مقال

مسجد قاني باي الرماح.. زهرة ذات مئذنة مزدوجة..!

الفنانة التشكيلية أميرة عبدالعزيز | القاهرة

نه كنز من كنوز مساجد القاهره جوهرة ودرة الشرق ذلك مسجد الذي يعد آية في الجمال بديعة الصنع والإتقان في تشييد العمارة الإسلامية ويا لروعة المقرنصات الرائعة التي تزينه والمئذنة المزدوجة الفريدة التي تأخذ عقلك رغم ما يحيطه من إهمال وتصدعات خاصة مع تهدم الأجزاء الخلفية من المسجد من ناحية بيت المعمار المصري وبالرغم من ذلك تشعر أنك أمام بناء ساحر لبناته طوبة من الذهب وطوبة من العقيق الأحمر حاملاً مئذنة مزدوجة ” مشقوقة من أعلى كأنه قلب واحد إنشق إلى نصفين “

أنشأَ هذا المسجد الأمير قاني باي السيفي الشهير بقاني باي الرماح (عام 908 هجرية الموافق عام 1503م) في أيام السلطان المملوكي قنصوة الغوري الذى حكم مصر بين (عام 1501م وعام 1516م) وأُلحِقَ به سبيل وكتاب وقبة ومن ثم أصبحت هذه المنشآت تمثل مجموعة سميت بمجموعة الأمير قاني باى الرماح كما كان يوجد خلف هذه المجموعة قصر بناه هذا الأمير لسكناه وهو أحد أمراء السلطان الأشرف قايتباى وكان في الأصل مملوكاً جاء إلي مصر صغيراً دون سن الحادية عشرة وإشتراه رجل يُدعى ولي الدين قبل أن يشتريه السلطان قايتباي وبعدها أصبحَ موضع عنايته حتي أنه أعتقه ومنحه المال والأسلحة والخيل وقام بتعيينه في عدد من الوظائف وترقى إلى أمير سنة 1493م ثم عين أميرا لحلب ثم عاد إلى مصر مرة أخرى وتزوج إبنة الأمير يشبك وأنجب منها إبنه الناصري محمد وفي سلطنة محمد بن قايتباي مابين عام (1496م وعام 1498م) أصبح مقدم في عام (1496م وفي العام التالي 1497م) ترقى إلى أمير آخور كبير أى الأمير المشرف على الإصطبلات السلطانية وكان هذا المنصب من المناصب الهامة في الدولة في وقت كانت فيه الخيول هي مركبات الحرب وشارة من شارات الشرف العسكري ثم أفَلَ نجمه لبعض الوقت بعد ذلك إذ تعرض لوشاية ذهبت به إلي السجن وعندما تولى السلطان الأشرف جانبلاط أُفرج عنه وأعاده إلى منصب أمير آخور وفي عصر السلطان قنصوة الغوري سطع نجمه مرة أخرى وأوكل إليه السلطان الغوري القيام بعدة مهام أهمها أنه ترأس حملتين عسكريتين للشام ضد الشاه إسماعيل الصفوي الأولى خلال عام (913 هجرية الموافق عام 1508م) عندما تخوف السلطان الغوري من إغارة الصفوي علي حدود مصر الشرقية والثانية خلال عام 920 هجرية الموافق عام 1514م وكان ما إرتكبه قاني باي وعساكره من أفعال بحق الحلبيين سبباً مباشراً في نقمتهم علي المصريين حتي أنهم سارعوا في التعاون مع السلطان سليم بن عثمان حينما طرق المملكة المصرية في عام (922 هجرية الموافق عام 1516م) و كانوا معه في حربه ضد السلطان الغورى سلطان مصر ودورهم في معركة مرج دابق التي قُتِلَ فيها السلطان الغورى معروف ومشهور، وقد إشتُهِرَ قاني باى الرماح بمساعدته لفقراء الحجاج الذين كانوا يصاحبونه في موكب الحج الرسمي كما كان شغوفاً بإقتناء الكتب وجمع المصاحف وقد إشتُهِرَ بالشجاعة والفروسية وبإجادته اللعب بالرمح ولذلك فقد أُطلِقَ عليه لقب الرماح وقد توفى عام (921 هجرية الموافق عام 1515م) ودُفِنَ بالضريح الموجود بمسجده والذى يقع تحت القلعة بالجانب البحري من ميدان محمد على بحري مسجد المحمودية وهو مبنى على ربوة عالية وله واجهتان إحداهما شرقية وبها واجهة الإيوان الشرقي والقبة والثانية قبلية وبها واجهة القبة والمدخل الرئيسي والمنارة .


وقد أنشئ هذا المسجد على نظام المدارس ذات التخطيط المتعامد إذ يشتمل على صحن مكشوف تحيط به أربعة إيوانات معقودة ويعد هذا المسجد من المساجد المعلقة وبه عدد من الحجرات التي توجد بها مزاغل بالواجهة القبلية ويمكن الوصول إلى باب المسجد ببضع درجات تؤدى إلى باب لبس عتبه الحجري برخام ملون ومكتوب على جانبه أمر بإنشاء هذه المدرسة المباركة من فضل الله المقر الشرف العالي المولوي السيفي قاني باي أمير آخور كبير أعزه الله تعالى وقد إختلف هذا المسجد عما سبقه من مساجد المماليك الجراكسة في طريقة تسقيف إيواناته فبينما نرى أسقف المساجد التي أنشئت في هذا العصر إتخذت من الخشب وحليت بنقوش مذهبة جميلة نرى أسقف هذا المسجد إتخذت جميعها من الحجر على هيئة عقود متنوعة الأشكال تحملها أكتاف حجرية مربعة ونستطيع أن نقول أن هذه المجموعة تعد علامه مميزه في أعمال النحت و الزخرفة علي الحجر في العصر المملوكي بل إنه من أجمل المساجد التي تجعلك تشردُ بذهنك وتتخيل ذلك العصر، أما عن إيوان القبلة فيغطيها قبة كروية الشكل مبنية من مداميك من الحجر الأبيض والأحمر واحد تلو الآخر ومحملة على أربع عقود أحد هذه العقود هو المطل على صحن المسجد ويكتنفها قبوان دائريان من الجانبين والإيوانان الجنوبي والشمالي صغيران وعقودهما مدببة والإيوان الغربي سقفه معقود بقبو متقاطع والمحراب الرئيسي للمسجد يقع في الواجهة الجنوبية له في صدر إيوان القبلة وهو من الحجر ويجاوره منبر خشبي صغير به حشوات مجمعة على شكل أطباق نجمية مطعمة بالعاج وعلى جانبي المنبر يوجد دولابان خشبيان مُحليان بزخارف نباتية مورقة وعلى جانبي إيوان القبلة شبابيك نُقِشت أعتابها بزخارف دُقت في الحجر مما يبرهن على أن أرجاء المسجد كانت حافلة بالزخارف البديعة، وحول صحن المسجد أربعة سُجِلَ على كل واحد منها نص يدل على إنشاء المسجد وتؤدي هذه الأبواب إلى ملحقات المسجد وهي القبة والميضة كما تجدر الإشارة إلى أنه بالقبة ضريحان أحدهما للأمير قاني باي مشيد المسجد.
وترتفع المئذنة على يسار الباب الرئيسي للمسجد وهي مبنية من الحجر وتشبه إلى حد كبير المئذنة التي أضافها السلطان قنصوة الغورى للجامع الأزهر والتي تُعتبر أحد العلامات المميزة في سماء القاهرة والناظر إلى ميدان القلعة بالقاهرة يمكن أن يرى فيما يحيط به من منشآت أثرية حديقة غنَّاء من المساجد زهورها المآذن المتنوعة الأشكال والمتباينة في أحجامها وإرتفاعاتها إلا أن مئذنة مسجد قاني باي الرماح تبقى فريدة في نوعها وجديرة بالتأمل وحدها حيث تتكون من ثلاثة طوابق جميعها تعتمد على المسقط الأفقي المربع فالطابق الأول المتعامد الأضلاع نجد بوسط كل ضلع من هذه الأضلاع الأربعة فتحة إضاءة مربعة تتوسط حنية على جانبيها عمودان رخاميان رشيقان يحملان عقدا مدببا ويتوج الطابق الأول صفوف من المقرنصات الحجرية التي تحمل شرفة آذان مربعة ذات سياج خشبي أما الطابق الثاني فقد جاء متعامد الأضلاع أيضا عوضا عن إستخدام المقطع المستدير أو شكل المثمن كما هو الحال في أغلب المآذن المملوكية ولكن هذا الطابق جاء أقل إرتفاعا وسعة من الطابق الأول وكأنه صدى له حتى فيما يتعلق بالمقرنصات التي تتوجه إذ جاء عددها أقل أيضاً وعمد المهندس الذي أبدع هذه المئذنة إلى الحفاظ على إيقاع دوراتها فجعل الطابق الثالث متعامد الأضلاع أيضا ولكن على هيئة بدنين مربعين صغيرين حليا بالمقرنصات وتوج كل واحد منهما بخوذة قبة صغيرة تعرف في مصطلح العصر المملوكي بإسم القلة وهذه الوحدة التي تجمع مكونات المئذنة مع الحفاظ على إيقاع السعة والإرتفاع المتناقص كلما إتجهت الى أعلى منحت مئذنة قاني باي شخصيتها المتفردة وسط كل مآذن ميدان القلعة وهذا النموذج من المآذن المملوكية ظهرت له نماذج تميزت بإستخدام الرأس المزدوجة في قمة المئذنة ولكن مئذنة قاني باي تختلف عنها في إعتماد المقطع المتعامد لكل أجزائها .
وملحق بهذا المسجد قبة ضريحية كانت هي أول ماتم بناؤه من هذه المجموعة وهذه القبة من القباب الحجريه العملاقة التي لم نر لها مثيل خارج مدينة القاهرة وهي من النماذج القيمة التي تتجلي فيها عظمة القباب المملوكية فهي بارزة عن واجهة المسجد الرئيسية وبنواصيها عمد حجرية منقوشة ونقش سطحها الخارجي بزخارف مورقة جميلة على طراز الأرابيسك جعلت خوذة القبة عنواناً على تآلف الفن المعماري مع الفنون الزخرفية الإسلامية ونقشت حول رقبة هذه القبة كتابة بخط الثلث المملوكي نصها بسم الله الرحمن الرحيم الله لا اله الا هو الحي القيوم أمر بانشاء هذه القبة المباركة المقر الأشرف الكريم العالي السيفي قاني باي أمير آخور كبير الملكي الأشرفي أما جدران القبة من الداخل فقد غُطيت بوزرة رخامية إنتهت بإفريز تشابكت فيه زخارف بالمعجون الملون كما نُقِشَ عقد المحراب وطاقيته بجفوت متقاطعة ومكتوب أعلاه ( بسم الله الرحمن الرحيم قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ) ويحيط بمربع القبة من أعلى إفريز كتابي نقش به ( بسم الله الرحمن الرحيم وسيق الذين إتقوا ربهم إلى الجنة زمرا صدق الله العظيم ) أمر بإنشاء هذه القبة المباركة المقر الأشرف الكريم العالي المولوي الأميري الكبيري السيدي السندي الذخري العضدي المالكي المخدومي السيف قاني باي أمير آخور كبير الملكي الأشرفي بتاريخ مستهل من شهر شعبان المكرم عام ثمان وتسعمائة ومكتوب على باب القبة ( بسم الله الرحمن الرحيم إدخلوها بسلام آمنين ) ويعلوه سطر مكتوب فيه ( اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافة الدائمة في الدارين ).
وهكذا تتوالى العصور وتتعاقب الأزمنة والتاريخ باقي ما بقيت الآثار التي تحمل في طياتها حكايات ودموع وابتسامات وانكسارات وانتصارات تعلق في ذاكرة التاريخ والأماكن والشوارع والميادين.
وللحديث بقية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى