ينهبون الآثار في وضح النهار

 توفيق أبو شومر | فلسطين
ليس صدفةً أن أقرأ خبرا عن أبشع أنواع السرقات، سرقةِ الآثار التاريخية في اليمن، فقد نقلت وكالة سبأ للأنباء:
” أقام أحدهم حفلة عُرسٍ في المتحف الوطني بصنعاء، واستغلَّ اللصوصُ هذا الاحتفالَ وسرقوا رُقوقأ أثرية، يُقدَّرُ ثمنُ الواحدة منها بخمسة ملايين دولار”
ليست هذه هي السرقة الأولى، فقد سُرق متحف المُكلّلا ومتحف زنجبار، وسُرقت سيوفٌ أثرية ومنحوتات ورقوق من بلاد أكبر مخزن أثري في العالم(اليمن)، أمضى المستشرقون والباحثون سنواتٍ طويلة يُنَقِّبون عن آثار الأجناس البشرية في اليمن،وفي اليمن أكثر من مليون مخطوطة وقطعة أثرية، تحتوي على مخزونٍ هائل من التاريخ.
استعدْتُ ما جرى للعراق ومصر، فوجدتُ ارتباطا بين الأحداث السياسية، وبين نهب التاريخ العربي والعالمي من بلاد العرب، فوجدتُ أن هناك تماثلا، بين ما يجري من تفكيك للأنظمة العربية، وبين ما يجري من تفكيك للتاريخ العربي، وكأن المؤامرة لا تكتفي بتقسيم الدول العربية وإنهاكها، بل إنها ترمي أيضا إلى إفراغها من مخزونها التاريجي العريق.، وتحويلها من عقولٍ فكرية، إلى هياكل عظمية شعوبية!
ليس صدفةً أن تبدأ سرقات الآثار عند احتلال الجيش الأمريكي (الحضاري)! للعراق 2003، وليس بمحض الصدفة أيضا، أن يبني الجيشُ الأمريكي أكبرَ قواعده العسكرية، فوق أعرق الصروح الحضارية في العالم (بابل)، ليُدمِّر إحدى عجائب الدنيا السبع، وليس عفويا أن يضع الجيش الأمريكي ست عشرة قاعدةً عسكرية، فوق ست عشرة مقبرة أثرية تاريخية في العراق، وليس غريبا ألا تتدخل القوات الأمريكية، التي احتلت العراق لمنع نهب الآثار ، التي جرى نهبُها أمام عدسات الكاميرات، في بثٍّ حيٍّ ومباشر!
وليس صدفةً أيضا أن ترتبط ثورة 25 يناير 2011 في مصر بمسلسل طويل من نهب الآثار المصرية، أيضا أمام الكاميرات، فقد سُرِق المتحف المصري في ميدان التحرير، في الوقت نفسه الذي كان المنتفضون على النظام السابق، يرددون شعارات الديمقراطية والحرية، وتقوم في الوقتِ نفسه، عصابة (أبو عطية) المشهورة بنهب الآثار ونقلها بسيارات نقل ضخمة، من قرية الهيبا الأثرية وغيرها، ينهبون الآثار في وضح النهار!!
وإذا أضفنا إلى تلك الدول ما جري في فلسطين من تدميرٍ، فقد دُمِّرتْ في غزة مساحات أثرية كبيرة، وأقيمت عليها قصور لرجال السلطة والأحزاب، وجُرِّفت مساحات أثرية بما تحويه من آثار وطنية، بادعاء أنها تصلح مقراتٍ للمناضلين ومخازن للعتاد والسلاح.
وبقيَ كثيرٌ من الفلسطينيين يغمضون أعينهم عن الاكتشافات الأثرية، ويعتبرونها من سَقَطِ المتاع، تاركين المجال لعلماء الآثار الإسرائيليين، يكتشفون ويُرسخون وجودَهم التاريخي على أرضنا، في الكتب والمجلات ووسائل الإعلام.
وما يزال الدمارُ الأثريُ جاريا في سوريا ولبنان حتى كتابة هذا المقال،
إن ما يجري في دول العربان هو تدمير ما بقي من تاريخها في عقول أبنائها، ليعودوا إلى حالتهم الآولى قبائلَ رُحَّلا، يأكلون ما يجودُ به العالمُ عليهم، ويشربون مابقي من شراب.فهل للعربِ جينةٌ بشريةٌ تُحبُّ التخريب؟!! كما قال ابنُ خلدون:
“إن السبب في أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الفساد ،فهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خُلقا وجِبِلَّة، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن رتبة الحكم وعدم الانقياد للسياسة ، وهذه منافيه للعمران، والغاية عندهم الرحلة والتغلب، وهو مناقض للسكون الذي به العمران، فالحجر للأثافي، ينقلونه من المباني ويخربونها عليه، والخشب إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم ، فيخربون السُقُف عليه .فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران ” المقدمة ص 178-179 “؟!
أم أنهم يهدمون آثار الغابرين، حتى يطمسوا آثارَ مَن سبقهم رغبة منهم في البروز والاستعلاء، ليتمكنوا من بناء صروحهم الشخصية على أنقاضها؟!
” فقد هدم قاراقوش وكان وزيرا لصلاح الدين عددا من الأهرام الصغيرة، وبنى بحجارتها قلعة القاهرة وأسوار عكا والقناطر الخيرية، وقام الملك العزيز عثمان بن يوسف، وهو خليفة صلاح الدين بمحاولة لهدم الأهرام كلها عام 1193م فبدأ بالهرم الصغير، فأوفد إليه النقابين والحجارين، وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته، وأمرهم بهدمه ووكلهم بخرابه، فخيموا عندها، وحشروا عليها الرجال ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع الحجر والحجرين.فقومٌ من فوق يدفعونه بالأسافين والأمخال، وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوص والأشطان، فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة، حتى ترتجف الجبال، وتزلزل الأرض، ويغوص في الرمل، فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجونه، ثم يضربون فيه الأسافين، فيقطع، فتسحب كل قطعة على العجل حتى تلقى في ذيل الجبل إلى مسافة قريبة .فلما طال ثواؤهم، ونفدت نفقاتهم، وتضاعف نصبهم ، ووهت عزايمهم، وخارت قواهم، كفوا محسورين مذمومين، لم ينالوا بغية، ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوهوا الهرم سنة 593 هـ، ولو بُذل لهم ألف دينار ليردوا حجرا لعجزوا عن ذلك .
“الاقتباس من كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة بأرض مصر لعبد اللطيف البغدادي، وقد أهدى الكاتبُ كتابه هذا للخليفة العباسي الناصر لدين الله لإطلاعه على أحوال مصر، وهو الخليفة رقم 34 في زمن صلاح الدين ص 144”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى