كورونا بين الإنكار والاستهتار

أ.د. فيصل رضوان | أستاذ وباحث التكنولوجيا الحيوية والسموم البحرية – جامعة سوهاج مصر -والمعهد القومي للمحيطات بالولايات المتحدة الأمريكية

كبقية شعوب الأرض، فأن عموم الشعب المصري يعاني من أجل التكيف مع الحياة، والالتزام بالإجراءات خلال جائحة COVID-19.  ورغم تشديد الإجراءات، لكن هناك تحدى لتنفيذ التباعد الاجتماعي بشكل منتظم، وربما ازداد التفاعل الاجتماعي طوال ساعات النهار، مع وجود حظر للتجوال أغلب ساعات الليل حتى الصباح.  ويوم بعد يوم، ومع تواصل الإعلان عن تزايد الإصابة بالوباء، يزداد معه القلق والتوتر لدى قطاع كبير من الشعب ممن يلتزمون بالعزل بمنازلهم، من عواقب حالة الاستهتار لدى قطاع أكبر من الجمهور.

ونحن نواجه هذه المشكلة، يبغى علينا التريث قبل توجيه اللوم والاتهام، وننتهز هذه الفرصة لدراسة الأسباب وراء هذا الإنكار واللامبالاة للأمر الواقع، رغم وجود خطورة محدقة، كما تثبتها الأرقام المطردة لضحايا الوباء اللعين داخل البلاد، وفى كل أرجاء العالم.

هل هو الاعتقاد بأن العدوى ليست خطيرة وقد تمر بدون علاج؟ هل هو نتيجة لتفشى الأمية وغياب الإعلام الصحي المحترف؟ أم هو الاطمئنان الزائد لحد الانتحار؟ أم هو الإنكار وتبنى نظريات المؤامرة أم أسباب أخرى؟ هذا بعض وليس كل الأسئلة، ولعلنا في هذا المقال لا نهدف الى الإجابة عليها ، فقط نحاول أن نطرحها كما نطرح ملاحظات من المشهد، ولعلنا نجد بعض الأجوبة عند أهل الاختصاص.

ربما عُذرنا هو أن الجميع، لم يعاصر حدثًا مفاجئًا لوباء عالمي قاتل من قبل، وكانت آخرها جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 التي أودت بحياة أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم. كما أن وجود الإمكانات الصحية الان، والذي اختلف عن 100 سنة سبقت، أعطانا نوعا مبالغ فيه من الراحة. وفى ظل التقدم الطبي أصبح من الصعب علينا أن نتخيل أن مرضًا شبيهًا بالإنفلونزا يمكن أن يكون كارثي كما يحدث الآن.

رأينا منذ البداية انقسام مجتمعي بين مصدق و مكذب، جنبًا إلى جنب مع انتشار الكثير من الروايات الخاطئة حول خطورة COVID- 19.  وحتى يومنا هذا،  هناك الآراء المضادة التي تشير إلى أن الضرر الاقتصادي المرتبط بحجر الناس وتوقف العمل مدة طويلة قد يكون  “علاجًا أسوأ من المرض ذاته”.  وقد تبنت هذه الآراء أحزابا وجماعات ومنصات إعلامية شعبوية مؤثرة —  ربما الآن وبعد وقوع الضرر، قد تراجعت عن موقفها ولكن على استحياء، دونما قبول لمسؤولية أو اعتراف بخطأ، مما أفقد الموضوع الأهمية والمصداقية لدى قطاع كبير من المتابعين.

هناك ما يسمى بتحيز التفاؤل “optimism bias” ، وهو اتجاه عام لدينا جميعًا حيث نميل إلى التقليل من المخاطر الشخصية. وقد تم تعزيز التحيز في التفاؤل – خاصة عند نسبة كبيرة من الشباب والبالغين الأصحاء – ظنا أن الموضوع لا يعنيهم — حيث ساهمت البيانات المبكرة حول خطر الوفاة بسبب COVID-19 هو الأكثر بين كبار السن أو أولئك الذين يعانون من مشاكل مرضية سابقة.   ولعل التركيبة السكانية بمصر تعطى أهمية كبيرة للتعرف على خصائص رد الفعل الشبابي هذا، حيث أنه من‫ بين 100 مليون نسمة حسب جملة الإحصاء السكاني المعلن في فبراير 2020، بلغ عدد الشباب في مصر من الفئة العمرية من 18 عاماً حتى 29 عاماً نحو 20.2 مليون نسمة مما يعادل نسبة 21%، كما بلغت نسبة الفئة العمرية أقل من 15 سنة 34.2%، مقارنة بالفئة العمرية 65 سنة فأكثر والتي تمثل 3.9% فقط من إجمالي السكان.

هل نموت جوعاً أم مرضاً؟ هذا السؤال السوداوي، والذي يُطرح بقوة بين الغالبية الساحقة من الناس، وفى جميع أنحاء العالم.  ربما هو السؤال الصعب “الممتنع”، وإجابته على قدر اتساع مظلة الدعم المادي للطبقات الكادحة في ظل الظروف الطارئة، وخصوصا في أوطان غالبية سكانها باتت تحت خط الفقر.

مع انتشار فيروس كورونا في مصر، انطلقت بعض الشائعات المتعلقة بالمرض، كما انتشرت الوصفات الغريبة كل يوم، وآخرها لنائب برلماني سابق يصف العلاج في شراب “عصير البرسيم”.  هذه التصرفات جلبت نوع من السخرية، ممزوجا بالقلق والخوف في مشهد درامي ليس له شبيه. لقد استطاع وباء كورونا غلق دور العبادة وهي أكثر المقاصد قداسة على وجه الأرض، ومع ذلك، فإنه لم يستطع بعد أن يغلق أفواها موبوءة بالجهل، كلامها يُلوث الوعي الجمعي بما تبثه من جهل، يسهم في تفشى المرض القاتل.

الخرافات ليست فقط عند البسطاء من عوام الناس بل نجدها أيضًا عند بعض ممن ينتسبون إلى العلم، ممن أغرقهم التعصب الديني أو العرقي إلى توثيق الاعتقاد بأن العناية الإلهية ربما تشمل مله أو عقيدة أو جنس فقط. كما استغرقوا إلى الاطمئنان الأبله، والمبالغة في القول بتميز المصريين بمناعة خاصة ضد الأمراض والأوبئة. وفيروس كورونا، ذلك الذى سوف يلتهمونه كما يلتهمون المكرونة!  تفكير لا يختلف كثيرًا عن تفكير “كفتة عبدالعاطي الشهيرة.”

ومع كل معضلة، كما يقول الدكتور علي مصطفى مشرفة في كتابه “العلم والحياة”: “يجب أن نفكر بالعقلية العلمية، تلك العقلية التي تواجه الحقائق وتعني بالجوهر دون العَرَض، وتطلب اللُب لا القشور…”.

ولذا كانت، وما زالت العقلية العلمية صاحبة التفكير العلمي في صراع دائم مع العادات والتقاليد التي تحتوي على جهل في باطنها، تحاول أن تفندها وتصوّبها قدر المستطاع.

والتفكير العلمي كما يصيغه الدكتور زكريا فؤاد، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، في كتاب يحمل نفس العنوان هو: “ذلك النوع من التفكير المنظم الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا، وكل ما يشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظماً وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر”، ويضيف: “هذا التفكير هو الذي يجب أن يسود في أثناء انتشار الأوبئة والأمراض وليس التصرفات التي تعبر عن تفكير غير علمي”.

لقد أصبح من الضروري أن يقوم خبراء الاجتماع والتربية وعلوم النفس والسلوك بصنع خريطة متكاملة للمجتمع، يوضح فيها نقاط الضعف والقوة، لنفهم أسباب هذا التحدي الأرعن لقرارات الحظر، وحتى يسهل على الدولة ومؤسساتها إدارة هذه الأزمة إلى النهاية دون ملل أو تقصير.  فالخطر المتصاعد والمحتمل، يتطلب المزيد من التوعية والاستعداد والحزم، وتهيئة الناس عمليًا ونفسيًا بشكل صحيح لمواجهة كل الاحتمالات بشجاعة وعلم وثقة وأمل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى