صناعة الكراهية وإنتاج الأعداء
عماد خالد رحمة | برلين
عرف العالم حالة مفصلية في التاربخ المعاصر منذ هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001 م، صعد على إثره نجم اليمين المتطرف الراديكالي في الغرب الأمريكي ـ الأوروبي بشكلٍ خاص. مقتفياً فكرة عنصرية مفرطة هي تفوق العرق الأبيض على غيره من الاعراق. هذه العنصرية كانت محرّك التوسع الاستعماري في معظم دول العالم في الحقب الزمنية السابقة، وبهذا الصعود يعاد تدوير النازية كمنظومة تفكير ألمانية، والفاشية كمنظومة تفكير إيطالية، لكن هذه المرة عبر تقنيات الديمقراطية وآليتها نفسها التي وصلت هناك إلى أوج صعودها ونضجها كنتاج سياسي وثقافي لعصر الحداثة كما يصفها مؤرخوا الأفكار والمفاهيم والأيديولوجيات.
هناك وصفاً رومانسياً للحداثة أو ما بعدها. هذا الوصف ينطلق من فكرة هامة وهي أنَّ الحداثة تجلٍّ معرفيّ لجوهر وماهية الأنوثة الكامنة في هذا العالم .ومن المفارق في هذا الأمر أن تكون أهم رموز اليمين المتشدِّد الصاعد بقوة نساء بيضاوات من أوروبا، على غرار مارلين لوبان في فرنسا رئيسة حزب الجبهة الوطنية (فرنسا) القادمة إلى أعلى هرم السلطة في وقت لن يكون بعيداً، وجورجيا ميلوني زعيمة اليمين المتطرف الإيطالي المهووسة بشخصية موسيليني، التي تشغل منصب رئيس وزراء إيطاليا منذ 22 تشرين الأول 2022 م. والتي تقول : (لدي علاقة هادئة ومتينة مع الفاشية، فأنا أعدّها فصلاً هاماً من تاريخنا الوطني). إضافةً إلى أنها عضو في مجلس النواب الإيطالي منذ 2006م، وترأس حزب إخوة إيطاليا السياسي منذ عام 2014 م ، وحزب المحافظين والاصلاحيين الأوروبيين منذ عام 2020 م . انضمَّت جورجيا مِيلوني إلى )جبهة الشباب ( وهي الجناحُ الخاصّ بالشباب في الحركة الاجتماعية الإيطالية، وهو حزب سياسي يميني شعبوي متطرِّف له جذور فاشية جديدة .
هذه النسخة المنقحة أو (الهادئة) و(المتينة) من الفاشية الموسيلينية الأصلية التي كانت وراء حروب خسفت بأوروبا وعصفت بها، وقلبت المعايير السياسية والعسكرية والأمنية بأجزاء أخرى من العالم، تأتي الإيطالية جورجيا ميلوني مدفوعةً بخطاب كراهية عالٍ تجاه (الآخر)، وبخطابات شعبوية عنصرية متطرِّفة ،وتعرف كيف تستثمر هذا الرصيد من الكراهية الكامنة لدى قطاع واسع من الناخبين الإيطاليين.
في هذا السياق نشأت وما تزال تنشأ العديد من التساؤلات الهامة، منها :هل من الممكن أن يشفع لأنوثة هذه الظاهرة الجديدة كون أحد أخطر رموزها، الفوهرر أدولف هتلر، المغرم بموسيقى ريتشارد فاغنر، الذي بدأ حياته رساماً وكان كل طموحه أن يكون علماً من أعلام الفن، وفناناً يدرس في أكاديمية الفنون الجميلة في العاصمة النمساوية فيينا، وأن يكون أبوها الروحي المثقف وعاشق الأدب بينيتو موسيليني (الدوتشي)، وهو من أهم الشخصيات التي كوّنت الفاشية، وأن تستأنف الآن سرديتها عبرالأنوثة نفسها التي كانت تعويذة النسويين تجاه العنف والبغضاء والكراهية والحروب الدامية والعنصرية المفرطة.
وانطلاقاً من تصنيف العالم في بيانات وتقارير البيت الأبيض بمحور خير تمثله الديمقراطيات الغربية، ومحور شر وحقد وكراهية وبغضاء تمثله النظم الموصوفة بغير الديمقراطية، تُوجه سهام الكراهية صوب المحور الثاني الموصوف بفقدانه لأسس الديمقراطية واستحقاقاتها، المكروه لأنه كاره في صميمه وأعماقه. والكراهية أو البغضاء أو المقت وما يليها من حقد، هي مشاعر انسحابية يصاحبها اشمئزاز شديد، عداوة ونفور أو عدم تعاطف مع شخص ما، أو مجموهة ما، تعوز عموماً إلى رغبة في تجنب حالةً من النقل، أو العزل، أو تدمير الشيئ المكروه. فقد رأى الفيلسوف رينيه ديكارت أنَّ الكراهية هي إدراك أنَّ هناك شيئ سيئ في مجتمع مع الرغبة في الانسحاب بعيد عنه. أما الفيلسوف اليوناني أرسطو فإنه يرى الكراهية على أنها الرغبة في إبادة الكائن المكروه. كما أنَّ عدد كبير من الكتّاب والباحثين يقرون في أبحاثهم ودراساتهم المتضمنة الحديث بصراحة ووضوح ودون مواربة عن صناعة الكراهية والكراهات الديمقراطية، وما أطلق عليه تسمية (العدو المكروه) في سياق الديمقراطية الليبرالية، بأنّ الظواهر الرئيسية في الكراهية الديمقراطية وما تبطنه في دواخلها من تعبيرات متنوعة، هو تحديد العنف في الآخر الموصوف بغير الديمقراطي، لأنّ الآخر بوصفه العنف بمعناه المتجذِّر والمتأصل، سواء مارسه بشكلٍ عملي أو لم يمارسه. فحين تكره الديمقراطيات، فإنها تكره الكاره بكل معانيه. ويقصد به، أنَّ الآخر الواجبة كراهيته هو من يدفع العالم نحو العنف ويجعله عنيفاً، وهو من ينشر الخوف والرعب والفوبيا أينما حلَّ.
الجدير بالذكر أنَّ حملات الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا تنشر الكراهية معتمدةً اعتماداً كبيراً على نشر الخوف والفزع والذعر بين السكان الأوروبيين الأصليين من هذه الأقليات من اللاجئين والوافدين والمهاجرين، لما أطلق عليه بالعبارة العنصرية : (تلوث المجتمع الأوروبي بالمهاجرين)، لذلك فإحدى سمات العنصرية النازية والفاشية الأصلية تعتمد على الخوف والذعر وتعزِّزه، أو بث الخوف والذعر في المشاعر والأحاسيس لكسب معركة التعاطف، يداعبها هاجس التفوق العرقي (النقي)، ويقلقها هذا النزوح الأسطوري من دول الجنوب تجاه الشمال، ساعياً إلى القيم الديمقراطية التي تتغنى بها الليبرالية كمفازة وكفردوس لا مثيل له على الأرض، والديمقراطية نفسها التي تغري المهمشين والمضطَهَدين المقموعين في بلدانهم بالرحيل صوب فردوسها، هي من تفرز الآن قوى اليمين الشعبوي المتطرف الكارهة لتبني أسوارها وحصونها كمحميات للعرق (النقي).
والخوف والذعر والفزع، كما يقول المستنيرون، متناغماً مع ليبرالية الخوف لدى الفيلسوفة اللاتيفية (جوديث نيسى شكلار) التي تقول: (هو ما نكره، والخوف والذعر والفزع هو ما نخاف منه. وهكذا فإن الخوف والكراهية هما الاستثناءان الوحيدان اللذان تتأسس عليهما السيادة الليبرالية، الأحاسيس والمشاعر التي تنتابنا وتعترينا حين تتعرّض هذه السيادة نفسها للخطر. وفي هذه اللحظات الاستثنائية هناك دائماً شيء نكرهه أكثر من الكراهية نفسها، ونخاف منه أكثر من الخوف نفسه، إننا نكره ونخاف ونشعر بالذعر والفزع من العدو، الذي أصبحنا نراه أمامنا ينشر الكراهية والخوف).
لقد سعى العديد من الكتّاب والباحثين لتقديم تقصي نقدي لجوهر الكراهية وكنهها، وإعادة قراءة للفرضيات دون البراهين التي تنطلق منها، والحديث بعمق شديد عن القيم والنواميس، والأجندات المشتغلة في حقل المواجهة والمكافحة الحديثة للكراهية، منطلقين من أسئلة يبثّها هذا التصاعد الدرامي شبه الهرمي لمسألة الكراهية بكل أوجهها التي بدأت تجد حيويتها ونشاطها خصوصاً في قلب الديمقراطيات التي جاءت في الأساس ضد هذا المفهوم الحديث.
إنّ جملة الأفكار والمفاهيم التي طرحت والتي يتم طرحها تذهب باتجاه بناء منظور جديد شامل للعلاقة الشائكة والمتشابكة بين الكراهية والديمقراطية الليبرالية،وتطرح العديد من الأسئلة التي منها : ما هي الافتراضات المعيارية، والوعود، والجذور الأيديولوجية، والقيود، بوجه خاص، وما هي النقاط المظلمة والقاهرة في الحرب الحديثة المتجدِّدة ضد الكراهية؟ متى ولماذا تم وضع قوانين وتشريعات لتجريم فعل الكراهية؟ وما هو المعنى الحقيقي لفعل الكراهية ؟وكيف يتم ربط فعل الكراهية بالتاريخ الواسع والطويل لمفهوم الكراهية؟ هذه الأسئلة لا يمكن إيجاد أجوبة لها إلا عند علماء النفس والفلاسفة وكبار المفكرين وعلماء الاجتماع، والمتخصصون بالقانون والعلوم السياسية. بخاصة وأنَّ التيارات اليمينية الشعبوية المتطرفة تقف خلف انتصارات الديمقراطية الليبرالية .وعبر تأجيج هذه الفوبيات المتزايد تجاه كل ما تم وضعه في خانة (غير الديمقراطي) مثل :
ـ الزينوفوبيا (كره الأجانب): وهي حالة الرهاب أو كره الأجانب والخوف والحذر منهم واحتقارهم ،والفرق بين العنصرية والإكزينوفوبيا هو أن العنصرية تنحصر في كره الآخرين بسبب نسبهم أو عرقهم، أما الإكزينوفوبيا فهي كره الآخرين فقط لأنهم غرباء أو أجنبيون عن ما يحمل الشخص الإكزينوفوبي، مثل الاختلاف في الدين، والمعتقدات، والجنسية.
ـ إسلاموفوبيا (رُهاب الإسلام) : وهو التحامل والكراهية والخوف من الإسلام أو من المسلمين. وخاصة عندما يُنظَر للإسلام كقوة جيوسياسية أو كمصدر (للإرهاب) بشكلٍ عام. هذا المصطلح دخل إلى الاستخدام في اللغة الإنجليزية عام 1977م عندما قامت مجموعة تفكير بريطانية يسارية التوجّه تسمى (رنيميد ترست)، باستخدامه لإدانة مشاعر الحقد والبعضاء والكراهية والخوف والحكم المسبق ضد المسلمين والإسلام.
ـ صينوفوبيا: (رهاب الصين) ،أو المشاعر المناهضة لجمهورية الصين الشعبية، هو شعور بمعاداة الصين أو شعبها أو الصينيين المغتربين في الغرب الأوروبي ـ الأمريكي، أو الثقافة الصينية، غالباً ما يستهدف هذا الشعور مجموع الأقليات الصينية التي تعيش خارج الصين، ويتضمن هذا الشعور مناهضة للهجرة وتنمية الهوية الوطنية الصينية في البلدان المجاورة أيضاً، وتفاوت الثروة في الصين، والعلاقات بين الأكثرية والأقلية، ونظام التبعية المركزي السابق، والإرث الإمبراطوري، والعنصرية. وهي تعاكس صيموفيل، هي عشق وحب وتقدير للصين وثقافتها، ومجتمعاتها ولغاتها وتطورها وتاريخها.
ـ روسوفوبيا : (الرهاب من روسيا) أو (معاداة الروس) وهي عكس الروسوفيليا التي تعني حرفياً حب روسيا أو الروس، هي الولاء لروسيا والإعجاب بها، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي السابق والثقافة الروسية والتاريخ الروسي.
في حقيقة الأمر يبدو أنَّ خطاب الكراهية بدأ يتبلور بطرق ناعمة حتى هذه اللحظة. حيال ألوان وأعراق البشرية الأخرى .مِن قِبَل اللون الأبيض، وهو الخطاب الذي بدأ يرفع من وتيرة قوى اليمين الشعبوي الكامن في العالم.