آليات السينما في قصيدة “المشهد الأخير” لعبد الرزاق الربيعي

د. جبار سلطان حسن | أكاديمي من العراق

 

تبدو اللغة السينمائية والإفادة من حِرَفيات العمل فيها، وسيلة تعبيرية تناسب الشاعر الحديث وهو يروم صياغة قصيدة تقوم على أساس الدراما الشعرية ــ وهو يقطع قصيدته إلى مشاهد ــ  أوالتحميل الدرامي لمشاهدها . 

وفي قصيدة (المشهد الأخير) نجح الربيعي في سرد حكاية شعرية بالكاميرا على وفق بنية درامية، جاعلا الوصف فيها يتغلب على فعل الخطاب، متجسدا بصور بصرية مهيمنة، بوصفها بديلا للصورة الشعرية المألوفة.

وانطلاقا من العنوان فقد شكل الشاعر مدخلا لتمركز الوسيلة السينمائية في متنه الشعري، متخذا من تقنيات الفن السينمائي استراتيجية تعبيرية مقصودة، وأعتقد أن البواعث ذاتية عند الشاعر، وهو يختار إطارا تعبيريا، يحاول أن يحاكي فيه اختصاص المرثي وهو المرحوم (محمد) أخو الشاعر، الذي كان ناقدا سينمائيا، ويمكننا أن نعد لجوء الشاعر إلى لغة السينما  سعيا نحو ابتكار لغته الشعرية العليا في التعبير، تلك اللغة التي عرفها الناقد ياسين النصير بأنها اللغة (المشتركة بين الفنون، تقرأها فتشعر أنك تشاهد فيلما، وتسمعها وكأنك في حضرة الموسيقى، وتتأمل فيها وكأنك أمام لوحة، وعندما تقطعها كشاهد لتدخلها في نص آخر تكون مكتفية المعنى) .

ومن المقطع الأول يكتسب المكان دلالة أساسية في دلالة النص عموما، حتى عندما يعتمد الشاعر لبيان ملامح الشخصية المرثية على عملية الاسترجاع السينمائية (الفلاش باك) في المقاطع القادمة: في راحة “الأمير”/ يبسط الطائر جنحيه/على الرمال/ حيث المشهد الأخير .

فالدلالة المكانية في الأبيات التمهيدية، تؤثث البداية الشعرية لنهاية تراجيدية، حيث مراسم الدفن للمرثي الذي ضم جنحيه وقد طواها في مرقده الأخير، يحتضنه رمل الأمير، مودعا تعبه الدنيوي، ثم في المقطع الثاني الذي يمهد فيه لارتقاء الروح بعتبة سيناريوية.

الملاك جاهز/ و(كادر)  السماء/جاهز/ العرش والضياء ينقل الشاعر حساسيته إلى كاميرته التي تحقق له تماهيا فاعلا بين كونه راويا ومخرجا، مجسدا في تصويره حضور الغياب الممثل بروح المرثي وارتقائها إلى العرش، وقد تم إعداد الروح للطيران سينمائيا عبر مفهوم (اللقطة الرأسية): (لقطة رأسية)/تنزل/من أعلى تسابيح العصافير/إلى النجم/الذي ارتقى/من هذر التراب/والعذاب/للعلياء/لذاك/أوثقوا يديه بالزهور/والطيور/لا طيور (هيتشكوك)/إنما من فضّة/ الدعاء/حيث ماء الورد/والبخور/والوداع وهي لقطة يمكن انجازها سينمائيا باستعمال الكاميرا المحمولة على ( آلة الكرين ) وهي تهبط بعدسة التصوير نحو الجثمان المسجى، موثقة الطقوس المتبعة في أثناء إعداد الجثة ـ قبل الدفن ـ التي تخرج منها الروح كنجم مضيء مثل التعطير بماء الورد، والبخور، والدعاء، والصلاة، (ويمكن عد الإشارة هنا إلى طيور هتشكوك، مع العنوان الرئيس والعناوين الداخلية، قرائن فنية على استحضار الشاعر عدة التصوير، وهو يرسم هذا المشهد في مخيلته).

ثم يظهر الشاعر خبرة فنية في التصوير السينمائي في سياق سعيه إلى تكثيف بنيته الشعرية دراميا، عندما ينتقل بشكل تدريجي من اللقطة العامة أو البعيدة إلى اللقطة القريبة: (لقطة قريبة) من وجهه البشوش، والجميل تدنو العدسات تدنو الشمس والعتبات البياض في الثياب ناصع وناصع فؤاده الكليل.

فبوساطة اللقطة القريبة تبرز عدسته الشعرية بشاشة وجه المرثي وجماله كما تبرز جثته المفعمة بالبياض، وقد وظف اللون الأبيض بما يوحي للقارئ بتضاده التام مع الأسود لأن له دلالة ندبية، والشاعر لا يضع الندب هدفا لقصيدته وركز عدسته على بياض مادي ومعنوي، ولأنه لم يشر إلى سواد فقد تضاعفت دلالات البياض، وباتت مفعمة بسمات المرثي التي عكستها عدسة الشاعر ـ وهو يعود بأسلوب (الفلاش باك) إلى طفولة المرثي وصباه، وقد مهد لهذا الأسلوب بقوله: العدسات دارت. دارت السنون.

وليسترجع طفولة المرثي عبر منتجة زمانية، وبلقطات سريعة، تحققت من تباين الأمكنة: 

دارت الطفولة

البيوت،

والمدرسة القديمة

الشوارع الطويلة

البنات، والبنون

حتى الفلك الدوار

دار دارت الدروب والقلوب.

فعبر فنية هذا المونتاج، تمكن الشاعر من تجنيب نصه الحشو السردي، وتطوير بنية نصه بعدم إثقاله برواية أحداث زائدة وفائضة، جاعلا من رثائه خالصا، ومقاطعه مختزنة بالصورية والمشهدية السينمائية. 

لقد نجح الربيعي في تجنيس نصه بلغة التعبير السينمائي، مظهرا قدرة جيدة على توظيفها فنيا، مستعملا في نص قصير معظم التقنيات السينمائية الرئيسة، وأعني السيناريو والمونتاج وحجوم اللقطة، فتجلت مقاطع نصه بكيان شعري متسق مما جعل عناصره، من الحدث الشعري والشخصية والديكور، موجهة على وفق جماليات العرض وتشكيلاته الفنية التي تدفع قارئ النص إلى التعامل مع الصورة ودلالاتها أكثر من تعامله مع اللغة وبلاغتها.

تبدو اللغة السينمائية والإفادة من حِرَفيات العمل فيها، وسيلة تعبيرية تناسب الشاعر الحديث وهو يروم صياغة قصيدة تقوم على أساس الدراما الشعرية ــ وهو يقطع قصيدته إلى مشاهد ــ  أوالتحميل الدرامي لمشاهدها. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى