مقال

من درر الرافعي.. روحانية الوضوء

الوضوء طهارة للنفس من الخبائث قبل أن يكون طهارة للجسم من الأوساخ

بقلم: رضا راشد | الأزهر الشريف
لا يختلجن النفوسَ ريبٌ في أن العبادات البدنية ليست مقصورة معانيها على حركاتها الظاهرة؛ فليست الصلاة بالمقصورة المعنى على الركوع، والسجود، والقيام فحسب، وليس الصوم بالمنحصر معناه في الامتناع عن شهوتي البطن والفرج يوما كاملا، وليس كمال الحج في حركات الطواف، والسعي، والرمي، والتجرد من الملابس في الإحرام فقط ..بل إن الشارع الحكيم إنما جعل هذه الشعائر الظاهرة سبيلا لمعانٍ وأسرارٍ باطنة تفيد منها الروح ويتغذى عليها القلب. ولكنها أسرار خفية لا يُتَوصَّل إليها بالهويني ولا باليسير من الفكر، بل تحتاج إلى كد ذهن، وإعمال عقل، وحسن نظر، وصفاء قلب، وشفافية روح.. حتى ينفذ المتدبر في أسرار الشريعة -في كل عبادة- من الحركات الظاهرة إلى ما تشير إليه وتوحي به من المعاني الباطنة .
وفي النص التالي يقف بنا الرافعي – رحمه الله – على شيء من معانى الوضوء الروحية فيقول: “إذا قمت إلى وضوئك فأيقن في نفسك واعزم في خاطرك على أن في الماء سرا روحانيا من أسرار الغيب والحياة، وأنه رمز السماء عندك، وأنك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التى امتدت على أطرافك، ثم سم الله تعالى مفيضا اسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معا، ثم تمثل أنك غسلت يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا وأنك آخذ فيهما من السماء لوجهك وأعضائك، وقرر عند نفسك أن الوضوء ليس شيئا إلا مسحةً سماوية تسبغها على كل أطرافك ليشعر بها جسمك وعقلك، وأنك بهذه المسحة تستقبل الله في صلاتك سماويا لا أرضيا.
فإذا أنت استشعرت هذا وعملت عليه وصار عادة لك، فإن الوضوء حينئذ ينزل من النفس منزلة الدواء كلما اغتممت أو تكرهت أو تسخطت أو غشيك حزن أو عرض لك وسواس؛ فما تتوضأ على تلك النية إلا غسلت الحياة وغسلت الساعة التي أنت فيها من الحياة. وترى الماء تحسبه هدوءا لينا لين الرضى وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعا…وإذا الوضوء في أضعف معانيه هو ما علمنا من أنه الطهارة والنظافة، أما في أقوى معانيه فهو إفاضة من السماء فيها التقديس والتزكية وغسل الوقت الإنساني مما يخالطه كلما مرت ساعات وابتداؤه الروح كالنبات الأخضر ناضرا مطلولا مترطبا بالماء”. انتهى من (وحي القلم) للرافعي .

أرأيت كيف أن الوضوء عند الرافعي – رحمه الله- كما هو عند السلف الصالح إنما هو طهارة للنفس من الخبائث قبل أن يكون طهارة للجسم من الأوساخ؟ أو رأيت كيف أننا نحرم أنفسنا من لذائذ روحية كثيرة حين لا نرى في العبادات إلا هيئاتها الظاهرة وحركاتها البدنية دون أن نستشف ما وراء ذلك من معان روحية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى