيد العتبة” وعن “سعيد” الذي أمضى في سجون الاحتلال أكثر من ثلاثين عاما: “…لم تسلمي للناعق الأعمى رقاب الأمل، ولم تتركي خيوطه تحاصر شمسك الأنيسة، ولم تبتلعك شرنقة السواد، لم تمارس عليك الشموس كسوفها، لم تكن لمسة السحر هذه حلم محموم ببرد المنافي، لم تسجلي في قائمة الحضور ولم تظهري في عدد الصباح، لكن جلية الوصف كنت في خاطرة الشروق عندي، وكنت الضوء من كوة الجب السحيق، وكنت قنديل السقف في مكعب الاسمنت، وكنت أنتِ أنتِ التي تشرقين من صدر الجدار حين يشتد لؤما لؤم الحصار. هاتي يديك الندية داعبي شعراً تساقط، اسحبي رويداً رويداً يهجم الموج نحوي” (ص32و33)، اجزم أن هذا المقطع فيه من اللغة والعاطفة والنعومة ما يجعله يتجاوز الألم، وكأن العقل الباطن للكاتب يجعله كلما أراد التحدث عن ألم لا يحتمل يستخدم لغة تطفئ نار القسوة وتشفي حرقة الوجع. من هنا تأتي جمالية الأدب، فمهما كان الشكل أو النوع الأدبي، إلاّ أن الكاتب المتمكن يستطيع أن يمتع القارئ، ويجعله يهيم مع النص، متجاوزاً الأحداث والأفكار القاسية، فهي تمر وتصل بأقل الأضرار النفسية على القارئ.
القسم الثاني: “دوزنات الروح لذات لا تستريح” زاخر بالسيرة الذاتية وبالمقاطع الشعرية، جاء في “بيانات على جدران الذات”:
“جمرتي يا جمرتي
فيك نار الحياة تتقد
ومنك توهج الأمل
قابضاً جمرتي في زمن غريب عجيب
وأمشي واثقاً
رافعاً هامتي
كامل الهندام أمضي مردداً
“جمرتي يا جمري، تأكلين كفي” (ص59)، فالحرقة حاضرة في “جمرتي” التي تتكرر أكثر من مرة، والكاتب يؤكد على أن هذه الحرقة هي (الحياة) التي عاشها ويعيشها. وفي “تمرين في كتابة السيرة الذاتية لمدرس جامعي” يتوافق العنوان مع المضمون، لكنه الكاتب يبين فيها أهمية ودور المدرس الجامعي، الذي يتجاوز التقليد ويُوجد أشكالاً جديدة في أساليب التدريس متجاوزاً المدرسين التقليديين، وفي بقية هذا اقسم يتحدث عن تجربته كمدرس في الجامعة.
القسم الثالث “عن ظباء العمر وعنكبوت الحنين” أقرب إلى أدب الرحلات، فيحدثنا عن مجموعة من المدن والبلاد التي زارها، فيحدثنا في “عن ال “سويتشير” الذي يستحق عمادة السلك ال”شيرتي” عن أيام الدراسة في جامعة “ليدز في شمال إنجلترا” وكيف أنه فضّل أن يشتري لأولاده هدية على أن يشتري لنفسه تي شريت وكتاب مذكرات نلسون مانديلا، لكن زملاءه يقدمون له ما كان يرغب في شرائه: “…الحقيقة هديتان، هديتان بخلت على نفسك أن تشتري أياً منهما توفيراً لمن هم أحق منك في ما سيدفع ثمناً، كانت الأولى كتاب مذكرات مانديلا والثانية بلوزة جامعة ليدز الزرقاء اللون وشعار الجامعة بالأبيض على الزاوية اليسرى العليا فوق القلب” (ص109)، وبما أن الحديث دور عن الفلسطيني والسفر، فلا بد أن يكون هناك (غصة) مؤلمة، فهو متهم بالإرهاب، كما أنه بحاجة إلى جواز سفر، في “الرياضيات تضرب موعدا مع دميتين” يقول: “…تتمنى أن تذهب لتفقد الدميتين، ولكنك تكره تقديم طلبات تأشيرة للقنصليات الأجنبية، عملية متعبة وفيها شيء من الإذلال عندما تشعر أنك موضع شكهم كونك فلسطينيا” (ص124)، فالكاتب يختزل هنا معاناة الفلسطيني في السفر والتنقل.
في القسم الرابع “لا نحب المراثي.. ولكن بياضها يهدهد أحزاننا” يتحدث عن رحيل مانديلا وأحمد فؤاد نجم، وعلي الخليلي، وشقيقه الشهيد وشهداء آخرين، ومعلم راحل. في هذا القسم تحضر الزراعة والقرية وطبيعة الريف الفلسطيني، والمقاومة في فلسطين، يقول في “فراشة الغروب”:
“ينقر عصفور الموت على نافذة المعلم
ينتفض العمر وما فيه من زيت العود ومن قمح الخابية
تتداعى اللحيظات
في غرفة الصف حانية على مهج التلاميذ
تتداعى لحيظات لحيظات
تعلن أن لا مفر وأن العمر يجري وراء البوصلة الأخيرة في نبض العروق” (ص159)، فالطبيعة الريفية حاضرة: “عصفور، زيت، العود، القمح، الخابية” والواقع أيضا موجود “موت، المعلم، غرفة، الصف، التلاميذ” وإذا ما توقفنا عند لغة الكاتب، نجده كلما اشتدت عليه الأحداث يميل إلى استخدام لغة ناعمة، أو إلى شكل أدبي جديد، يحاول به أن يخفف/يزيل شيء من قسوة الأحداث على المتلقي.
القسم الخامس “من حنجرة البئر” يتحدث عن ثمار الأرض كما هو الحال في “عن الفرفحينا والفستق وأشياء أخرى”، ويأخذنا إلى أيام قديمة عندما كان يأتي بائع الفرفحينا ويقف أمام بيت المرأة التي (تجبر) عنه عندما لا يكون هناك مشترون، لكن في إحدى المرات يقف منادياً “يلا يا فرفينحا” ولكن السيدة “جميلة” لم تخرج، وخرج عليه زوجها ليقول له: “جميلة مش هينا، يلا يا فرفحينا” (ص167)، والجميل في هذا القسم وجود مجموعة من الأحداث التي جاءت على شكل قصص وحكايات، كما هو الحال في “دجاجة نافقة في بحرك سيدي” والتي تتحدث عن الصوفيين، وكيف أنهم كانوا مثلاً للتقوى وأصحاب كرامات، القصة تتحدث أن هناك امرأة أرادت أن تؤكد على (دجل) الشيخ “نصر الله” الصوفي من خلال إطعامه دجاجة ميته بعد طبخها، لكن بعد أن يأكل الدجاجة، يطلب من المرأة أن تنظف له أسنانه، وعندما يفتح فمه يكون هذا الأمر: “وما أن تقدمت لتخرج بقية اللحم حتى ارتدت مذعورة ترتعد، وكادت تقع على ظهرها من هول ما رأت، كان فم سيدي يفضي إلى محيط متلاطم الأمواج على سطح مائه جيفة دجاجة تعلو وتهبط مع الأمواج، كادت تقع لولا أن أسندها سيدي مسامحاً “هل تعتقدين أن دجاجتك الميتة ستنجس طهر هذا المحيط يا مسكينة، اذهبي، لا أدعو لك بغير الصلاح والهداية” (176).
وإذا ما توقفنا عند عناوين الأقسام سنجدها تحمل التناقض، فالقسم الأول “بحيرة واسعة وجمرة لا تنطفئ” نجد التناقض بين البحيرة/الماء وبين الجمرة/الحارقة، والقسم الثاني “دوزنات الروح لذات لا تستريح” نجد التناقض بين “دوزنات وبين لا تستريح”، وفي القسم الثالث نجد التناقض بين “ظباء وبين العنكبوت”، فالأولى رمز لجمال الطبيعة والثانية رمز للخراب والشؤم، وفي القسم الرابع، نجد التناقض مركب ومزدوج بين “لا نحب المراثي” وهل المراثي/الأحزان تحب؟ ونجد تناقض في بياضها يهدهد أحزاننا” فالمراثي بيضاء!!، ولا تحب!!، وبياضها أي المراثي يهدهد أحزاننا!!، أما القسم الخامس “من حنجرة البئر”، فهو عنوان إشكالي، وأعتقد أن الكاتب أراد به المثل الذي يقول “حط في البئر” فأخرج لنا ما وضعنا من (مصائب/مشاكل/هموم) في البئر. أما عنوان الكتاب فهو عنوان يحمل الثبات/الواقع/ الأرض/”سجادة”، ويحمل الخيال/الحلم/السماء “الغيمة”، وهذا ما يجعل الكتاب يأخذ صفة الواقع الأرضي وخيال الفضاء الأدبي، من هنا نقول أن عنوان الكتاب وعناوين الأقسام كانت موفقة وتخدم فكرة الكتاب، والشكل الذي قدمت به الأقسام والأبواب.
الكتاب من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى