طلب متأخر لرأي استشاري من محكمة العدل الدولية!

المحامي إبراهيم شعبان |فلسطين
أخيراً، وبعد خمسة وخمسين عاما من الإحتلال العسكري الإسرائيلي المتواصل للأراضي الفلسطينية (القدس والضفة الغربية وقطاع غزة)، قامت اللجنة الرابعة من الجمعية العامة للأمم المتحدة المختصة المتعلقة بالمسائل السياسية الخاصة وإنهاء الإستعمار، وفقا للمادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة (الجهة التي تطلب الفتوى)أن تطلب من محكمة العدل الدولية عملا بالمادة 65 من نظامها الأساسي (صلاحية المحكمة في الفتوى) أن تصدر فتوى بشأن المسألتين التاليتين أولاهما تتعلق بماهية الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وعن استيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية لتغيير التكوين الديموغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعهاوعن اعتمادها تشريعات ووتدابير تمييزية في هذا الشأن. أما المسالة الثانية، فهي المتعلقة ببيان كيفية تأثير السياسات الإسرائيلية وممارساتها على الوضع القانوني للإحتلال، وماهية الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة. وكم كان بودي لو اثير المركز القانوني للمسجد الأقصى كسؤال مستقل أو مرافق للفتوى.
ولم تنس اللجنة الرابعة أن تشير إلى الدوافع والأسباب التي دفعتها لطلب الفتوى، من انتهاكات كثيرة لحقوق الشعب الفلسطينية العديدة من حقوق سياسية واقتصادية ومدنية واجتماعية وثقافية من قتل واعتقال ونقل ونهب وهدم وظرف معيشي وإغلاق وترحيل وإبعاد وعنف وتمييز. وقد شملت معظم الإنتهاكات الإسرائيلية قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان (إعلان عالمي ومواثيق دولية)، والقانون الدولي الإنساني (اتفاقيات لاهاي وجنيف وبروتوكولاتها)، والأعراف الدولية، وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة، والرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن الجدار عام 2004 وتقارير الأمين العام للأمم المتحدة وموفدي الجمعية ومجلس حقوق الإنسان واللجنة الخاصة بحقوق الشعب الفلسطيني.
وللأسف الشديد لم يؤيد هذا القرار الأممي باللجنة الرابعة الذي ينتظر موافقة الجمعية العامة حتى يصبح نافذا أي أن ما زال مشروع قرار، سوى 98 دولة وامتنعت عن تأييده 52 دولة وعارضته 17 دولة . وهو عدد قليل بالقياس مع قرارات كثيرة تؤيد الحقوق الفلسطينية في الجمعية العامة. والغريب أكثر، أن دولا مثل ألمانيا وأستراليا وإيطاليا، كانت من ضمن الدول التي عارضت هذا القرار، وليتها امتنعت ولم تعارض. فهذه المعارضة، تذكرنا أن استراليا سحبت قرارها بالإعتراف بالقدس الغربية كعاصمة لإسرائيل قبل حوالي الشهر، وقدمت مذكرة مناصرة للموقف الإسرائيلي في قضية الجدار، مواقف متناقضة كان يفترض العمل عليها. ونفس الشيء ينطبق على ألمانيا اتي بدت معتمدة للمعارضة ، على تمويلها للأونروا والسلطة لحجبها تأييد هذا القرار الشكلي لتبنيه، مؤثرة العلاقات الإستعمارية مع إسرائيل على الموقف القانوني المبدئي. أما إيطاليا فالحكومة اليمينية الجديدة حادت عن موقفها الصحيح.
للتنويه، يجب أن نذكر هنا أن المطلوب من محكمة العدل الدولية القابعة في لاهاي والمؤلفة من خمسة عشر قاضيا تمثل حضارات دول العالم المختلفة، إبداء رأيا إستشاريا وليس إلزاميا ( كما تم في موضوع الجدار عام 2004) في الموضوعين العريضين الواسعين المتعلقين بحقوق الشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير المصير، وانتهاكهما من قبل إسرائيل. وبيان الآثار المترتبة على ذلك من قبل كثير من الدول والإجراءات والخطوات التي يجب القيام بها تجاه الإحتلال الإسرائيلي العسكري طويل الأجل وحقوق الشعب الفلسطيني الخاصة والعامة. وكأن هذه الدول تجهل التزاماتها!
طبيعة الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية أنه غير ملزم وله قوة أدبية أي معنوية ليس إلا. ويفتقد القوة التنفيذية وهذا أمر يشكل مشكلة في قرارات محكمة العدل الدولية الملزمة وتنفيذها. فكثير من الدول رفضت قرارات المحكمة كما حصل مع أمريكا حينما رفضت عام 1986 حكم المحكمة في نزاعها مع نيكلااغوا. ولا أدل على ذلك ما آلت إليه الأمور بعد الرأي الإفتائي في موضوع الجدار لسنة 2004. حتى لو كان قرارا قضائيا ملزما فالشك قائم أن دولة الإحتلال ستنفذ قرار المحكمة القضائي. فهي لم تنفذ قرارات مجلس الأمن العديدة، ولا قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، الكثيرة، ولا قرارات مجلس حقوق الإنسان أو اليونسكو، ولا تقارير اللجان الخاصة بفلسطين فهي لم تغير شيئا من الناحية العملية الإسرائيلية. بل تقوم سلطات الإحتلال بمنع زيارة اي مسؤول أممي للأراضي المحتلة، حتى أنها تجرأت على بعض المسئولين الغربيين وقيدت سفرهم إلى الأراضي المحتلة سواء قطاع غزة أم الضفة الغربية. فهل بعد ذلك كله نرجو خيرا عمليا على أرض فلسطين من رأي استشاري لمحكمة عدل دولية نجلّها ونحترمها.
ويمكن القول أن التعويل على محكمة العدل العليا الإسرائيلية وقضاتها التي بعضهم مستوطنون، ويسكنون المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية، أمر فارغ وهراء، فلم تقبل تلك المحكمة الإسرائيلية التي تصف نفسها بأنها عليا، برأي محكمة العدل الدولية ورفضته وداسته باقدامها وأقدام جنودها، وحاولت إيجاد الأسانيد القانونية لرفضه جملة وتفصيلا.
ناهيك عن التمييز وعدم الخلط بين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية في اختصاصهما الموضوعي، فالأولى مختصة بمحاكمة أشخاص مجرمي الحرب وضد الإنسانية والإبادة والعدوان الأفراد وقد أنشئت بموجب ميثاق روما لعم 1998، أما الثانية فتختص بالمنازعات بين الدول ذاتها والحدود والتعويضات، وقد أنشئت عام 1945 كجزء من ميثاق الأمم المتحدة، رغم أنهما قابعتان في العاصمة الهولندية لاهاي.
يجب التنويه هنا أن البعد القانوني رغم أنه أعدل الأبعاد إلا أنه بطيء وضعيف الآلية وجدلياته كثيرة ومعقدة، ولنا فيما جرى من خطوات أمام المحكمة الجنائية الدولية في الشكوى الفلسطينية خير مثال. ورحيل النائبة العامة فتيمة بن سودا وحلول كريم خان في العام الفائت جمد الموضوع الفلسطيني، رغم أن الموضوع الجنائي يفترض فيه السرعة والحسم. لكن السياسة تلعب دورا، حيث نذكر تهديد وزير خارجية ترامب مايك بومبيو لقضاة المحكمة الجنائية والنائبة العامة وأموالهم بل تهديد دولا أخرى متدخلة في هذا المجال.
من ناحية جدلية، دعونا نتسائل، هل تجهل الدول المجتمعة في الجمعية العامة للأمم المتحدة واجبها المناط بها للحفاظ على السلم والأمن الدوليين وحقوق الشعب الفلسطيني وعى رأسها حقه في تقرير مصيره. أليست على دراية بقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني، وهي التي خلقت كلاهما، فالدول هي التي تخلق قواعد القانون الدولي سواء في المواثيق المكتوبة أو في الأعراف المتواترة. ألا تعلم هذه الدول بالتزاماتها الدولية المترتبة على انتهاكات إسرائيل لحقوق الشعب الفلسطيني الخاصة والعامة ومنها حقه في تقرير المصير.
ليس هذا نفيا لدور محكمة العدل الدولية ورأيها الإستشاري وقيمته القانونية وأبعاده وآثاره الهامة، لكن التعويل على الرأي الإستشاري لوحده، وبناء المستقبل الفلسطيني على تداعيات قرار استشاري هو من قبيل ذر الرماد في العيون. القوة القانونية واحدة من عناصر القوة العديدة، ولا تؤمن حلا ناجعا، فيجب أن لا نتخلى عنها من أجل عيون القانون الدولي وآلياته، مهما قيل في محاسنها، فهي آليات بدون مخالب، وتبقى في إطار التوازنات الدولية، ومجدية في قطاع الثرثرة والتنظير الذي لا يقدم ولا يؤخر!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى