أدب

تقويض الحسي بالمتخيل في نصوص “ملاذ سريالي” للشاعرة اليمنية هناء محمد راشد

أمين الجرادي | كاتب ومترجم من اليمن
    يقوم البناء الشعري للصورة في مجموعة نصوص “ملاذ سريالي” للشاعرة اليمنية هناء محمد راشد ، على تقويضٍ للحسي المرئي نحو الحسي اللامرئي المدرك عبر المتخيل، ما يعني اخراج الأشياء المرئية من حيزها الحسي إلى المتخيل عبر توظيف الحسيات وخلق صور مغايرة تبث في نفس القارئ الشعور بالدهشة. وتتميز النصوص بالكثافة والتركيز والتحرر من الموضوعات الشعرية السائدة. وتتابع الصور الشعرية، محتشدة بالمفاجآت والتوجه صوب العثور على لغة تخلو من رقابة الوعي، محتشدة بتراكيب غير مألوفة.. وتكشف الصور الشعرية عن جمالية النصوص، حيث تتعامل الشاعرة مع العالم عبر التعبير عن المرئي باللامرئي واستبطان الوجود، مما ينتج اسلوب متطور، ملئ بالتكثيف والإيحاء، وجمع بارع بين المؤثرات المختلفة. وتلتزم النصوص بآلية الحذف والتكثيف قدر الإمكان. وتشكل نصوص هناء القصيرة جدا، بنية نصية متكاملة، تتعدد دلالاتها، وتنبجس تبعا للآليات الحسي والمتخيل التي تشتت الأشياء، وتعيد تجميعها هناك في اللاوعي، بطريقة تتطابق فيها وتتلاقى.

تجربة الكتابة
    عن مكتبة ابن خلدون، صنعاء، 2023، صدرت المجموعة الشعرية الجديدة “ملاذ سريالي” للشاعرة اليمنية هناء محمد راشد. وتأتي هذه المجموعة بعد صدور اربع مجموعات شعرية لها هي: “الوقت صفر”، “إلى آخره”، “ثورة الصمت”، “تعويذة إنسانية”. وتحتوي المجموعة الشعرية الجديدة 103 نصاً، جاءت في 222 ورقة من القطع المتوسط. ومن عناوين نصوص هذه المجموعة: رسالة إلى نور درويش، طلاسم، نحو المستحيل، النجاة من الخرف، تعويذة، فقد، ابتسامةٌ مجردةٌ، قصائدُ للبيع، مغفرة وداع، حارسة اسمك، دخان، صوت الضوء، أيقونة حزن.
     تتميز هناء راشد بالميول نحو فضاءات جديدة في كتابة قصيدة النثر، اذ ترفض التقليد وتكتب ينفس شعري خاص منحها فرصة الحضور كأحد الأصوات الشعرية المتميزة في اليمن، لذلك فهي تكتب قصيدة النثر بوعي وخلفية كتابية تتسم بالنضوج. وهي بذلك لا تختلف عن الشعراء والشاعرات من أبناء جيلها أو الجيل الذي يسبقه. ورغم الأوضاع الصعبة التي يعيشها اليمن والواقع السياسي المحبط واستمرار الحرب، إلا أن ذلك لم يؤثر على جو الابداع والكتابة، فقد وصلت كتابة قصيدة النثر في اليمن “الى اقصى حد من الابداع والوعي الكتابي، وما يميزها بشدة هو اندماجها بالواقع وتعاليها عليه ثم رفضها لهذا الواقع من اجل واقع أشد دينامية ووجودية، ففيها الكثير من وعي الإفاقة وهموم الفرد ضد الاستلاب”. (1)
     ولا تتوقف تجربة كتابة قصيدة النثر في المشهد اليمني عند هذا الحد إذ تبدو انها “بمثابة صورة موضوعية لحداثتها غير الزائفة من خلال توافق الشكل والمضمون مع التوق الحلمي الحقيقي لنهوض أدب مكافح، رافض، منشق، يعاند كل المتاحات الضئيلة من اجل التحقق، ويحترم الرصيف، كما لا تخدعه حداثة المدن السريعة، فيما لا يتواطئ أبداً مع السلطتين الدينية والسياسية، حيث إن منتجيها محكومون بالاغتراب والتغييب، لكن مبهجهم التام هو التمرد من اجل السمو والخلاص، أي إنها في سياقها الاجتماعي تتقدم بتحقيق منتهى الامكانية الجمالية، وهي بذلك ليست محض حداثة خاوية تحوي مكابدات لغوية أو اسلوبية فقط، كما أنها بصورة جدلية ليست ذلك الجمال الشكلي البائس والمفرغ، بل الحيوي والمتسق تماماً”. (2)
    عن تجربة هناء راشد في كتابة قصيدة النثر يقول الشاعر والناقد اليمني المعروف محمد اللوزي: “نصوص (هناء) احتجاج على العالم، وكشف لما يعتمل فيه، وصوت يبوح بالمختبئ في صور شعرية قل ان نجدها”. وعن أهمية تجربتها في المشهد الشعري اليمني يقول اللوزي: “شاعرية (هناء) ثرية، عميقة تجيد صناعة الصورة واقتناصها، وتمكينها ضمن بنية نصية لها فضاؤها الشعري الذي لامجال فيه للزائد من الحرف. النصوص إذا استحضار ذكي لعوالم متداخلة تجسد الإنسان بقيمه سلبا وإيجابا، وهي تراكيب شعرية تجذبنا إليها لنكتشف ذواتنا ونرى مالا يرى، في زمن يتعثر فيه الجمال وتختنق الحياة، ويغرق الإنسان في اللاموقف واللارؤية”. (3)

الحسي والمتخيل تقويض وانحسار
    دائماً ما اهتمت المعرفة بدراسة الفكر الفلسفي، كون الفلسفة المتنفس الفعال لإدراك الوجود المادي والميتافيزيقي، ولإدراك القيمة المطلقة وتفرعاتها. ولا توجد فلسفة لا تؤسس معرفتها على معالجة قوى الحس والعقل والمخيلة والحدس. ومنذ ولادة الفلسفة اليونانية، استندت النقاشات المعرفية إلى ثنائية الحسي والعقلي والمادي والروحي والجزئي والكلي. على هذا الأساس ميز أفلاطون بين عالم الحس والعالم المثالي، وأعطى الأولوية للعالم المثالي “عالم الصور الذهنية”، بينما وجد أرسطو المثل الأعلى في عالم الحواس “العالم الحقيقي’. ولعل اهم ما خلصت إليه تلك الفلسفات، الفرز بين الحواس الظاهرة التي تتمثل بادراك الحواس الخمس، والحواس الباطن التي ندرك بها الزمان والحركة والإعراض المتمثلة بالحس المشترك والذاكرة والخيال. والمخيلة هنا وكما يراها أرسطو أن وظيفتها الاحتفاظ بالصورة فهي عبارة عن الآثار التي يتركها الحس، والمخيلة لا تتعلق بزمان معين وصورها المتخيلة هي الأساس في الملكات الأعلى منها الفن والحكمة والعلم.
    إن عقلانية الحداثة، عقلانية مرنة لم تضع حدود لمعرفتها الحسية والمتخيلة، وإن المخيلة قد أصبح لها حيزاً واسعاً في مساحة الوعي للإنسان المعاصر، ويربط سارتر التخيل في ترسيخ الحرية. ويرى أن التخيل هو نشاط وفعالية ذاتية يقوم بها الشعور، ويكون موضوعه الشيء الذي أتخيله هو بذاته وشخصه. إن الخيال بوصفه ملكة متغيرة متحركة، تجدد في كل لحظة الحركة والنظام والانسجام والوحدة ولا تسمح بالانقسام ولا بالسقوط في الجمود .. ولا يمكن للإنسان أن يتجاوز وينتصر على الادراكات المكونة للصور التي تحدد الفكرة، وأن يعبر ن نفسه بالكامل إلا بالخيال. وبذلك يكون الخيال والمخيلة ، خالق للقيم الجديدة.
    ويميل مفهوم ما بعد الحداثة إلى معارضة الحداثة والتاريخ والفكر والمناهج والأفكار وكل ما تضمنته في أفكار وقيم وآليات ومعرفية، فضربت أسس الحداثة المتمثلة بالذاتية والعقلانية والعدمية، وسعت إلى تفكيك مركزية الإنسان وذاتيته التي باتت قاصرة في إدراك الحقائق النسبية والمتغيرات الهائلة في الواقع المعاصر. ومن أسس ما بعد الحداثة أيضا، ضربها للعقلانية وبطلان العقل والتاريخ الذي أسس عليه ، ففقد العقل سلطته في بناء الحضارة الغربية، وأن الركون الى العقل أسهم في بناء حضارة وطبقة العقل مقابل حضارة وطبقة اللاعقل، مما تنتج ثقافة إقصاء تعمل على استبعاد واستعباد الآخرين باسم العقل والعقلانية. وهكذا لم تعد مفاهيم مثل العقل والوعي والإرادة والحرية والمسؤولية تتمتع بقدر كبير من المصداقية.
    وفي الابتعاد عن عالم المحسوس، والإتجاه صوب فضاءات الخيال؛ مؤسساً رؤية اكتناه العميق”يبدو أنَّ الشعر عملية تداخل الوعي واللاوعي، وهو يمارس صياغة فهم الوجود وسبر أغوار الكينونة المتنوعة الأبعاد عندما تخضع لآلية الكشف، وهي تحاور العالم الخفي، بوصفَّ الشعر يجوبُ آفاقاً جديدة في الوجود، وهو يبتعد في أعماقه عن عالم المحسوس، ويندس في فضاءات الخيال ؛ مؤسساً رؤية اكتناه العميق، فيحلِّق في فضاءات اللاشعور الجمعي، إذ إن هناك عالم الأساطير؛ لذا فالشعر يفتح نافذةً على العالم البعيد، لكنَّه لا يريد العيش به، إنَّما يفتح نافذةً عليه من الواقع المعيش”. (4)
إن الصورة الشعرية في النصوص الحديثة تمثل البحث عن صياغات جديدة ومتناقضات ورموز وعلامات، والتخلي عن الاشكال البلاغية التقليدية. لذا يبدو أن “تشكيل الصورة والتشكيل الموسيقي يمثلان ثورة على الاطار التقليدي للقصيدة العربية، وهذا ما يلمسه المهتمبالشعر العربي الحديث إذا ان حالة الشاعر النفسية لها الاثر الكبير في تشكيل الصورة التي ينتزعها الشاعر من المحيط الخارجي وبذلك فهي خاضعة لنفسية الشاعر.” (5) إضافة إلى ذلك فأن “نتاج الوحدة بين الخيال واللغة يودي إلى خلق الصورة الشعرية لان وجود الخيال مهم جداً في خلق الصورة الشعرية، وانعدام الخيال سيودي إلى ان يكون الشعر لا قيمة له.” (6)
ان القارئ يستطيع اكتشاف ما يميز الصورة الشعرية الجديدة، وهو اتجاهها إلئ “التخلي عن الاشكال البلاغية التقليدية والانشغال ببناء وجود فني مستقل يستمد وجوده من عناصر الصورة الشعرية نفسها، لا من عناصر الواقع الحسية، فضلاً عن ذلك ان تشكل الصورة الشعرية في ضوء الفلسفة الجمالية الجديدة لا يتأتى لكل شاعر”.(7)
إن هروب شعراء الحداثة من التجريد الواقعي وبحثهم عن الحرية “دفعهم إلى امتطاء الحلم باعتباره أداة ارتياد المطلق، فهو يفك الواقع إلى عناصره الاولية ويعيد تركيبه على نهج يخضع فيه الواقع الخارجي بتجاوز معطياته و والألتحام بعوالم ميتافيزيقية”.(8)
هنالك علاقة وطيدة بين الحلم والرؤيا “الرؤيا رديف الحلم والامتزاج بالكون والتوحد بأشيائه، مما يعمق صلة الشاعر بتجربته وبالكون والحياة ككل، فهي تستمد ملامحها من التجربة الانسانية التي يعيشها الشاعر في عالمنا المعاصر بتكوينه الثقافي والسيوكولوجي والاجتماعي وخبراته الجمالية في الخلق والتذوق ومعدل تجاوبه او رفضه. للمجتمع وطبيعة بينه وبين اسرار هذا الكون”. (9)
ولذلك كانت الرؤيا في قصيدة الحداثة هي: “الكون الذي تتمحور حوله جميع مكونات هذه القصيدة لانها وجه من وجوه التحرر والتأسيس الشعري للعالم ولذا كانت التجربة الشعرية الحديثة غامضة ومعقدة، فهي تجربة تتداخل فيها العناصر بجميع مستوياتها وأشكالها”. (10)

“ملاذ سريالي”.. تقويض الحسي بالمتخيل
يعد العنوان مفتاح عوالم النصوص الادبية لأنه يشكل ابرز الرسائل النصية التي تحمل في طياتها دلالات مختلفة تساعد في فهم النص. لذا يرى البعض أن العنوان هو المدخل الاساس للولوج إلى العالم الباطني للكاتب فهو اول محطة تستقبل القارئ. لذا عُدَّ من اهم العتبات النصية المحيطة بالنص الرئيسي حيث يساعد في توضيح دلالات النص باستكشاف معانيه الظاهرة والخفية فهماً وتفسيراً وتركيباً. فالعنوان هو الوسيلة الناجحة لتوجيه القارئ في فهم معاني النص يزوده بمجموعه من المعارف قبل قراءة النص. من هنا فإن العناوين هي عبارة عن ملخص للمتن، تبرز مقروئيته، وتحقق اتساقه وانسجامه، وإن العنوان علامة جوهرية تميز كل تص كتابي عن غيره. وهو فاتحة لكل عمل ادبي ذو ابعاد استراتيجية. لذا يستوجب تحليله من المتلقي بتفكيك النص واعادة تركيب بنيات النص.
     العنوان له سلطة رمزية على النصوص استقاها منها لتمنحه قوة دلالية متعددة. إن عنوان “ملاذ سريالي” مكتوب بخط على الواجهة الامامية من غلاف المجموعة، موجز ومختصر، مما يثير رغبة القارئ، للقراءة والغوص في النصوص.
    “ملاذ” في اللغة يعني: ملجأ، مأوى، سقيفة، بينما “سريالي”، اسم منسوب إلى سُرْياليّة: خياليّ مُبْرِز للأحوال اللاّشعورية :-مشهد سرياليّ يدعو للدهشة، – شعر/ فنّ/ رسم/ سرياليّ. وهكذا نجد أن ملاذ+ سريالي يعني ملجأ للهروب من الواقع.
سوريالية او سريالية: حلم، خيال. وهي مذهب واتجاه معاصر في الفن والأدب والفلسفة يذهب إلى ما فوق الواقع، ويعوّل خاصّة على إبراز الأحوال اللاّشعوريّة، يرمي إلى التعبير عن الفكرة الخالصة مطرحا رقابة العقل والاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية.
إذا كانت الكتابة الواعية هي من تحجب طاقات الانسان الكامنة عن الدفق، والتعبير عن رغباته المكبوتة، فإن إطلاق العنان للكتابة دون قيد او شرط هي الاداة لمواجهة الكتابة الواعية التي تحجب طاقات الانسان عن الدفق. وإذا كان العقل هو من يبقينا في حدود الاشكال الشائعة للتعبير والتفكير، فإن ذلك ينافي المفهوم القائل بأن اللغة ليست وسيلة للمعرفة بل هي نسيان للمعرفة العادية..
في مجموعة نصوص “ملاذ سريالي” نجحت الشاعرة هناء محمد راشد، في التخلص من أعباء الوعي وقيد العقل ومعايير التذوق الادبي التقليدي وأن تتجاوز الصور البلاغية المألوفة إلى صور نابعة من جمالية المتخيل. ولا يشترط هنا ان تلتزم الصور بالمعايير التي حددتها البلاغة العربية المتمسكة بأطرها الضيقة، بل جاءت من تفجر اللاوعي والإفصاح عن المكبوت، لذا فإن جمالية الصور في عفويتها، حيث تعبر الشاعرة فيها عن التناقضات بالاعتماد على خلخلة المعايير التركيبية التقليدية وتدمير العلائق المنطقية والمعتادة بين التراكيب والصور. هذا وتهيمن الرؤيا والحلم على نصوص الشاعرة، ويتجلى ذلك في ضوء اختيارها للمفردات، اضافة إلى المناخ العام لنصوص المجموعة. واذا كانت اليقظة هي حالة غياب عن الحقيقة ولا تلبي الرغبات في الوصول إلى اهداف الانسان المنشودة، فأن التوصل إلى ما هو أعمق هو بمثابة التحدي للواقع الرتيب، وابتكار وعياً جديداً يردم الهوه الفاصلة بينه وبين تحقيق نشوة الاكتناه والابداع والحرية.. في نص “ملاذ سريالي” ص 163:
الورود تتفتح على يدي
الأمطار تنهمر فوق صحراء أرقي
أنام بالقرب من حدودك
أبدأ برسم جديد لخرائطي
أفكُّ كلّ الخيبات وأفتق عيون الخائنين
أزرع الأشجار بيننا
حتى لا نعود نعرف أيّ أرض لك وأيّ سماء لي وما بيننا
وظلالي الذي يتحوّل إلى نور يراقص أطيافك
نتحوّل إلى غابات .. أوراق .. رياح … شمس .. وقمر
وليل ونهار … نتحوّل إلى عناوين وقصص وشعر
نتحوّل إلى أنهار وبحار
ثم نركض نركض بعد أن نتخلّى عنّا
ويبقى ذلك الحنين الشاهد الأخير على ماكنا عليه
أترك شاهدة على كفك … أخذ منها صدى الغياب
أعود إلى نقطة اللاشيء .. نقطة اللاشعور
دون حزن أو فرح … فقط أنظر لنا … دوننا ،، (11)
الورود تتفتح على يدي + الأمطار تنهمر على صحراء قلبي.. بدأت الصورة الشعرية بالحسي وانتهت بالمتخيل: الورود تتفتح + على يدي، حيث عمدت الشاعرة إلى مستوى من التمثيل الحسي ومعالجته بالمخيلة التي افرغت الحسي من محتواه ، ما يعني ان الاستعانة بالصور المحسوسة والموجودات الحسية كان فعلاً مقصوداً ينتظم فيما بعد بعلاقات متخيلة. هذا النص هو محاولة لتأسيس علاقة مشتركة بين الانا والآخر، وإذا جاز لنا أن نعتبر الانا في النص هي “المرأة” فإن الآخر هو “الرجل”.
أبدأ برسم جديد لخرائطي/ أفكُّ كلّ الخيبات وأفتق عيون الخائنين.
التوجه صوب تاسيس الكينونة المستقلة وهي كينونة مكبوته جاء الإفصاح عنها في النص. ثم: أفكُّ كلّ الخيبات وأفتق عيون الخائنين. الوصول إلى تحقيق الذات المستقلة والانتصار على الماضي الممتلئ بالخيبات والخونة هو الملاذ الآمن للجميع. تضيف الشاعرة هنا صورة أخرى للمرأة، أنها صورة الوطن الكبير الذي ينزف بالخيبات.
وظلالي الذي يتحوّل إلى نور يراقص أطيافك/ نتحوّل إلى غابات .. أوراق .. رياح … شمس .. وقمر / وليل ونهار … / نتحوّل إلى عناوين وقصص وشعر / نتحوّل إلى أنهار وبحار / ثم نركض نركض بعد أن نتخلّى عنّا/ ويبقى ذلك الحنين الشاهد الأخير على ماكنا عليه/ أترك شاهدة على كفك … أخذ منها صدى الغياب/ أعود إلى نقطة اللاشيء .. نقطة اللاشعور/ دون حزن أو فرح … / فقط أنظر لنا … دوننا ،،
نقطة اللاشئ+ نقطة اللاشعور كما في النص: هي المنطقة الضبابية المعتمة غير المعروفة، إنها منطقة الوسط التي لا حزن فيها ولا فرح.. منطقة اغتراب، وضياع هوية وربما منفى، سبقها: أترك شاهدة على كفك.. أخذ منها صدى الغياب..
يكشف هذا النص عن حالة اللاشعور واللاوعي الذي تعيشه الانا الشاعرة في ظل الواقع المري، ما يعني الهروب والابتعاد عن الواقع باعتباره ملاذاً آمناً، وإن كان فقط مجرد حلم وخيال. اضافة إلى نبرة الحزن المشحونة، يفيض النص أيضاً بألم الواقع الذي جعل الكثيرين يعيشون بالقوة داخل المنطقة الوسط، منطقة الاغتراب والضياع وفقدان الذات. وإذا كان النص قد بدأ بعبارة ايجابية: “الورود تتفتح على يدي”، ثم: أزرع الأشجار بيننا/ حتى لا نعود نعرف أيّ أرض لك وأيّ سماء لي، فإن ذلك يعني لذة الحلم والخيال في الاتصال والتوحد بين الأنا والآخر، وتحقيق الوجود الفردي والجماعي في وقت واحد.
لا تخلو أجواء النص من خلق الشعور بالجمال، إذ تتحول الكتابة في مفهومها الواسع إلى طقس تتلى فيها صبوة الكاتب في اسعاد الآخرين، وفتح نوافذ إلى اعماقهم تدخل عبرها اشعة الجمال.
في نص “ليلى والذنب” ص 45:
على حبل الغسيل
خطوات دون مسافات تسكن جوارب الأحلام
دمعة تتمسك بمنديل مبلل
ريشة بومة عالقة على كتف فستان أزرق
صرخة تتسلق الأزرار
درب منهك ينام على مشبك ملون
قشة صبر تحاول القفز نحو الفراغ
ثقوب تحدق من وردة جافة
كيس وسادة تهزه الرياح يسقط منه السر
عندما مر الغيم
حاول أخذ نهاري للضفة الاخرى
غسل يديه
تركوا الكثير من الفواصل
صبغوا الهوامش
جففوا الوقت
تركوا الذكريات على ظل حبل الغسيل
والمطر يحسن تطهير الاحزان
كنت أبحث عن سري في بئر
أتنبأ عن سماع أخباره
أحاصر تأويلي
أحرر الذكريات
عاد السر في الليل ناسيا أين ترك قلبي
يحمل شمعة وتذكار من دمعة (12)
في هذ النص تقترن اللغة بالمعطيات الحسية الخارجية، فتتماهى معها ضمن اعطاء المفردات ابعاداً رؤيويه متميزة بعيداً عن صورته الحسية والتقليدية كالألوان والاصوات والإحساس واللمسي والحركي:
دمعة تتمسك بمنديل مبلل/ ريشة بومة عالقة/ على كتف فستان أزرق/ صرخة تتسلق الأزرار/درب منهك ينام على مشبك ملون/ قشة صبر تحاول القفز نحو الفراغ/ ثقوب تحدق من وردة جافة/ كيس وسادة تهزه الرياح يسقط منه السر..
في هذا المقطع الشعري الباذخ بالصور نرى كيف ينحسر المدرك الحسي يقابله مخيلة منتجة للصورة المجردة، ويشكل الخيال في هذا النص عنصراً فاعلاً في خلق الإمكانات التأويلية الذي يحفز المتلقي على تنامي الخيال عبر المدرك الحسي للصور المجردة.
كما نرى كيف ان مفردات النص خرجت عن علاقتها المألوفة والمعتادة أو علاقتها المجازية. كما نرى في كل هذه المعطيات رمزاً معبراً موحياً، فالحواس نوافذ الإنسان على العالم الخارجي، فالشاعر الرمزي موفور الاحساس متيقظ الجوارح، يغرق في الاشياء من حوله فيصبح مصوراً تلتقط عينه الالوان والظلال والاشكال ثم يترجمها بمختلف صفاتها ودرجاتها ودلالاتها. هذا التوجه انبثق رداً على المذهب العقلي الذي يلغي الحواس.
تحاول الشاعرة التخلص من أعباء الوعي وقيد العقل ومعايير التذوق الادبي التقليدي وتتجاوز الصور البلاغية المألوفة. ولا يشترط هنا أن تلتزم الصور بالمعايير التي حددتها البلاغة العربية المتزمتة والمتمسكة بأطرها الضيقة، بل تفجر اللاوعي المكبوت. وقد جاءت جمالية الصور في عفويتها حيث تعبر الشاعرة فيها عن التناقضات بالاعتماد على خلخلة المعايير التركيبية التقليدية وتدمير العلائق المنطقية والمعتادة بين التراكيب والصور.
في نص “ذبذبات” ص 80:
أتسلل مع أحلامي
هاربة من ضجيج الواقع
هناك كنت أستيقظ في السادسة صباحا
أعد لها الاكل وملابسها الفاخرة
وعند عودتها من وظيفتها كساحرة
نثرثر عن الوطن .. والحروب .. والحب
رسمنا لوحات عارية من الصدق
كتبنا قصائد وتركنا أحزاننا عليها
سبقنا الزمان بقرنيين ووصلنا إلى الجليد
حدثنا الصمت هناك … عن الحرية
ثم نعود مع اللاوعي
نحاول النسيان .
….
لم يمت
كان يحمل حلمه كغيره
كان يجلس على رصيف الأمل
يكنس غبار الخيال
تركته بالامس وهو يشعل سجارته
كان لديه ما يكفي من الرفاق
ليمنعهم من اليأس
و يحدثهم عن حبيبته وجديلتها التي في جيبه
لم يمت ..
صدقوني كان متعجلا يحاول العبور نحو المستقبل
….
في آخر محاولة للنجاة من المستقبل
تركت ذكرياتي في قنينة ووضعتها مع قارب لتهريب اللاجئين
غرق من في القارب ووجدث القنينة تلوح لي
……
خرجت مشاعري الدافئة للتجول في الشارع
كان الشتاء حياديا
عزل غيمة تحثني على الرحيل
عندما فاضت البلاد مني
تقمص مطر الاحلام دور الضباب
أين المكان ؟
أريد أن أنام وأخفف عن الغد أحلامه (13)
كيف للشاعرة أن تستيقظ في السادية صباحاً لتعد الاكل والملابس الفاخرة لأحلامها. بيد أن ذلك مجرد ذكرى للماضي، وحتى هذا الحاضر ليس أكثر من اغتراب داخل اغتراب. إذا كان الماضي هو الألم بكل صنوفه، فإن الحاضر هو أشد وأنكى. وإذا كانت الشاعرة تحدثنا عن الماضي فهذا لا يعني أن الحاضر هو الأجمل.
أتسلل مع أحلامي…./ هاربة من ضجيج الواقع…./ وعند عودتها من وظيفتها كساحرة / نثرثر عن الوطن .. والحروب .. والحب. الحب والوطن، والوطن والحرب، والحب والحرب والوطن، عليها: رسمنا لوحات عارية من الصدق/ كتبنا قصائد وتركنا أحزاننا عليها
في هذا النص تتوالد اسئلة لا متناهية: ما الماضي؟ ما الحاضر؟ وما المستقبل؟:
سبقنا الزمان بقرنيين/ ووصلنا إلى الجليد/ حدثنا الصمت هناك …/ عن الحرية / ثم نعود مع اللاوعي/ نحاول النسيان. في المقطع التالي هنالك ذات مجهولة قائمة في النص على الحذف:
لم يمت
كان يحمل حلمه كغيره
كان يجلس على رصيف الأمل
يكنس غبار الخيال
تركته بالأمس وهو يشعل سجارته
كان لديه ما يكفي من الرفاق
ليمنعهم من اليأس
و يحدثهم عن حبيبته وجديلتها التي في جيبه
لم يمت ..
صدقوني كان متعجلا يحاول العبور نحو المستقبل..
الماضي ألم، الحاضر اشد قسوة في الألم، والآن هنالك محاولة للنجاة من المستقبل:
في آخر محاولة للنجاة من المستقبل
تركت ذكرياتي في قنينة ووضعتها مع قارب لتهريب اللاجئين
غرق من في القارب ووجدث القنينة تلوح لي..
يلتزم النص بآلية الحذف والتكثيف قدر الإمكان، نصوصها القصيرة والمتوسطة، التي تشكل بنية نصية متكاملة، تتعدد دلالاتها، وتنبجس تبعا للآليات الانتقال من المحسوس إلى المتخيل التي تشتت الأشياء، وتعيد تجميعها هناك في اللاوعي، بحيث تتطابق وتتلاقى.
في هذا اللاوعي واللاشعور بغية الهروب من الواقع نرى كيف أن الاحتماء بالحلم والخيال يجوهرُ مفاهيمه في جملة من الآليات منها: الدعابة، والسخرية، والهذيان، والحلم، والجنون، العفوية، واستبطان الوعي.

الخاتمة
       في انحسار للمدرك الحسي يقابله مخيلة منتجة للصورة المجردة تشتغل نصوص هناء محمد راشد حيث يشكل الخيال فيها عنصراً فاعلاً في خلق الإمكانات التأويلية للنصوص الذي يحفز المتلقي على تنامي الخيال عبر المدرك الحسي للصور المجردة.. وتقوم مجموعة نصوص “ملاذ سريالي”على تقويض للحسي المرئي نحو الحسي اللامرئي المدرك عبر المتخيل، ما يعني اخراج الأشياء المرئية من حيزها الحسي إلى المتخيل عبر توظيف الحسيات وخلق صور مغايرة تبث في نفس القارئ الشعور بالدهشة. وتتميز النصوص بالكثافة والتركيز والتحرر من الموضوعات الشعرية السائدة. وتتابع الصور الشعرية، محتشدة بالمفاجآت والتوجه صوب العثور على لغة تخلو من رقابة الوعي، محتشدة بتراكيب غير مألوفة.. إن اتجاهات ما بعد الحداثة لقصيدة النثر لم تركن إلى نمط يحدد مساراتها تجاه الحسي والمتخيل، فيما عمد الشعراء إلى مستوى من التمثيل الحسي ومعالجته بالمخيلة التي افرغت الحسي من محتواه، ما يعني أن الاستعانة بالتمثيل الحسي في خلق الصور الشعرية كان فعلاً مقصوداً جعلها تنتظم فيه فيما بعد بعلاقات متخيلة.

الهوامش
__________
1. انظر جريدة السفير، مقابلة مع الشاعر اليمني فتحي أبو النصر، 2 يناير 2011.
2. نفس المرجع.
3. محمد اللوزي- وقفة سريعة مع نصوص هناء محمد راشد..
4. د. رحيم الغرباوي، كاهنة الحمام رؤيا أسطورية بين الواقع والُمتخيَّل.. قراءة في قصيدة (سميراميس)، صحيفة المُثقف، 4 فبراير 2017
5. الصورة الشعرية عند ادونيس، طالب حليف السلطاني، 2012، مجلة ملية اباربية الاساسية، جامعة بابل, ص 7-8
6. نفس المرجع ص 8
7. نفس المرجع ص 11
8. شعرية الحداثة ، عبدالعزيز ابراهيم، 2005، منشورات اتحاد الكتاب العرب. ص 13
9. غالي شكري، شعرنا الحديث إلئ أين، دار الافق الجديدة، بيروت لبنان، ط2، 1978، ص 76
10. بشري بن خليفة، القصيدة العربية في النقد العربي الحديث، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2006، ص 15
11. هناء محمد راشد، ملاذ سريالي، مكتبة ابن خلدون، صنعاء، ط1 ، ص 163
12. نفس المصدر ص 45
13. نفس المصدر ص 80

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى