معايشة المهمشين في رواية (شتاء فرانكفورت) للكاتب جمال فايز

علي جبار عطية

من الدوحة ذات الشتاء الذي يكاد يفقد ملامحه إلى مدينة فرانكفورت التي يتجسد فيها فصل البرد بأبهى مظاهره حيث الثلج، والصقيع، والضعف البشري إزاء الطبيعة، والنضال من أجل الدفء البشري تنقلك هذه الرواية التي تصلك من خلالها هذه الحكمة: (الإنسان لا يتطور بالراحة، فالتجربة والمعاناة والمحاولة هي التي تطور روحه).. حكمة قالها الفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط (١٧٢٤م ـ ١٨٠٤م) الذي يُعد أبرز الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوربية الحديثة فضلاً عن العالمية.


عبر الأدباء والفنانون عن هذه الموضوعة في عدة أعمال أدبية وفنية، وإنْ اختلفت أشكال التعبير، وتنوعت الطرق لكنها تكاد تكون حقيقة واضحة للعيان.
في رواية (شتاء فرانكفورت) تجد بعض ملامح هذه الثيمة لكاتبٍ غير متكلف هو الكاتب القطري جمال فايز الذي يمتاز بانسيابية جمله، ووضوح أفكاره، وسبره لأغوار الشخصية، وفهمه لتحولاتها، ودعوته إلى قبول الآخر كما هو فلا توجد عنده شخصية مثالية فضلاً عن نظرته الإنسانية الشاملة، فلا توجد شخصية شريرة أو خيّرة مئة بالمئة، أو ذات بعد واحد، بل يمكن أن يتغير سلوك الشخصية حسب الظروف والأحوال، وهو توجه موضوعي واقعي يُحسب له.


هذه العوامل جعل أعماله القصصية تترجم إلى اللغات الإنجليزية والسويدية والروسية والفرنسية كما له قصص أُدرجت ضمن المنهج المدرسي للغة العربية في قطر في المرحلتين الإعدادية والثانوية.
يجد القارىء الأسلوب والمضامين التي ذكرتها في روايته (زبد الطين)/٢٠١٣، وكذلك في مجموعاته القصصية (سارة والجراد)/١٩٩١،و (الرقص على حافة الجرح) /١٩٩٧، و(الرحيل والميلاد)/ ٢٠٠٣، و(عندما يبتسم الحزن)/٢٠٠٨، و(عناقيد البشر) / ٢٠١٦م.


يواصل الكاتب المنحى نفسه في روايته الجديدة (شتاء فرانكفورت) بصفحاتها الـ ١٥٠ من القطع المتوسط، وقد صدرت عن دار (خطوط وظلال للنشر و التوزيع) في الأردن/٢٠٢١م.
ويمكن للقارىء أن يقرأ هذه الرواية في جلسةٍ واحدةٍ فيتعرف إلى الوجه الآخر لمدينة فرانكفورت الألمانية التي تصل درجات الحرارة فيها إلى دون الصفر المئوي في شهر كانون الثاني.
وحسب موسوعة الويكيبيديا فإنَّ مدينة  فرانكفورت تبعد عن الدوحة ٤٥٩٢ كيلومتراً وهي تقع في وسط غرب ألمانيا على ضفاف نهر الماين في ولاية هسن وتعد العاصمة الاقتصادية لألمانيا بسبب وجود مقار العديد من الشركات والبنوك وبورصة فرانكفورت ومقر البنك المركزي الأوروبي فضلاً عن المعارض الكثيرة التي تقام فيها سنوياً. يبلغ عدد سكانها ٧٦٤١٠٤ نسمة  حسب إحصاءات عام ٢٠٢١م.
بطل الرواية أو ضحيتها هو الطالب الجامعي أحمد ذو الواحد والعشرين عاماً الذي يروم السياحة لأربعة أيام في الأجواء الشتوية الباردة في مدينة فرانكفورت، فإذا به يقع ضحية تسليب من عصابة هاوية من الفتيان تتكون من شخصيات متنمرة (آيدن، وتايلر، و دانيال) فيفقد كل ما بحوزته من مستمسكات رسمية، وجواز سفر، ونقود، وملابس .
يروي الكاتب هذه الحكاية من دون تعقيدٍ وبسلاسةٍ، وبزمنٍ قصيرٍ، ومكانٍ محدودٍ وبأكثر من راو، وهي حكاية واقعية محتملة الوقوع بالنسبة لكل مسافر، قليل الخبرة بالناس.
وهو لا يكتفي بمعايشته حياة المسحوقين والمشردين، والمهمشين، والتعبير عنهم بل يعرض معاناة الكائنات الأخرى فتجد الكلب (أدريان) هو الراوي في بعض الأحيان، وهو أسلوب لطيف تكون الكناية، والاستعارة، والتشبيه، و التلميح فيه أبلغ من التصريح !
لذا تصيب أحمد الدهشة، وهو يرى صديقه المتشرد (أوليفر) يرفض السكن في غرفةٍ أنيقةٍ في الفندق؛ لأنَّ إدارة الفندق ترفض اصطحاب الكلاب إلى الداخل مع العلم أنَّ حلم (أوليفر) هو النوم  على فراش نظيف ولو لليلةٍ واحدةٍ !
يقول أحمد: (كانت أوقاتاً رائعةً، وأحاسيس جميلة، أحاطني بها أوليفر، كم أنتَ رائع!! تنازلتَ عن حلمك.. يا لحظك أدريان، دائماً الحياة أجمل مع الآخرين، اللحظات الجميلة لا يمكن تعويضها.. وحدها فقط الأوقات الرائعة تصبح أفضل مع الآخرين الرائعين) ص ٦٣
يكون أوليفر هو النافذة التي يُطل من خلالها أحمد على الحياة في فرانكفورت.
يصف أوليفر مدينة فرانكفورت بالقول: (فرانكفورت مدينة وادعة، مدينة خلاف ما حصل لك، تتسم بالأمن، وهي مثل بقية مدن العالم لا تخلو من النشالين، لكن في العموم هي آمنة كما قلت لك، وأناسها طيبون، ويرحبون بالسياح) ص٤٤
لم يكتفِ الكاتب بتتبع حكاية الضحية أحمد، بل يولي أهميةً لتفاصيل حياة الفتية المتنمرين، ويلتمس لهم الأعذار كذلك يتتبع حياة عازفة الناي ديلما، وأسلوب حياة المتشرد أوليفر الذي يجد قوت يومه باستعراض الحركات مع كلبه في ساحة عامة أمام أنظار المارة ليحصل على المال، وهي طريقة حضارية للتسول !
ويمضي معه، وهو يدلف إلى مطعم يحتفظ بالفائض من الأطعمة ليعيد ترتيبها وتقديمها للراغبين مجاناً.


تظل عقدة الرواية مستمرة حتى نهايتها بصحوة ضمير من آيدن الذي يقرر إعادة المسروقات إلى صاحبها الذي يعود إلى بلده وهو محمل بتجربة مثيرة مفيدة كأنَّه شرب من ماء العالم الألماني ألبرت أينشتاين حين قال: (في المدرسة يعلمونك الدرس ثمَّ يختبرونك، أما الحياة فتختبرك ثم تعلمك الدرس)!
(شتاء فرانكفورت) رواية للكاتب جمال فايز، عدد الصفحات ١٥٠ من القطع المتوسط، دار (خطوط وظلال للنشر  والتوزيع)/ الأردن/٢٠٢١م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى