ديوان “سفر البوعزيزي” للشاعر نصر سامي بين الواقع والرمز

              د. فطنة بن ضالي| المغرب

 

       يقع ديوان “سفر البوعزيزي” للشاعر الفنان التونسي نصر سامي في 192 صفحة ، وهو عبارة عن 38 قصيدة ، إضافة إلى ملاحظات ومدخل وسيرة ذاتية،طبعة دار ميارة، تونس 2018. وهو مهدى إلى روح محمد البوعزيزي مفجر الثورة التونسية وإلى والدي الشاعر. وانطلاقا من قول صاحب كتاب بناء النص الموازي في الشعر العربي  : “أن مقصدية المؤلف في رسالة الإهداء تتجه غالبا ولو بدرجات متفاوتة إلى تبرير المهدى إليه بعلاقة مناسبة تجمعه بالعمل المرفوع إليه… وقد يكون التبرير متصلا بإعلان التماثل بين الموضوع والمهدى إليه في أفق إسناد دور النموذج إلى شخصية هذا الأخير” صفحة 49. فإن العلاقة بين شخصية البوعزيزي  وبين الديوان تتجلى في كون روح البوعزيزي تحل في القصائد الإبداعية لقد  أصبح رمزا للثورة التونسية. يقول الشاعر في قصيدة “بوراق” على لسان البو عزيزي:

 كن  للياسمينة وهي تنبت وحدها وتهز غيمتها الطرية نحو شرفتها لتدفع في دمي أسرارها (…) . خدني بعيدا كي أرى شجري الذي كسروه ينبت مرة أخرى هنا .يسقيه دم الشهيد . (…) ولي رفاق لم يموتوا بعد يرونني ضوءا وأحسدهم على أضوائهم أنا في غد طير وأجنحة القصيد (…) رؤياي أكبر من حقيقتي البسيطة (…) مت حقا كي أرى صوتي يمهد الثورات للأحياء. ص 120-121-122. 

     يُعد ديوان سفر البوعزيزي تجربةً متأصلة في الأدب العربي المعاصر بصفة عامة، وفي الأدب المغاربي المعاصر بصفة خاصة، فهو يضم جملة نصوص هي على الإيقاع الخارجي والشكل متنوعة ؛ ما بين قصائد التفعيلة وقصائد مختلطة بين الأسطر والفقرات ، وقصائد نثر ، ترجع من حيث الزمن والحدث إلى ما قبل الثورة، وإلى إبانها، وإلى ما بعدها، وقد أعلن الشاعر عن ذلك في المدخل، إذ يستنطق الحدث الشعبي العميق؛ الذي هو الثورة التونسية؛ و مَثّل فعل البوعزيزي( حرق نفسه ) نقطة تحول فيها على مستوى الواقع، ومن حرارة الحدث ونبضه وتحركه، انبثقت مواكبته على مستوى الكتابة زمنا ممتدا، له حمولات ودلالات كثيرة.

لقد كان فعل البوعزيزي النقطة التي (أفاضت الكأس) نقطة الانعطاف والتحول التي حركت كل شيء في تونس، وخلقت على مستوى الإبداع سِفْرا ناتجا عن سَفَر في فضاء الإبداع الشعري، فبين السفر الواقعي والرمزي يتجلى الإبداع في عمق الدلالات والصور والإيحاءات. ذلك أن علاقة الرحيل والسفر بالإبداع على المستوى الرمزي متبادلة.

يبدأ الديوان بقصيدة “تذكرتُ البداية”، ومن خلال هذه الذكرى يستحضر الشاعر أزمنة الإبداع على مستوى التعبير والتجارب الإنسانية، وتتوالى النصوص الإبداعية مزاوجة بين استحضار ماض شعري، واستشراف إلى مستقبل مغاير عبر الواقع المعيش؛ حسب ترتيب محكوم بالزمن النفسي للشاعر، إذ يهدف الشاعر إلى خلق مفهوم جديد للشعر؛ بالبحث عن كيفية تطويع اللغة لتحمل الدلالات، وتحتوي حالات الإنسان؛ من غضب، وقلق، ومرارة بواسطة الرمز ما دام الواقع محَمَّلا بالإخفاق..

ولذلك عبّر الديوان عن الثورة وعن  قلق ما بعد الثورة، بين الأمل والإخفاق يقول:

 الشاعر في قصيدة “الخطاب الأخير لمحمد البوعزيزي”:

 لا لا لم تمت، ستظل حيا هنا، في الأرض نجما ساكنا، في أمنيات الطيبين، ومن رمادك سوف يولد ألف ضوء.ص124

إنه الأمل في التغيير الذي يَعقُب كل ثورة إلى أحسن الأحوال والظروف على مستوى الواقع، في أفق التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويمضي في الشاعر في تشبيه الحال بالحال، يقول في قصيدة “ثورة الأحرار”:

: حدّدتُم شكل الصباح،

 فلم يَعُد للصبح ذاك اللون،

ذاك الأسود،

وجعلتم هذه البلاد قصيدة

في كل قلب ثائر

 تتجدد.

 وذلك حين يجمع الأمل في الصباح المشرق الذي يبدد الظلم والسواد على يد الثوار بإشاعة النور المتجدد، و إشراقات إبداع القصيدة، في كل حين وآن.مباركا الحدث الثوري في الخروج إلى نور الحرية، والإنعتاق من واقع  مرفوض، إلى العيش الكريم ، في سماء المجد والعزة يقول :

ذاك شعبي الحر،

 ذاك التونسي،

ملهم الثورات،

 بانيها ومسرى كل ضوء.

…عش كريما، عش عزيزا،

مثل برق في سماء. ص115

هذه الحركية  بين الحلم والحقيقة ذهابا وإيابا في القصيدة تلو القصيدة ، معلنة ثورة الإبداع تبعا لثورة الواقع ، تجعل الشاعر يزاوج بين الرؤية والرؤيا ، بين  الواقع والحلم ،في عالمه الرمزي ، فتعلن القصيدة عن هذا كله ، فقد تصور الإنتكاس والإخفاق .. كما يقول في قصيدة “لدينا حلم “.

زمن القداسات القديم  يمر كالأضغاث بي،

لكني في ظلمة الأكوان مقطوع اليد.

هذه معلقتي ، أموت هنا وقافيتي معي ،

هذه معلقتي ، أموت هنا وذاكرتي معي ،

هذه معلقتي ، أموت هنا وفي دمي لغتي (…)،

هذه معلقتي ، نعم ، وأمري ليس بيدي … ص 45-46.

ويظل التعبير عن المعاناة بكل أشكالها وأشكاله ملازما للشاعر في الديوان هكذا،  يستلهم الشاعر نفَس الثوار على مستوى الواقع وعلى مستوى الإبداع ، فكما استلهم نفس أبي القاسم الشابّي في إرادة الحياة في عتبة نصية في قصيدة “معلقة القصبة” التي  يقول فيها :

“إلى جميع ممثلي الشعب الواقفين بالقصبة ، وإلى الشعب التونسي الذي أراد الحياة .”

يستلهم  نفس شاعر القضية الفليسطينية محمود درويش ويهدي إليه قصيدة “فوضى على باب القيامة” :

أفكر في غدي

وأنا عليم بأن الشعر منذور لهذا

(..)

ولم ندرك

وطين الخلق نيءٌ على  الأجساد

أن الكون فوضى على باب القيامة

أي جدوى ،

وسهمي خاب مرات

ولم يعرف نفاذا

إلى سري . ص54-55.

 وبهذا، فقد اسلتهم الشاعر أصواتا أخرى لشعراء آخرين ، تلك الأصوات التي  تجمعت  وكونت صوت الشاعر نصر سامي رابطا الفعل الثوري  والتعبير عنه بالتغيير على جميع المستويات ، لأن الذات المبدعة  تصنع عالمها  من تراكم معرفي وثقافي واجتماعي وذاتي نفسي. وهكذا، فكل أديب محكوم بجدلية التأثير و التأثر بالواقع الاجتماعي وهو بهذا يعبر عن الذات الفردية والجماعية وعن وعيها ، كما يقول محمود درويش في جداريته:

(وكلما فتشت عن نفسي

وجدت الآخرين).

لأن التعبير عن الثورة في جميع مناحي الحياة ارتبط بالتعبير عن الثورة على مستوى الإبداع  مرورا  بتجارب الشعراء الثوار والمجددين، في جميع العصور واستحضار معاناتهم  مثل أبي تمام ، والمعري، … السياب درويش …الخ  لأن قضايا المعرفة والفكر متصلة أعمق الاتصال بالحياة بعلاقات التفاعل بين الأفراد والمجتمعات .

وسفر البوعزيزي يتمثل الديني بشكل قوي جدا في عناوين بعض القصائد مثل البراق ، اسماعيل ، المدثر  مسيح الليل …الخ . كما يتمثل الرموز و الأساطير  العالمية و أبطالها  مثل  آخيل  جلجاميش طائر الفينيق ..الخ . لأن الأدباء والشعراء  يستمدون موادهم  وأشكال ما يحتاجون من الخبرات الإنسانية المتراكمة عبر القرون في مجالات شتى منها الديني ، والأسطورة والميتافيزيقا والتصوف .

ويختم الديوان ب “قصيدة شرفة في القاع “، مستدعيا فيها عتبة نصية لبدر شاكر السياب و”بويب”  يقول :

(لا بويب هنا يجري

…وذاكرتي ،

لم تغادر بعد منبعها الضئيل .

وأكتب،

لا لأفرح بالصباح

ولا بغابته الضليلة

وأكتب ،

لا لأفتح للرياح بأحرفي وطنا بديلا ) .

 ومن تم فالشاعر نصر سامي يريد “أن ينشئ كائنا نصيا قادرا على التهام كل شئ”ص 18، قادرا على الاستفادة من مكونات و تقنيات النوعين الأدبيين ، محطما الحدود والقواعد، حرا طليقا في التعبير عن معاناته ومعانيه بشكل يرضاه، غير مقيد بقواعد الشكل الصارمة، لأن الشاعر راكم على مستوى التجربة  ما يحقق له ذلك .

على العموم، إن القارئ ديوان سفر البوعزيزي ليجده يعبر عن تجذر الشاعر في عمق الثقافة العربية الرصينة بكل عصورها ، وعن تمثله للثقافة الكونية ، مستكنها روح الحضارة الإنسانية ، معبرا في شعره عن مواقفه في انسجام تام وعصره مضمونا وشكلا ، بفنية ومقدرة .

وأخيرا، أقول مع جهاد فاضل في كتاب قضايا الشعر الحديث : “ولا شك أن الحداثة في الشعر مطلب فني ، ومطلب قومي معا ، ولا أتصور أن عربيا يريد تحريك السواكن في أمته يقف موقفا سلبيا من تحريك سواكن الشعر العربي ، وربطه ربطا كاملا بالعصر” دار الشروق، ط1، المقدمة، ص9.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى