أدب

الجيزاوي شاهد عيان على الأمكنة

بقلم: د. سلطان المعاني*

“الكلام صيّرني في بطن الحوت”.

تأخذ رواية “مواقيت الصمت” للكاتب خليل الجيزاوي، على عاتقها مناقشة قضايا تجتاز الخطوط الحمراء في الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإداري، ففيها جرأة انتقاد الواقع المعاش وتلمس احتياجه والإعلان عن قضايا الفساد الإداري المتفشي، والفساد السياسي الذي ترتسم خيوطه الظلامية في ليالٍ حمراء ومساءات يغيب فيها العفاف، وفي أطفال قادتهم ظروف المجتمع القاسية إلى الشوارع تصنع بهم كيف تشاء.

وقد أعلن الجيزاوي في رواية قمينة بالقراءة هدم جدران الصمت وتعطيل كل مواقيته ليترك لأولئك الضحايا مساحة التذكر والبوح والكلام، هذه هي الفلسفة التي تحملها الرواية، إذ تؤطر رؤية صاحبها للحياة الواعية، أي “للإدراك والسلوك والوجدان”، وتُستهل الرواية بوظيفة افتضاح الرذيلة بصورتها المعكوسة، حيث يبيع الرجل جسده للبغايا، وتبين عالم الكواليس والصفوف الخلفية وهي تدير دفة المجتمع والسياسة، وهكذا تنهار جدر ويسقط ورق توت، فالرواية على هذا المستوى المورفولوجي لا تعلن الاستسلام ولا تجسد الغياب، بل تواجه الخداع محذّرة من الشر المستشري، ومن الفعل المضاد أو الانسحاب أو السلبية استكانة لأمنيات فعل سحري يحسم الصراع.

إن الواقع الذي تتناوله الرواية في الشارع المصري يجسد حال الواقع العربي من الماء إلى الماء، وتبقى الرواية الأقدر على إجلاء الصورة وافتضاح أصحاب الصدأ المجتمعي، فهو مجتمع يصرخ فوق ما يصمت.

وتمضي الرواية في التمهيد لأجوائها في مدلجات حميمة تظهر اقتراب الفكرة في أولياتها من القلب وتؤثث في الوجدان أسباب الرجاء في فضاء من الإرادة يكسر جدر الصمت، ففي لحظة عبور لعتبة من عتبات الرواية يُدخلنا الجيزاوي مدخلاً لطيفاً في أجواء الحي المصري الذي تعلق به مريداً صوفياً لا يطيق الفراق حيث “السيدة زينب” وما علق في الوجدان من رواية “قنديل أم هاشم” ليحيى حقي التي درسها طالباً فغدا عاشقاً متصوفاً.

إنها دوائر فعل ترفعها الرواية إلى سرديتها حيث يلمح المبدع قضايا مجتمعه المعاش بالمحايثة اليومية، ويسأل عن أدوات الإبداع التي تشارك البحث الاجتماعي في تشكل لحمة النهوض بالقضية إلى الحل أو على أقل تقدير رفعها إلى قضايا الرأي العام أو الظاهرة الاجتماعية. هذه في الدوائر التي انبرى لها مثقف في رواية تكتمل فيها عناصر العمل الإبداعي الذي آثر أن يكون واضح الرسالة مثلما هو متجلٍّ في حال الإبداع.

لقد جعل الجيزاوي من روايته ملحمة مجتمعية حقيقية كرست الواقع والمتخيل والأسطوري والتراثي والبحثي، وقد احتشدت لها مقومات النجاح من أطرافها، حتى يدهش القارئ والناقد من هذا الحضور الاحتشادي للقضايا وذاك السبك السردي المتين لتخرج لنا رواية بهذه القامة الإبداعية التي لم تَعُزْها أدوات الألق والتميز.

ويقفز، مع عنونة الرواية “مواقيت الصمت”، سؤال قلق مستفز، يحمل معاني الحيرة ولهفة الترقب، ويخبئ مخاوف استكمال العنوان، وهو، على أية حال، هاجس استباقي، أفلح فيه الجيزاوي إذ تخلص من سُبَّةِ الاستكانة للصمت، وقائمة الموروث التي تؤصل له، والذي أطل برأسه في عنونة كثير من الإصدارات العربية، مكرسة خطوط الخريطة النفسية المهادنة على حساب تغليظ خط الإطار الناظم لضرورة الكلام، فهل ينبغي تناول مستقبل الإنسان العربي والثقافة العربية ملونة بجغرافية الخريطة البشرية الصماء؟ أو تلك المزركشة بألوان الطيف الترقيعي، لا ينظمها فكر أو تثاقف، سوى صدفة التلاقي بحتمية التضاريس والأنسنة؟ والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه: هل نلوي إلى قزامة بشرية عربية؟ أم كما ينبه أحمد ماضي ننشد تنمية ترتبط بالمنحى الإنساني، فإذا ارتقى الخطاب إلى أفق الشأن الثقافي، فإن مشروعاً ثقافياً بأبعاد قومية، بلبوس ديمقراطي، يسبح في فضاءات الطرح الإنساني، سيرقى بالمجتمع إلى شرعية الجواب: “قولوا لي ما حال الثقافة، وما الدور الذي يضطلع به المثقف في المجتمع، أقول لكم ما هذا المجتمع”.
إذا كان السمع والبصر الحاستين الأكثر عقلانية في إعطائنا مصدر الإعلام بصورة عامة خارج مدانا، فما الصمت سوى إشارات تصل إلى عقولنا في إسقاط نفسي يمنحنا فهم كنهه إحساساً يسبق الحركة، فالصمت جزء من ذاكرتنا الإنسانية، لا يفتأ يرقى إلى فعل وحركة ليتحول وينتشر في المناطق النفسية والفكرية للإنسان أو الكائن الحي عموما. ويبدو أن مسألة الإحساس بفقدان الإنسان قيمة وجوده قضية أزلية، تطفو على السطح بتلونات مختلفة فردية وجماعية، أو بتشكلات محورية سياسية ودينية وثقافية.

إلا أن ما تتناوله رواية “جدران الصمت” في هذا المقام ليس بالضرورة ما رمت له الفلسفة الهيجلية وحسب، إذ إن ذاك جانب يصطف إلى جانب الشعور بالنهب ومحو الأثر بتعاقبية الحدث عن طريق الاستقواء أو غياب الطرف المُستَلَب بحتمية التوارث (ربما غير المشروع أيضاً) بين البشر أو بهيمنة المكيافيليّة بتبرير الوسيلة في سبيل الغاية.
ويتحرز الجيزاوي في سرده القصصي للفكرة ألاّ يُحاكم النص إلا وفق السياق الروائي دون إغفال الدلالي الاصطلاحي. 

ومن هنا شكلت عتبات الرواية مؤثثات لخلفيات العمل الإبداعي في “مواقيت الصمت” وفق الأنساق الثقافية والاجتماعية والأنثروبولوجية وربما الميتافيزيقية. فالصمت الذي يعلن سلوكا إنسانيا مغايرا، يعاند الكلام الذي نقبض فيه على اللغة والمنطوق والفكرة ونؤطر الزمان والمكان والناس في الدائرة الكلامية التي ارتسمنا، غير أن الصمت يظل متجاوزا لكل ما سلف في سبيل فضاء لا أطراف له، يقف على مسافة واحدة من كل الاحتمالات، فإن اصطفت إلى يمين الصمت معاني الحكمة فقد ترادفت معه مفردات الموت والقمع والانهزام، فالسؤال: هل الصمت في لغة الاضداد يقابل البوح؟ لقد جعل عنوان الرواية للصمت مواقيت، وكأنما هي أيام كأيام العرب تجاوزوا فيها العدّ الميكانيكي للزمن وتوقفوا على مواقيت مفصلية وثقت لترات تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة، وكم كان الحق في تلك الأيام أخرس، ونبت للباطل فيها ألف لسان، وقد جاءت مواقيت العرب بأيامهم تلك مواقيت للصمت في تداعٍ آخر يجسد عتبة الرواية الثاني في المثل الشعبي: “الحق  أخرس والباطل له ألف لسان”.

ووفق أسلوب المينوجرام يكثف الروائي في نص موازٍ قصة التوأمين لنكتشف بعد المضي في قراءة الرواية أن موفقية عالية من الجيزاوي تأخذك معه إلى الزوايا التي يرغب في مشاركتك إياه وجع تمخضها.

إن مينوجرامات التوأم تبادئ فصول الرواية ومشاهدها وشاية بالروح السائدة في ما سيتلو من صفحات بانتظار مينجرام آخر: قالوا: “إن التوأم الثاني الذي يبقى على قيد الحياة يعيش بنصف روحه فقط!”، وهنا ندلج في صراع الأنا والآخر: “أقف أمام مرآة الدولاب، أتأملني، تُواجهني الأخرى، أبتسم، تخرج لسانها، تسخر مني، أقترب من المرآة، أدقق النظر، أرصد ملامحي، تهتز الصورة، كأنني أنظر في مياه تتزلج مويجاتها القصيرة، تفر ملامحي التي أعرفها، تُواجهني الأخرى بملامح جامدة، باردة، غريبة عنّي، ألمس شعري، أمسك رأسي، أقبض عليها بيدين عفيّتين، الصداع اللعين يكاد يفتك برأسي، أسمع الأُخرى تضحك، تضحك، ساخرة، شامتة، أقترب أكثر، السؤال الحائر يقف في حلقي كغصة مرّة، من أنا؟”، ويأتي هذا السؤال الحائر تشظياً في مرايا محدبة تختلط بعشوائية فيها ضمائر الملكية بين الأنا التائهة بين المرء وظله، أو بينه حياً أو ميتاً يحلُّ جسداً، وهي ضمائر لا تفتأ تعلن اغترابها في ضمير الغائب والغائبة والهؤلاء، وهم في تنكيرهم هذا لا يختلفون البتة عن عنوانات الفصول بأسماء سعيد وعلي وهيثم وصابر وعلاء وهيمة وأم شحتة وجنينة، الذي عاشوا ضحايا التهميش المجتمعي والعنف الأسري ليصهل هذا العمل الروائي الرافض حيثما كان ظلم أو جور. 

وتلّح “مواقيت الصمت” على فرض نفسها ذاكرة وشاهد عيان على الأمكنة والأحداث في تعاقب ركن الزمن الشخصي، أي العمر بمراحلة، بدءاً بالطفولة المبكرة للتوأم حتى منتهى الرواية، فهي ترصد روافد واقعية في سيرة الذوات الأنا وهو وهي وهؤلاء، ولم يكن الرواة متصالحين مع كثير من الأمكنة، فهم في جميعها دفعةً واحدة؛ جسداً هنا، ذهناً هناك، تمنياً في ثالث، وهي مؤشرات دونما ريب على إحساس بالضياع المتجلي بتوالي الهزائم المجتمعية والأزمات الشخصية. 

وليس صدفة أن تبدأ الرواية على النهوض التدريجي في رصد الحراك الذي أودى بكل الشخوص إلى دروب التهميش والاغتراب التي رسمت الرواية بوضوح وشفافية، وليس صدفة أيضاً أن تكون لوحة الجدار فاتحة الرواية، ومدخل الراوي إلى عالم الرواية، فلم يبق إلا أن ينهض الأموات لنقرأ الاغتراب على تجليه، ذاك الذي تناولته رواية دانييل ديفو العملاقة “روبنسون كروزو”،

إن صورة السفينة أو الأب الميت الذي يقفز على جدران الموت والصورة في هاتين الروايتين وغيرها في الأعمال الأدبية رمز للارتحال والغربة، والتأهب المشوب بالقلق والخوف من غرق مفاجئ يصحبه العجز من مواجهة تلاطم الأمواج والأعاصير. والأمر في مغزاه النهائي يقترب أشدَّ الاقتراب من عنوان الرواية.

ــــــــــ

* الدكتور سلطان المعاني أستاذ تراث الشرق الأدنى القديم بالجامعة الهاشمية عمان الأردن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى