مقال

السرد الفلسفي في رواية (عالَم صوفي) للكاتب النرويجي جوستاين غاردر

بقلم: عليّ جبّار عطيّة

إذا كنتَ من عشاق الفلسفة فأنتَ مدعو إلى حفلة فلسفية في كتاب جاء بقالب رواية هو (عالَم صوفي) للكاتب النرويجي جوستاين غاردر، وقد ترجمتها عن اللغة الفرنسية الدكتورة حياة الحويك عطية.


ولد كاتب الرواية وأستاذ الفلسفة جوستاين غاردر عام ١٩٥٢م في النرويج ،وله روايات مثل (القلعة في البيرينيه)، و(عالم أنّا) وغيرهما وبعد أن كتب روايته (سر الصبر)سنة ١٩٩٠لفت إليه الأنظار لكنَّ شهرته المدوية بدأت عندما نشر رواية (عالَم صوفي) سنة ١٩٩١م التي تُرجمت إلى ٥٩ لغة، ومازالت تعد أعظم إنجاز أدبي في تاريخ النرويج.
أما المترجمة حياة الحويك عطية فهي كاتبة وباحثة ومترجمة أردنية. ولدت في لبنان سنة ١٩٤٩م، وحصلت على البكالوريوس في الحقوق من الجامعة اللبنانية، وعلى الدكتوراه في وسائل الاتصال من كلية الإعلام في جامعة السوربون الفرنسية.
توفيت في القاهرة سنة ٢٠٢١م.
بدأت شهرة رواية (عالَم صوفي) عند ظهورها سنة ١٩٩١م لكنَّ ذلك لم يكن هو الداعي الأساس لترجمتها إلى اللغة العربية، وإنما لأنَّ مكتبتنا تفتقر إلى هذا النوع من الكتب التي تعرض تاريخ الفلسفة بأسلوب سلس ومبسط للغاية .
يقول الكاتب جوستاين غاردر : (سؤال واحد يمكن أن يفجر ما لا يفجره مئة جواب) ص ٧١
وهذا كما يرى هو منهج جميع الفلاسفة : من الضروري أن نسأل ولكن لا مبرر للاستعجال في تقديم الجواب. ص ٤٠٤
يقود ذلك إلى القول : إنَّ الرواية لا تقدم أجوبة فلسفية بل هي كما يقول تشيخوف : لا تحتاج إلا أن تطرح الأسئلة الصحيحة.
حاول المؤلف غاردر أن يصوغ أفكاره الفلسفية بأسلوب روائي من خلال حبكة افتراضية بسيطة محورها صبية تدعى صوفي أمندسون تستعد للاحتفال بعيد ميلادها الخامس عشر تتلقى رسائل غامضة من أستاذ فلسفة في الخامسة والسبعين من العمر يدعى البرتو كونكس.
يجد المعلم استقبالاً جيداً لأفكاره من صوفي من خلال رسائلها الجوابية وإثارتها للأسئلة الذكية عن الكون والخير والشر والقدر والموت والحياة الأخرى، وغيرها فتكون الفرصة سانحة للتعريف بالفلسفة من نشوئها قبل سبع مئة سنة قبل الميلاد إلى فيلسوف الوجودية جان بول سارتر.
تبدأ الرحلة المعرفية بالقرن السابع قبل الميلاد، وعبر الفلاسفة الطبيعيين في بلاد الإغريق الذين قالوا :إنَّ الوجود يتألف من أربعة عناصر هي الهواء والماء والتراب والنار، ثم جاء بعدهم الفلاسفة السفسطائيون فمنذ سنة ٤٥٠ ق. م. أصبحت أثينا العاصمة الثقافية للعالم اليوناني، وشيئاً فشيئاً بدأ شكل من أشكال الديمقراطية يرى النور، وكان أحد الشروط الضرورية لإقامة الديمقراطية أن يصبح الشعب مستنيرًا ليستطيع المساهمة في المشروع الديمقراطي فالحاجة تطلبت نوعاً من التربية الشعبية عند الأثينيين لإتقان فن الحوار (الجدل) فجاء الأساتذة السفسطائيون المعروفون بالثقافة وسعة الاطلاع والكفاءة من المستعمرات الإغريقية ليعلموا الأثينيين (الفلسفة الارتيابية) فلا يوجد شيء يقيني والإنسان لا يستطيع الوصول إلى اليقين لكن عليه أن يعرف كيف يعيش مع أخيه الإنسان.
تمضي الرواية لتصل إلى أنَّ العصر الحقيقي للفلسفة بدأ عبر سقراط الذي عاصر السفسطائيين، وانطلق مثلهم من الحياة اليومية للناس.
ظهر سقراط (٤٧٠ ـ ٣٩٩ق.م.)متبنياً الفلسفة العقلية وهو لم يكتب سطراً واحداً لكن تلميذه أفلاطون نقل لنا أفكاره التي أحدثت دوياً كبيراً في الفكر الأوربي على مدى ٢٥٠٠ سنة برغم نهايته المأساوية بعد إدانته بالترويج لآلهة جديدة، وإفساد الناشئة.
كان سقراط يؤكد أنه يسمع صوتاً إلهياً داخله ويضع ضميره والحقيقة في موقع أهم وأعلى من حياته، ويعمل لأجل الصالح الاجتماعي، وينتقد الظلم وغياب العدالة وإساءة استعمال السلطة.
يقول سقراط : تشبه أثينا حصاناً كسولاً وأنا أشبه بذبابة تحاول إيقاظها وإبقاءها حية. ص٦٨
يصف الفيلسوف شيشرون سقراط بأنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وتركها تعيش في المدن، تدخل البيوت مجبرة الناس على التفكير بالحياة، بالتقاليد، بالخير والشر. ص٧٠
حكم على سقراط بالموت لكنَّ أفكاره نقلها لنا تلميذه أفلاطون الذي مارس التدريس خارج أثينا بمكان يحمل اسم بطل إغريقي يدعى (أكاديموس) ومنها اشتق مصطلح الأكاديمية. قسم أفلاطون الوجود إلى عالمين عالم الحواس وهو كل ما يمكن أن نراه ونلمسه بحواسنا، وعالم الأفكار، وهي الأشياء التي توجد خلف عالم الحواس، وهو الذي يسمح لنا بالوصول إلى المعرفة الحقيقية عبر استعمال العقل.
أما أرسطو تلميذ أفلاطون
(٣٨٤ ـ ٣٢٢ق.م.) فقد رأى أن الواقع يتألف من الشكل والمادة، وقال بوجود قوة تسيطر على حركة الأجرام والكواكب والفضاء، وهذه القوة سماها المحرك الأول أو العلة الأولى أو الله.
كان أفلاطون شاعراً ومبدع أساطير بينما تتسم كتابات أرسطو بالجفاف والوصفية.
والثقافة الأوربية مدينة لأرسطو بتبلور لغة علمية خاصة بكل علم. ص ١٠٨
بعد انهيار الدولة الرومانية جاءت العصور الوسطى التي توصف بالسوداء، مع وجود فلاسفة مسلمين يذكرهم المؤلف كالكندي وابن رشد وابن باجة وابن خلدون وغيرهم.
في نهاية العصور الوسطى ظهر فيلسوفان غربيان هما توما الأكويني وأوغسطين، وعملا على التوفيق بين فلسفة أرسطو والإنجيل. بعد ذلك في القرن السابع عشر جاء الفيلسوفان رينيه ديكارت وباروخ اسبينوزا اللذان عملا على تكريس المنهج العقلي، الذي يقوم على الشك في كل المسلمات حتى إقامة الحجج والأدلة على صحتها، ومعروف عن ديكارت مقولة ( أنا أشك إذن أنا موجود).
يتناول المؤلف الفلسفة المادية ورائدها كارل ماركس التي تفسر كل شيء مادياً من بدء الوجود حتى سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج التي يُفترض أن توزع الثروة على الجميع بالتساوي.
ثمَّ يقول : لا يمكن إنكار أنَّ الماركسية ساهمت في جعل المجتمع أكثر إنسانية، على الأقل في أوروبا، حيث صرنا نعيش في مجتمع أكثر عدالة وتضامناً. ص ٣٩٤.
ويمر بالفلسفة التجريبية التي ظهرت في بريطانيا على يد جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم، وهي ليست مؤمنة ولا ملحدة، بل هي أقرب إلى اللاأدريين.
أما الألماني عمانويل كانط فقد كان وسطاً بين العقليين والتجريبيين، حيث بالغ العقلانيون في دور العقل، وبالغ التجريبيون في الوقوف عند تجاربهم الحسية، فبرأي كانط تلعب إدراكات العقل والحواس دوراً كبيراً في المعارف التي يحصل عليها الإنسان.
في فرنسا أدت أفكار الفلاسفة التنويريين إلى الثورة الفرنسية وهم فولتير، وجان جاك روسو، ومومنتيسكيو بالتمرد على السلطة، وتبني العقلانية، والتنوير، وحقوق الإنسان، والعودة إلى الطبيعة وهم يرون أنه يكفي أن ننشر العقل والمعرفة لتتقدم البشرية بخطى عريضة لنجد الحلول للمشكلات، ثمَّ ظهرت الرومانسية كرد فعل لتمجيد العقل، واهتم الرومانسيون بالمشاعر وظهر موسيقيون أفذاذ كبيتهوفن وباخ وهاندل.
مع كارل ماركس جاءت الفلسفة المادية، التي تفسر كل شيء مادياً من بدء الوجود حتى سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج التي يُفترض أن توزع الثروة على الجميع بالتساوي.
خصصت الرواية حيزاً لصاحب نظرية التطور التاريخي للإنسان تشارلز داروين، ومؤسس علم التحليل النفسي سيغموند فرويد الذي برهن أنَّ كل الناس هم، بشكل ما فنانون. فالحلم هو بحد ذاته عمل فني ونحنُ نحلم كل ليلة.
وقد اضطر فرويد للجوء إلى سلسلة من الرموز ليتمكن من تفسير أحلام مرضاه كما نفعل عندما نحلل لوحة فنية أو نصاً أدبياً.
حين ينتهي القارىء من هذا الكتاب الشائق والثري ستنسيه المعارف التي أخذها عن تجنيسه، ويقل اهتمامه بمعرفة مصير صوفي وأسرتها؛ لأنَّه وجد ما يغنيه عن السرد التقليدي بسرد فلسفي ولعلَّه يتفق مع الكاتب حين يتساءل في آخر الرواية : أليس من الأفضل أن نعيش، ولو حياة غير حقيقية من ألا نعيش أبداً ؟

*رواية (عالَم صوفي) للكاتب النرويجي جوستاين غاردر، ترجمة حياة الحويك عطية / دار روائع المطبوعات، عدد صفحات الكتاب ٥١٢ صفحة من القطع المتوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى